بينما يشعر مهاجرون عرب جدد أنّ النمسا بلاد عنصرية، فإنّ مهاجرين أقدم يؤكدون أنّ للنمساويين شواغل بعيدة عن العنصرية تدفع بهم يميناً
لدى الأستاذ الجامعي السوري في العاصمة النمساوية فيينا محمد سعيد قباني رؤيته للاتجاه اليميني في النمسا وأوروبا، وهي الرؤية التي يختصرها بعبارة واحدة "ليست العنصرية وحدها مسؤولة عمّا يجري".
يأتي ذلك في ظلّ تصاعد اليمين المتطرف ونيله نصيباً لا بأس به من السلطة في العديد من الدول الأوروبية. وفي النمسا بالذات، فاز مرشح التوافق اليساري الليبرالي ألكسندر فان دير بيلين بانتخابات الرئاسة أوائل الشهر الجاري، بفارق ضئيل، على مرشح اليمين نوربرت هوفر. وهو فارق يفتح الباب واسعاً أمام نقاش هذا التصاعد اليميني. نقاش يمتد من النمساويين إلى المهاجرين وبينهم الكثير من العرب.
يتساءل المهاجر السوري عدنان سويقاتي: "أتتعبون أنفسكم حقاً في التفتيش عن عنصرية هذه البلاد، بينما العنصرية متفشية في البلدان العربية؟ ماذا تسمّون الدول التي رُفعت في مدنها يافطات تطلب من السوري عدم التجول بعد الساعة كذا؟". يتابع: "العنصرية ليست السبب الوحيد، فالخطاب الشعبوي في أوروبا ليس جديداً. وما يمارس في بعض دولنا أبشع، لكن لا يلقى ضوء كثير عليه".
عدنان ليس مهاجراً حديث العهد إلى أوروبا، بل مقيم فيها منذ عقود. قد يبدو بسيطاً بمهنته سائق أجرة في فيينا، لكنّه يرى في التخويف من الآخر أحد أسباب ما يسمّى عنصرية هنا. لكنّه يعترف أنّ ثمة تصاعداً لثقافة الانغلاق القومي، ما لم يكن في السابق. ويبرر: "هذا أمر طبيعي في سياق تطور هذا المجتمعات في مواجهة أزمات هوية أعمق من مجرد مجيء بضعة آلاف من المهاجرين إليها".
كان الظن بأنّ عاصمة سلوفاكيا، براتسلافا، والتي لا تبعد كثيراً عن وسط النمسا، ستقدم صورة أوضح عن سبب تركيز السياسيين هناك على العرب ورفضهم "استقبال أي مسلم". في براتسلافا يصعب كثيراً أن تجد مسؤولاً واحداً يتحدث إلى صحيفة عربية. برفقة غسان المنور، وهو مواطن منذ العهد التشيكوسلوفاكي، يجلس كريستوف الذي تعلم العربية في عدد من العواصم والمدن العربية كدمشق وعدن. يصل الاثنان إلى القناعة نفسها، كما هو الحال لدى سويقاتي. يقول المنور: "لدى الجيل الأوروبي الجديد سوق رائجة لمسألة الخوف وارتباك الهوية. إذا قطعت كلّ أراضي سلوفاكيا لن تجد نسبة ضئيلة حتى من العرب والمسلمين. هنا في براتسلافا عشرات ممن أقاموا فيها لعقود. هؤلاء من تيار يساري معين، وبالرغم من ذلك، لعب الإعلام المحلي دوراً في التخويف منهم". يقاطع كريستوف: "في الأصل لم يستقبل بلدنا طالبي لجوء كما ألمانيا والنمسا والسويد ليقال بأنّ هؤلاء هم السبب. المذهل هو إخضاع عقول المواطنين إلى مطرقة الإعلام الجهنمية والتصريحات السياسية التي تتخيل وضع جيراننا بما فيها من مهاجرين، وتقدمه على أنّه لدينا".
