30 ديسمبر 2021
عن السلطة والهزيمة وهشام الحرامي وأفكار أخرى
ـ السلطة بنت كلب، مدهشة في تأثيرها الفتاك، خصوصاً على "المخوّخين من جواهم" والممتلئين بالمشاكل والعقد النفسية، والتي يظن البعض أنها غير موجودة بالضرورة لدى من يرون أنه نظيف في سلوكه وشريف في مواقفه، لكنهم حين يقترب من مواقع السلطة، يندهشون من قيام السلطة بإيقاظ الوحش الذي يوجد بداخل كل إنسان، على رأي الفقيد إميل زولا، ولذلك لم نتداول عبر الأجيال من فراغ تلك الحكمة المنسوبة للإمام علي "صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه الناس، وهو لمركوبه أهيب"، ومع ذلك ـ في هذه السنوات العجاف التي لا تمضي ولا تمر بل تواصل استنساخ انحطاطها بكل همة ـ رأينا العجب من بعض من نزعت صحبتهم للسلطان من قلوبهم وعقولهم كل مظاهر التهيب من انقلاب الأحوال، وحرمتهم من أبسط قدرات قراءة الواقع وإدراكه، فأصبحوا لا يهابون صحبة السلطان ورجاله أبداً، وتوقفوا عن وضع خطوط رجعة لأنفسهم، كما كان يفترض بأناس من ذوي العقول والبصائر، ومثلما كانوا من قبل لا يتوقفون عن الاستئساد على الحاكم، أصبحوا لا يتوقفون عن الاستئساد على المحكومين وتبرير التوحش ضدهم.
فيما مضى كانت ألسنة هؤلاء سليطة ضد صاحب السلطة، فكان الناس يتقبلون كل ما يرد منهم من تجاوزات بوصفه شجاعة في الحق، لكن حين أصبحوا في صحبة صاحب السلطة، ولا أقول في خدمته، فهم لا يصدقون ولن يصدقوا أنهم أصبحوا خدماً له، لأن ذلك سيفقدهم فاعليتهم في خدمته، ظلت ألسنتهم سليطة كما هي، وظلت قدرتهم على التجاوز حاضرة، لكنهم يطلقونها فقط على من لا سلطة له، فيتوحشون في مهاجمة من لا يمتلكون فرصة للرد على توحشهم، إما لأنهم مستلبو الحرية أو محاصرون في مساحات إعلامية تم تهميشها وتحجيم أثرها، مع أنهم لا يجرؤون على توجيه لفظ مما كانوا يكتبونه ضد مبارك ورجاله، نحو أصغر ضابط في الأجهزة السيادية التي تسيطر على الإعلام، ولست بالطبع محتاجاً لأن أذكر لك نماذج لهؤلاء، لأن هدف كلامي ليس النميمة، ولو أن النميمة في حد ذاتها لا تحتاج إلى هدف.
من المثير للعجب أننا شاهدنا كثيراً من هؤلاء يتكسبون من الحديث عن عظمة الشعب المصري واستثنائيته وقدراته الخارقة المذهلة للكون والتاريخ، بينما كانوا يتكسبون في السابق من الحديث عن تحقير الشعب المصري ووصمه بصفات سلبية مبالغ فيها توجد في كل الشعوب، لكنهم كانوا يزعمون أنها موجودة فيه وحده، بعض هؤلاء من الكتاب والفنانين الذين بنوا أمجادهم الشخصية على السخرية من الأفكار الوطنية المتعصبة، رأيناهم خلال السنوات الماضية يغالون في ترويج تلك الأفكار، وبعد أن كانوا يفاخرون بانتمائهم إلى القلة المندسة التي ترفض فكرة الإجماع الساحق، أصبحوا خلال السنوات الماضية من أسياخ تيار (افرم ياريس) الذي يطالب بسحق كل من يختلف مع ما تراه السلطة، بزعم الحفاظ على الدولة من الانهيار، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك، لولا رهانهم الصائب على ضعف ذاكرة الغالبية العظمى من الناس الذين لن يمتلكوا القدرة ولا الرغبة على الذهاب إلى الأرشيف المقروء أو المرئي، لكي يذكروا ذلك الكاتب أو الفنان بسخريته السابقة من أحاديث المؤامرة الخارجية والأجندات الأجنبية، وما إلى ذلك من شعارات تستغلها السلطات المستبدة دائما للنفاذ بجرائمها من المحاسبة، ولو لم تكن "آفة حارتنا النسيان" لما أفلت أمثال هؤلاء بأفعالهم، ولما أفلت الذين يلونهم والذين يلونهم إلى يوم الدين.
