كغيرها من النساء السوريات العاديات تعيش "أم إبراهيم" أنوثتها بكثير من البساطة والوجع في آن، هي المهجرة من بيتها، تقسم قلبها، منذ أول يوم نزوح، بين ولدها الذي مازال يخدم في صفوف جيش النظام، وبين بقية أبنائها الذين انخرطوا في الثورة حد الاعتقال والهروب من البلد. تتجنب أن تفكر بمقدار الانقسام أو ما يخطر لبعض أن يسميه "ازدواجية"، فأمام أمومتها هي أعجز عن المفاضلة بين ولد مؤيد وآخر ثائر.
ليس صادماً أنها لا تتابع الأخبار، إنها لا تعير اهتماماً لما تحقق من مطالب المرأة حول العالم، فلطالما كان هذا النمط من النساء خارج كادر النشاط النسوي، باستثناء دورات محو الأمية، التي كان ينظمها الاتحاد النسائي، ويوزع في نهايتها أكياس التمر والسكر على المشاركات، في تكريس فاقع لاقتصار وجودهن، حتى في مكافأة علمية، على توصيف "ربة المنزل".
تفكر "أم إبراهيم" فقط كيف تقنع نفسها بالعيش داخل "علبة الكبريت"، كما اعتادت أن تصف الشقق السكنية التي لا تمت إلى بيتها الريفي بصلة شبه، ولا تتيح لها مراقبة طلوع الشمس من شرفة شرقية متسعة.
في الثامنة والخمسين، تلف شعرها الطويل الأشيب، تجمعه فوق رأسها باعتيادية بالغة الإتقان، دون الحاجة للوقوف أمام المرآة ولو دقيقة، تسرق الوقت لتتفرد بذكرياتها فقط.
قبل ثلاثة أعوام من هذا التاريخ، كانت تتحضر للنوم بعد يوم طويل قضته وهي توزع الفل والزنبق البلدي في أكثر من أصيص، كعادتها كل ربيع. تنظف حوض الغاردينيا بعناية بالغة، تحفر التراب قليلاً حول شجرات الجوري، وتستعد لبهجة صيفية تصنعها بيديها.
لم يكن لها عهد بصوت الرصاص، بالخوف على أبنائها من الموت بشظية، خلال عام 2011، امتنعت عن تناول الطعام في كل مرة تزامن فيها موعد الغداء أو العشاء مع نشرة أخبار تنقل صور القتلى.
في العام التالي، بات كل شيء مختلفاً، مدينتها محاصرة، قصف يومي، وبداية نزوح غير محدد الوجهة للأهل والجيران، يعقبه سكون ووحشة غير مبررة من وجهة نظرها، هي التي لم تغادر حدود قريتها العامرة بالوجوه منذ ثلاثين عاماً.
كانت المشاعر شديدة الاختلاط، الحي فارغ تقريباً، يحل الليل ثقيلاً، ويصير الخوف مبرراً، لا زيارات مسائية، لا تلفاز، وفي الكثير من الأحيان، لا ضوء، وحتى وإن كان التيار موجوداً، فالضوء يجلب احتمال الاستهداف بالقصف.
في الثالث من أيار 2012، حسم القرار بالنزوح، كان صعباً عليها تقبل فكرة الرحيل عن منزل وضعت ابنها الثالث، وهي ترفع الحجارة لزوجها، يبني سوره بإسمنت مجبول بعطرها وفرح عينيها.
صباح الخامس من أيار، حملوا كيسين صغيرين، وتوجهوا بكثير من الخوف نحو الحاجز المتمركز على مدخل المدينة، كان ممنوعاً على الأسر التي تضم أطفالاً أن تغادر، كذلك الأسر التي تحمل الكثير من المتاع. مع زوجها السبعيني، عمها الذي كاد ينهي عامه المئة، وابنتها، عبرت الحاجز بقلب خافق وكفين متعرقتين، حتى بلغت هذا الأمان الغريب. هنا، ودعت زوجها إلى الأبد، وها هو العام الثاني ينقضي، وهي الغريبة لا تستدل على طريق قبره لتضع قليلاً من الآس إلا بمساعدة دليل. هنا ودعت أبناءها واحداً تلو الآخر، إلى منافٍ لا يلغي قربُها على الخريطة تعسُّر بلوغِها.
في الليل، تعاود "أم إبراهيم" تعلُّمَ العد، بتذكُّرِ أبنائها، سبعة لا ترى منهم إلا ابنتها الكبرى، التي فقدت خلال الثورة زوجها وابنها الوحيد، معتقلَين مفقودَين، تهدهدها كل ليلة كما فعلت قبل 40 عاماً، تنشد للأولياء ككل أبناء الريف، تتقرب عبرهم إلى المولى، عله وسط كل ما يتلقاه من دعوات يلتفت إلى قلب ابنتها ببعض البرد، ويترك لها من فضله برداً لقلبها الذي يخاله الناس واحة، وهي الأم الملتاعة تغلق صدرها سراً على حرائق من الشوق.
تتداول أيام الثورة السورية وجولاتها، وهي هناك، زوجة شهيد، أم معتقلين فارين، وجدة مفقود، تتجنب أن تفقد، سهواً، بطاقتها الشخصية، أو الانتخابية، فهنا، وبعيداً عن كل ما تحققه نساء الصفوف الأولى، ما زال عليها انتخاب بشار الأسد لو حلت دورة انتخابية، وما زال عليها كذلك التصويت في انتخابات مجلس الشعب.
ليست في كوكب آخر، هي وسط الحدث، في عمقه، أكثر من كل اللواتي يحسبن أنهن يعشنه
ويمثلنه.
(سورية)