بالعودة إلى فيينا، وهي التي يأتي إليها كثير من العرب سائحين ومبتعثين، يبدو اللعب على وتر العنصرية واضحاً جداً. على طاولة في الحي العاشر، حيث يكثر الأتراك والعرب من جنسيات عديدة أبرزهم السوريون، لا يتردد سعدو في الاعتراف: "أنا شخصياً أمسكوا بي هنا، ولم تكن رغبتي أن أعيش في النمسا. هذا شعب عنصري ومعقد، وينتشر الفساد في الدوائر الرسمية". يختصر الشاب بعد أقل من عام على دخوله من المجر قراءته للشعب النمساوي بتلك العبارات التي تلاقي استهجاناً من بقية المشاركين في جلسة مع "العربي الجديد"، ومعظم هؤلاء كانوا من الطلاب الجامعيين في السنتين الأولى والثانية قبل أن يلجأوا إلى فيينا، فيما يكبرهم سعدو ببضع سنوات.
اقــرأ أيضاً
خالد خباز، من دمشق، ترك دراسة الأدب الإنكليزي في حلب يقاطع سعدو الذي يعيش معظم أفراد عائلته في ألمانيا: "هل أجبرك أحد أن تأتي إلى هنا؟ لماذا كلّما واجهت أنت وبعض الشباب هنا روتيناً بسيطاً تتهمون مجتمعاً بأكمله أنّه عنصري؟". يشرح خباز وجهة نظره لـ"العربي الجديد": "في النمسا هناك مأساة حقيقية لدى المهاجرين. في رأيي المتواضع حمل بعضهم توقعات كبيرة وصدم بواقع مختلف. لكنّهم للأسف لم يقوموا بشيء لتغيير ما هم فيه. صحيح أنّ القوانين مشددة في نواحٍ كثيرة ومنها لمّ الشمل، وأفهم أنّ أخانا سعدو ما زال ينتظر منذ بداية العام حلّ أوراق رسمية للمّ الشمل وهو أمر يزعجه، لكن، إن كنا نريد أن نفهم التوجه اليميني، فعلينا أيضاً أن نفهم ما يجري في هذه المجتمعات. الأمر ليس مرتبطاً بنا بل بهوية وثقافة جديدة تتشكل لدى الأوروبيين أنفسهم. لماذا ننسى مثلاً أنّ أكثر من نصف المجتمع رفض رئيساً يمينياً متطرفاً؟".
يتدخل الشاب التونسي عبد الكريم سويحلي المقيم منذ عشر سنوات في النمسا: "من المؤسف الاعتراف أنّ الجيل السابق من العرب في فيينا، وهذا ينطبق على بقية أوروبا، فشل في خلق مكوّن واحد على الأقل يشبه ما كوّنه الأتراك في الدمج، بالرغم من حساسية النمساويين تجاه تاريخهم مع العثمانيين، والذي يبقى تحت السطح". يتابع: "في غياب مشروع ذاتي لدى العرب لم يُعطَ الجيل الجديد إلّا ما حمله الجيل السابق معه. وهناك تغيير ما يجري لدى الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين العرب. فقد يصعب على كثيرين أن يفهموا أنّ مهاجرين عرباً من ضمن نسبة الـ47 في المائة التي صوّتت لمرشح يميني، مثلما صوّت عرب لدونالد ترامب في الولايات المتحدة. هؤلاء لم يصوّتوا وهم يفكرون بنا فحسب، فهم لا يعرفونني ولا يعرفون البقية. المجتمع النمساوي فيه أزمات كثيرة قد لا يفهمها من لا يقيم فيه".
يصل إلى فكرة أعمق تبعاً لأحاديث زملاء عمله في الفندقة النمساويين: "هناك تشوش كبير يعيشه جيل نمساوي شاب، وهناك مشاكل كبيرة لطبقة العمال والمزارعين. هؤلاء لا يرون في الاتحاد الأوروبي حلاً لتلك المشاكل". وحين يقطع حديثه شاب حول تمييز تعرض له، يبتسم سويحلي ويقول: "أترى؟ دائماً ما يجري التعميم انطلاقاً من حالة".
يتفق خباز معه ويضيف: "أحياناً حين أستمع إلى وصف بعضهم للنمسا، خصوصاً من حديثي العهد بالهجرة، أتخيل وكأنّي في سورية. باختصار، يريد بعضهم إقناعك بالأمور من وجهة نظره فقط. لكن، أعود وأقول إنّنا كمهاجرين عرب وسوريين تحديداً مشتتون وضائعون، فلا وجود لمؤسسات فاعلة بيننا تصوّب اتجاهاتنا".