ـ الذين يدأبون من حين لآخر على القول بأن ما يحدث لنا الآن سيعيد هزيمة يونيو 67 من جديد، ينسون أن عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، وأن ما حدث لن يتكرر، ربما تتصور أنني سأكتب الآن أنه لن يتكرر، بعد أن تضاءلت بحمد الله مساحات الصحاري الشاسعة التي يمكن أن يموت الضباط والجنود على رمالها الحارقة وهم يهربون من مدافع الطائرات الإسرائيلية، وأصبح لدينا قرى سياحية يمكن أن يأوي إليها الضباط والجنود، أرجوك اعتذر لي إذا ظننت أنني أفكر بهذا الابتذال، فما أريد قوله هو أن إسرائيل ليست بحاجة إلى أن تهزمنا عسكرياً، فقد ثبت لها أنها عندما تفعل، فإنها تستفز فينا روح التحدي والثأر لكرامتنا، ولذلك من مصلحتها أن تتركنا سعداء بأنفسنا وفخورين بأننا أبهرنا العالم وحيرنا شعوب الأرض وتحدينا القدر وفشخنا المؤامرات وغيرنا مجرى الكون، فمجرد استمرارنا في الاعتقاد بكل تلك الخزعبلات يكفي لتأمين وجود إسرائيل مدى الحياة في أفضل حال.
ـ أعترف أنني كنت مخطئاً حين رأيت في عودة الدولة البوليسية الفاشية بمباركة شعبية، فرصة ذهبية للأدب المصري، لكي ينتعش بعد طول ركود، أو على الأقل هذا ما قلته قبل خمس سنوات لصحافي سألني عن رأيي في مستقبل الأدب بعد حكم السيسي، فقلت له خالطاً الجد بالهزل إن علينا أن ننظر إلى النصف الفارغ من الكوب المملوء بالدم، فربما كانت لدينا أخيراً فرصة للتخلص من موضة الروايات الزاعقة التي تظن محاكاة الواقع جرأة، وربما زادت وطأة الرقابة من التحدي الذي يواجه الأدباء والفنانين، ليبدعوا أعمالاً تبرع في التحايل على الرقابة، وتوصل كل ما تريده للقارئ بذكاء ومهارة، وربما قدمنا طفرة في أدب العبث بكافة تنويعاته، وأعدنا إنعاش الأدب التاريخي الذي يبرع في التلقيح على أوضاع العصر دون أن يمسك ضابط على كتابه شيء، ويمكن من أجل تحقيق هذه الأهداف أن نحتمل عودة بعض الروايات الرمزية الرديئة، واستنساخ أفكار ستينية عن عمدة القرية المستبد الذي يغتصب فتيات القرية وفتيانها بمساعدة شيخ الجامع وقسيس الكنيسة وشيخ الغفر والصراف المرابي.
أعترف أنني كنت مخطئاً في تصور كل ذلك بحسن نية، لأنني نسيت أن كتابة أي نوع من الأدب، يستلزم وجود مساحة ما للتنفس، وأن أي كاتب يحتاج للتخلص من رائحة الخراء التي تعم الأجواء، قبل أن يفكر في شيء ما ليكتبه، ومن يدري ربما أكون مخطئاً هذه المرة أيضاً، سيسعدني ذلك.
