في 26 مارس/ آذار 1979 تم توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في العاصمة الأميركية واشنطن في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد التي تم ابرامها في العام 1978. تضمنت المعاهدة الاعتراف المتبادل بين البلدين، ووقف حالة الحرب التي كانت قائمة منذ الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، وتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية والزراعية والصحية والثقافية وغيرها بين مصر ودولة الاحتلال.
ساعتها، تصور البعض في تل أبيب وغيرها من العواصم الغربية أن عمليات تبادل تجاري واقتصادي ومالي وسياحي نشطة ستتم بين الطرفين عقب التطبيع، وأن أطنانا من السلع الإسرائيلية ستغرق الأسواق والمتاجر المصرية، وأن المستهلك المصري سيقبل على شراء منتجات دولة الاحتلال، وأن إعلانات هبوعليم ولئومي ومزراحي تفحوت وغيرها من البنوك الإسرائيلية ستعلو أسطح المباني المواجهة لمقر جامعة الدول العربية في ميدان التحرير بالقاهرة.
لكن هذه الأوهام وغيرها ذهبت أدراج الرياح، ودخل الطرفان، المصري والإسرائيلي، في سلام اقتصادي وتجاري ومالي بارد جداً، وفي بعض الأوقات اقتصر التعاون المحدود على رجال أعمال مرتبطين بالسلطة الحاكمة في البلدين، واتفاقيات شبه رسمية، مثل الكويز، أو تصدير الغاز المصري لدولة الاحتلال قبل ثورة 25 يناير، أو صفقة استيراد الغاز الإسرائيلي التي تم إبرامها قبل عامين ولمدة 10 سنوات.
وفي التسعينيات من القرن الماضي حاولت إسرائيل الاستحواذ على أحد البنوك المصرية، وهو بنك مصر أميركا الدولي، عبر الدفع برجال أعمال عرب تربطهم علاقات قوية بدولة الاحتلال، إلا أن البنك المركزي المصري نجح ساعتها في اكتشاف الخديعة وإلغاء الصفقة رغم إتمامها مع المشترين.
كما حاولت تل أبيب فتح فروع لبنوك وصرافات وشركات إسرائيلية في مصر خلال فترة حكم حسني مبارك، لكن الطلب قوبل بالرفض لأسباب قيل وقتها إنها أمنية بحتة، ونجحت دولة الاحتلال بالكاد في تسيير خط طيران بين القاهرة وتل أبيب، واستقطاب قلة من الشباب المصريين للعمل في مزارعها ومصانعها.
ورغم مرور أكثر من 40 عاما على توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، إلا أن أي رجل أعمال مصري، مهما بلغت قوته الاقتصادية وعلاقاته بالسلطة ونفوذه السياسي، لا يستطع أن يجاهر بالتعامل مع دولة الاحتلال، تجارة واستثماراً وصفقات، بل إنه عندما يرغب أحد هؤلاء من كبار المستثمرين بضرب منافس له يشيع أنه يتعامل مع إسرائيل وأنه يبرم صفقات تجارية معها في السر، وهذا كاف للقضاء على سمعة المنافس في السوق المصرية وضرب منتجاته ومصانعه.
وقبل نحو 10 سنوات حاول منافسو أحمد عز، إمبراطور الحديد المصري وأمين التنظيم في الحزب الحاكم وقتها، ضربه في أسواق المنطقة والتأثير على مبيعاته من الحديد عبر إطلاق شائعة تصديره الحديد لدولة الاحتلال للمشاركة في بناء الجدار العازل.
وعندما أبرمت شركة مصرية محسوبة على جهات رسمية صفقة استيراد الغاز الإسرائيلي في العام 2018 بقيمة تقترب من 19.5 مليار دولار، رفضت أغلبية المصريين الصفقة واعتبرتها نوعا من التطبيع الاجباري المفروض عليهم، بل وهددت فئات الشعب ونقاباته وأحزابه بمقاطعة منتجات المصانع التي تستهلك الغاز المستورد من دولة الاحتلال.
تكرر المشهد في الأردن رغم توقيع المملكة في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1994 معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، أو ما تسمى "معاهدة وادي عربة"، وإعلان البلدين عن نهاية عصر الحروب، وتبادل السفارات.
ورغم التطبيع الرسمي بين الحكومتين، إلا أن الشعب الأردني لا يزال يرفض وبشدة إجراء أي معاملات اقتصادية أو صفقات تجارية مع دولة الاحتلال، بل ويهاجم الحكومة بشدة إذا أقدمت على مثل هذه الخطوة.
ظهر ذلك في أمور عدة، أخرها صفقة استيراد الغاز الإسرائيلي التي أبرمتها الحكومة الأردنية قبل عامين بقيمة 10 مليارات دولار ولمدة 15 سنة، ولاقت رفضاً شديداً من قبل الرأي العام حتى الآن.
وما يميز الأردن هو أن البرلمان والقوى السياسية ترفض وبشدة التطبيع مع الكيان الصهيوني بكل اشكاله باعتباره لا يزال مغتصبا للأراضي العربية في فلسطين وسورية ولبنان، بل وهدد رئيس البرلمان الأردني، عاطف الطراونة، أكثر من مرة بسحب الثقة من الحكومة في حال إصرارها على المضي في صفقة استيراد الغاز.
الآن، جاء الدور على الإمارات التي أعلنت عن تطبيع العلاقات كاملة مع دولة الاحتلال، وألغت قبل يومين قانون مقاطعة إسرائيل، "بما يسمح بعقد اتفاقيات تجارية أو مالية وغيرها مع هيئات أو أفراد مقيمين في إسرائيل أو منتمين إليها بجنسيتهم أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها أينما كانوا، وذلك على الصعيد التجاري أو العمليات المالية أو أي تعامل آخر أياً كانت طبيعته".
وطبقا للقرار الإماراتي الجديد، فإنه سيتم السماح بدخول أو تبادل أو حيازة البضائع والسلع والمنتجات الإسرائيلية بكل أنواعها في الإمارات والاتجار بها.
السؤال هنا: هل سيكرر الشعب الإماراتي تجربة الشعبين المصري والأردني الرافضين بشدة إقامة أي علاقات اقتصادية أو تجارية أو استثمارية أو مالية ومصرفية مع الكيان الصهيوني رغم إقامة علاقات سياسية، وإبرام اتفاقية تنص على التطبيع الكامل بين الدولتين؟، أم أن الأموال الإماراتية ومليارات أبو ظبي ستتدفق على خزانة واقتصاد ومصانع وشركات دولة الاحتلال، وفي المقابل ستتدفق السلع والمنتجات الإسرائيلية لتغرق الأسواق الإماراتية وتتفوق على نظيرتها الصينية؟
الإجابة عن السؤال تحدد إلى حد كبير، ما إذا كان الشعب الإماراتي مع التطبيع مع دولة الاحتلال، أم أنه مرغم عليه كما حال الشعبين المصري والأردني.