لدى الأستاذ الجامعي السوري في العاصمة النمساوية فيينا محمد سعيد قباني رؤيته للاتجاه اليميني في النمسا وأوروبا، وهي الرؤية التي يختصرها بعبارة واحدة "ليست العنصرية وحدها مسؤولة عمّا يجري".
يأتي ذلك في ظلّ تصاعد اليمين المتطرف ونيله نصيباً لا بأس به من السلطة في العديد من الدول الأوروبية. وفي النمسا بالذات، فاز مرشح التوافق اليساري الليبرالي ألكسندر فان دير بيلين بانتخابات الرئاسة أوائل الشهر الجاري، بفارق ضئيل، على مرشح اليمين نوربرت هوفر. وهو فارق يفتح الباب واسعاً أمام نقاش هذا التصاعد اليميني. نقاش يمتد من النمساويين إلى المهاجرين وبينهم الكثير من العرب.
يتساءل المهاجر السوري عدنان سويقاتي: "أتتعبون أنفسكم حقاً في التفتيش عن عنصرية هذه البلاد، بينما العنصرية متفشية في البلدان العربية؟ ماذا تسمّون الدول التي رُفعت في مدنها يافطات تطلب من السوري عدم التجول بعد الساعة كذا؟". يتابع: "العنصرية ليست السبب الوحيد، فالخطاب الشعبوي في أوروبا ليس جديداً. وما يمارس في بعض دولنا أبشع، لكن لا يلقى ضوء كثير عليه".
عدنان ليس مهاجراً حديث العهد إلى أوروبا، بل مقيم فيها منذ عقود. قد يبدو بسيطاً بمهنته سائق أجرة في فيينا، لكنّه يرى في التخويف من الآخر أحد أسباب ما يسمّى عنصرية هنا. لكنّه يعترف أنّ ثمة تصاعداً لثقافة الانغلاق القومي، ما لم يكن في السابق. ويبرر: "هذا أمر طبيعي في سياق تطور هذا المجتمعات في مواجهة أزمات هوية أعمق من مجرد مجيء بضعة آلاف من المهاجرين إليها".
هنا يتجمع العرب والمهاجرون في وسط فيينا (العربي الجديد) |
كان الظن بأنّ عاصمة سلوفاكيا، براتسلافا، والتي لا تبعد كثيراً عن وسط النمسا، ستقدم صورة أوضح عن سبب تركيز السياسيين هناك على العرب ورفضهم "استقبال أي مسلم". في براتسلافا يصعب كثيراً أن تجد مسؤولاً واحداً يتحدث إلى صحيفة عربية. برفقة غسان المنور، وهو مواطن منذ العهد التشيكوسلوفاكي، يجلس كريستوف الذي تعلم العربية في عدد من العواصم والمدن العربية كدمشق وعدن. يصل الاثنان إلى القناعة نفسها، كما هو الحال لدى سويقاتي. يقول المنور: "لدى الجيل الأوروبي الجديد سوق رائجة لمسألة الخوف وارتباك الهوية. إذا قطعت كلّ أراضي سلوفاكيا لن تجد نسبة ضئيلة حتى من العرب والمسلمين. هنا في براتسلافا عشرات ممن أقاموا فيها لعقود. هؤلاء من تيار يساري معين، وبالرغم من ذلك، لعب الإعلام المحلي دوراً في التخويف منهم". يقاطع كريستوف: "في الأصل لم يستقبل بلدنا طالبي لجوء كما ألمانيا والنمسا والسويد ليقال بأنّ هؤلاء هم السبب. المذهل هو إخضاع عقول المواطنين إلى مطرقة الإعلام الجهنمية والتصريحات السياسية التي تتخيل وضع جيراننا بما فيها من مهاجرين، وتقدمه على أنّه لدينا".