ـ كان مزاجي مضبوطاً في ذلك اليوم، فلم أناقش ذلك الأستاذ الجامعي في الهندسة بغضب، بعد أن لامني على تكرار نشر أخبار المعتقلين وشكايات أهاليهم على صفحتي في الفيسبوك، لأنها على حد قوله تنقل له طاقة سلبية ليس بحاجة إليها، قلت له بهدوء إن عليه أن يتجاهل صفحتي تماماً، ويتذكر أن نشر أخبار المعتقلين ينقل لأهالي المعتقلين طاقة إيجابية هم أيضاً بحاجة إليها لتعينهم على الحياة، وأشهد له أنه تقبل الإجابة برحابة صدر.
كنا يومها في السنة الأولى من حكم السيسي، وأخذنا الحديث عن أحوال البلاد والعباد، إلى سيرة التصريح الذي قال فيه السيسي إنه لو حكم مصر سيرى المصريون العجب "تطبيقاً للحديث القدسي وعزتي وجلالي لأرزقن من لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيل"، فقلت له إن ذلك التصريح لم يضحكني، بل أخافني لأنه جعلني أشعر أننا أمام حالة سيكوباتية عتيدة لن يكون التعامل معها بالساهل، في بلد لا تنقصها الآلام والدماء، إلا إذا كان السيسي قبل أن يطلق ذلك التصريح، قد حصل - عبر مصادره الخاصة التي تكفلها له الأجهزة السيادية - على ما يثبت وجود اكتشافات مهولة من الماس الخام واليورانيوم والبلاتينيوم وما لا أعرف اسمه من المعادن النفيسة.
ما زلت أذكر كيف فاجأني رد الأستاذ الجامعي على ما قلته، حين قال لي إن ذلك التصريح أصابه بالفرحة، لأنه كان يؤكد على حرمان السيسي لنفسه من طريق الحلول الوسط، منذ اختار القفز على كرسي الحكم بقرار طلب التفويض وما تلاه، وبالتالي فقد أصبح أمامه طريقان: إما أن ينجح بسرعة أو أن يفشل بسرعة، وفي الحالتين ستستفيد مصر، على عكس ما كان سيحدث لو كان السيسي ذكياً ومهد لنفسه طريقاً وسطاً، مما كان يعني أن معاناة المصريين ستطول بشكل لا تحتمله البلاد التي عانت من مرارات مثل ذلك الطريق خلال العقود الثلاثة التي حكمها مبارك، ثم أضاف محدثي قائلاً "طيب لو نجح السيسي بسرعة في حل مشاكل البلد، لا أعتقد إن حد فينا يكره البلد تبقى أحسن، ولو فشل بسرعة وأياً كان الثمن هيبقى الشعب مجبر يفوق من أوهامه ويبدأ يعالج مشاكله صح".
قال الرجل كل ذلك بهدوء وبابتسامة واثقة، في الوقت الذي كنت أستمع إليه متقمصاً شخصية هشام الحرامي وأنا أردد بداخلي عبارات مثل "إنت إيجابي ومالكش عازة أصلاً" - راجع الإنترنت لمزيد من التعرف إلى أبعاد نموذج هشام الحرامي - لكني مع ذلك وجدت في ما قاله حلاً سحرياً للخروج من مناقشات عبثية كنت أضطر لخوضها في العامين الأولين من حكم السيسي، قبل أن يتضح أن علاج الإيدز بكفتة عبد العاطي لم يكن صدفة بل كان أسلوب حكم، حيث كنت أنهي كل مناقشة مع أصدقائي من مهاويس السيسي بتكرار عبارة "هو يا إما ينجح بسرعة يا إما يفشل بسرعة وفي الحالتين مصر مستفيدة"، وللأسف لم تجمعني الظروف ثانية بذلك الأستاذ الجامعي لأسأله هل ما زال محتفظاً بتفاؤله، أم أنه بعد أن رأى كل ما جرى لمصر، أصبح يميل إلى اتباع منهج هشام الحرامي في التفكير.
فيما مضى كانت ألسنة هؤلاء سليطة ضد صاحب السلطة، فكان الناس يتقبلون كل ما يرد منهم من تجاوزات بوصفه شجاعة في الحق، لكن حين أصبحوا في صحبة صاحب السلطة، ولا أقول في خدمته، فهم لا يصدقون ولن يصدقوا أنهم أصبحوا خدماً له، لأن ذلك سيفقدهم فاعليتهم في خدمته، ظلت ألسنتهم سليطة كما هي، وظلت قدرتهم على التجاوز حاضرة، لكنهم يطلقونها فقط على من لا سلطة له، فيتوحشون في مهاجمة من لا يمتلكون فرصة للرد على توحشهم، إما لأنهم مستلبو الحرية أو محاصرون في مساحات إعلامية تم تهميشها وتحجيم أثرها، مع أنهم لا يجرؤون على توجيه لفظ مما كانوا يكتبونه ضد مبارك ورجاله، نحو أصغر ضابط في الأجهزة السيادية التي تسيطر على الإعلام، ولست بالطبع محتاجاً لأن أذكر لك نماذج لهؤلاء، لأن هدف كلامي ليس النميمة، ولو أن النميمة في حد ذاتها لا تحتاج إلى هدف.
من المثير للعجب أننا شاهدنا كثيراً من هؤلاء يتكسبون من الحديث عن عظمة الشعب المصري واستثنائيته وقدراته الخارقة المذهلة للكون والتاريخ، بينما كانوا يتكسبون في السابق من الحديث عن تحقير الشعب المصري ووصمه بصفات سلبية مبالغ فيها توجد في كل الشعوب، لكنهم كانوا يزعمون أنها موجودة فيه وحده، بعض هؤلاء من الكتاب والفنانين الذين بنوا أمجادهم الشخصية على السخرية من الأفكار الوطنية المتعصبة، رأيناهم خلال السنوات الماضية يغالون في ترويج تلك الأفكار، وبعد أن كانوا يفاخرون بانتمائهم إلى القلة المندسة التي ترفض فكرة الإجماع الساحق، أصبحوا خلال السنوات الماضية من أسياخ تيار (افرم ياريس) الذي يطالب بسحق كل من يختلف مع ما تراه السلطة، بزعم الحفاظ على الدولة من الانهيار، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك، لولا رهانهم الصائب على ضعف ذاكرة الغالبية العظمى من الناس الذين لن يمتلكوا القدرة ولا الرغبة على الذهاب إلى الأرشيف المقروء أو المرئي، لكي يذكروا ذلك الكاتب أو الفنان بسخريته السابقة من أحاديث المؤامرة الخارجية والأجندات الأجنبية، وما إلى ذلك من شعارات تستغلها السلطات المستبدة دائما للنفاذ بجرائمها من المحاسبة، ولو لم تكن "آفة حارتنا النسيان" لما أفلت أمثال هؤلاء بأفعالهم، ولما أفلت الذين يلونهم والذين يلونهم إلى يوم الدين.
ـ الذين يدأبون من حين لآخر على القول بأن ما يحدث لنا الآن سيعيد هزيمة يونيو 67 من جديد، ينسون أن عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، وأن ما حدث لن يتكرر، ربما تتصور أنني سأكتب الآن أنه لن يتكرر، بعد أن تضاءلت بحمد الله مساحات الصحاري الشاسعة التي يمكن أن يموت الضباط والجنود على رمالها الحارقة وهم يهربون من مدافع الطائرات الإسرائيلية، وأصبح لدينا قرى سياحية يمكن أن يأوي إليها الضباط والجنود، أرجوك اعتذر لي إذا ظننت أنني أفكر بهذا الابتذال، فما أريد قوله هو أن إسرائيل ليست بحاجة إلى أن تهزمنا عسكرياً، فقد ثبت لها أنها عندما تفعل، فإنها تستفز فينا روح التحدي والثأر لكرامتنا، ولذلك من مصلحتها أن تتركنا سعداء بأنفسنا وفخورين بأننا أبهرنا العالم وحيرنا شعوب الأرض وتحدينا القدر وفشخنا المؤامرات وغيرنا مجرى الكون، فمجرد استمرارنا في الاعتقاد بكل تلك الخزعبلات يكفي لتأمين وجود إسرائيل مدى الحياة في أفضل حال.