بالعودة إلى فيينا، وهي التي يأتي إليها كثير من العرب سائحين ومبتعثين، يبدو اللعب على وتر العنصرية واضحاً جداً. على طاولة في الحي العاشر، حيث يكثر الأتراك والعرب من جنسيات عديدة أبرزهم السوريون، لا يتردد سعدو في الاعتراف: "أنا شخصياً أمسكوا بي هنا، ولم تكن رغبتي أن أعيش في النمسا. هذا شعب عنصري ومعقد، وينتشر الفساد في الدوائر الرسمية". يختصر الشاب بعد أقل من عام على دخوله من المجر قراءته للشعب النمساوي بتلك العبارات التي تلاقي استهجاناً من بقية المشاركين في جلسة مع "العربي الجديد"، ومعظم هؤلاء كانوا من الطلاب الجامعيين في السنتين الأولى والثانية قبل أن يلجأوا إلى فيينا، فيما يكبرهم سعدو ببضع سنوات.
خالد خباز، من دمشق، ترك دراسة الأدب الإنكليزي في حلب يقاطع سعدو الذي يعيش معظم أفراد عائلته في ألمانيا: "هل أجبرك أحد أن تأتي إلى هنا؟ لماذا كلّما واجهت أنت وبعض الشباب هنا روتيناً بسيطاً تتهمون مجتمعاً بأكمله أنّه عنصري؟". يشرح خباز وجهة نظره لـ"العربي الجديد": "في النمسا هناك مأساة حقيقية لدى المهاجرين. في رأيي المتواضع حمل بعضهم توقعات كبيرة وصدم بواقع مختلف. لكنّهم للأسف لم يقوموا بشيء لتغيير ما هم فيه. صحيح أنّ القوانين مشددة في نواحٍ كثيرة ومنها لمّ الشمل، وأفهم أنّ أخانا سعدو ما زال ينتظر منذ بداية العام حلّ أوراق رسمية للمّ الشمل وهو أمر يزعجه، لكن، إن كنا نريد أن نفهم التوجه اليميني، فعلينا أيضاً أن نفهم ما يجري في هذه المجتمعات. الأمر ليس مرتبطاً بنا بل بهوية وثقافة جديدة تتشكل لدى الأوروبيين أنفسهم. لماذا ننسى مثلاً أنّ أكثر من نصف المجتمع رفض رئيساً يمينياً متطرفاً؟".
يتدخل الشاب التونسي عبد الكريم سويحلي المقيم منذ عشر سنوات في النمسا: "من المؤسف الاعتراف أنّ الجيل السابق من العرب في فيينا، وهذا ينطبق على بقية أوروبا، فشل في خلق مكوّن واحد على الأقل يشبه ما كوّنه الأتراك في الدمج، بالرغم من حساسية النمساويين تجاه تاريخهم مع العثمانيين، والذي يبقى تحت السطح". يتابع: "في غياب مشروع ذاتي لدى العرب لم يُعطَ الجيل الجديد إلّا ما حمله الجيل السابق معه. وهناك تغيير ما يجري لدى الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين العرب. فقد يصعب على كثيرين أن يفهموا أنّ مهاجرين عرباً من ضمن نسبة الـ47 في المائة التي صوّتت لمرشح يميني، مثلما صوّت عرب لدونالد ترامب في الولايات المتحدة. هؤلاء لم يصوّتوا وهم يفكرون بنا فحسب، فهم لا يعرفونني ولا يعرفون البقية. المجتمع النمساوي فيه أزمات كثيرة قد لا يفهمها من لا يقيم فيه".
يصل إلى فكرة أعمق تبعاً لأحاديث زملاء عمله في الفندقة النمساويين: "هناك تشوش كبير يعيشه جيل نمساوي شاب، وهناك مشاكل كبيرة لطبقة العمال والمزارعين. هؤلاء لا يرون في الاتحاد الأوروبي حلاً لتلك المشاكل". وحين يقطع حديثه شاب حول تمييز تعرض له، يبتسم سويحلي ويقول: "أترى؟ دائماً ما يجري التعميم انطلاقاً من حالة".
يتفق خباز معه ويضيف: "أحياناً حين أستمع إلى وصف بعضهم للنمسا، خصوصاً من حديثي العهد بالهجرة، أتخيل وكأنّي في سورية. باختصار، يريد بعضهم إقناعك بالأمور من وجهة نظره فقط. لكن، أعود وأقول إنّنا كمهاجرين عرب وسوريين تحديداً مشتتون وضائعون، فلا وجود لمؤسسات فاعلة بيننا تصوّب اتجاهاتنا".