ـ أعترف أنني كنت مخطئاً حين رأيت في عودة الدولة البوليسية الفاشية بمباركة شعبية، فرصة ذهبية للأدب المصري، لكي ينتعش بعد طول ركود، أو على الأقل هذا ما قلته قبل خمس سنوات لصحافي سألني عن رأيي في مستقبل الأدب بعد حكم السيسي، فقلت له خالطاً الجد بالهزل إن علينا أن ننظر إلى النصف الفارغ من الكوب المملوء بالدم، فربما كانت لدينا أخيراً فرصة للتخلص من موضة الروايات الزاعقة التي تظن محاكاة الواقع جرأة، وربما زادت وطأة الرقابة من التحدي الذي يواجه الأدباء والفنانين، ليبدعوا أعمالاً تبرع في التحايل على الرقابة، وتوصل كل ما تريده للقارئ بذكاء ومهارة، وربما قدمنا طفرة في أدب العبث بكافة تنويعاته، وأعدنا إنعاش الأدب التاريخي الذي يبرع في التلقيح على أوضاع العصر دون أن يمسك ضابط على كتابه شيء، ويمكن من أجل تحقيق هذه الأهداف أن نحتمل عودة بعض الروايات الرمزية الرديئة، واستنساخ أفكار ستينية عن عمدة القرية المستبد الذي يغتصب فتيات القرية وفتيانها بمساعدة شيخ الجامع وقسيس الكنيسة وشيخ الغفر والصراف المرابي.
أعترف أنني كنت مخطئاً في تصور كل ذلك بحسن نية، لأنني نسيت أن كتابة أي نوع من الأدب، يستلزم وجود مساحة ما للتنفس، وأن أي كاتب يحتاج للتخلص من رائحة الخراء التي تعم الأجواء، قبل أن يفكر في شيء ما ليكتبه، ومن يدري ربما أكون مخطئاً هذه المرة أيضاً، سيسعدني ذلك.
ـ كان مزاجي مضبوطاً في ذلك اليوم، فلم أناقش ذلك الأستاذ الجامعي في الهندسة بغضب، بعد أن لامني على تكرار نشر أخبار المعتقلين وشكايات أهاليهم على صفحتي في الفيسبوك، لأنها على حد قوله تنقل له طاقة سلبية ليس بحاجة إليها، قلت له بهدوء إن عليه أن يتجاهل صفحتي تماماً، ويتذكر أن نشر أخبار المعتقلين ينقل لأهالي المعتقلين طاقة إيجابية هم أيضاً بحاجة إليها لتعينهم على الحياة، وأشهد له أنه تقبل الإجابة برحابة صدر.
كنا يومها في السنة الأولى من حكم السيسي، وأخذنا الحديث عن أحوال البلاد والعباد، إلى سيرة التصريح الذي قال فيه السيسي إنه لو حكم مصر سيرى المصريون العجب "تطبيقاً للحديث القدسي وعزتي وجلالي لأرزقن من لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيل"، فقلت له إن ذلك التصريح لم يضحكني، بل أخافني لأنه جعلني أشعر أننا أمام حالة سيكوباتية عتيدة لن يكون التعامل معها بالساهل، في بلد لا تنقصها الآلام والدماء، إلا إذا كان السيسي قبل أن يطلق ذلك التصريح، قد حصل - عبر مصادره الخاصة التي تكفلها له الأجهزة السيادية - على ما يثبت وجود اكتشافات مهولة من الماس الخام واليورانيوم والبلاتينيوم وما لا أعرف اسمه من المعادن النفيسة.
ما زلت أذكر كيف فاجأني رد الأستاذ الجامعي على ما قلته، حين قال لي إن ذلك التصريح أصابه بالفرحة، لأنه كان يؤكد على حرمان السيسي لنفسه من طريق الحلول الوسط، منذ اختار القفز على كرسي الحكم بقرار طلب التفويض وما تلاه، وبالتالي فقد أصبح أمامه طريقان: إما أن ينجح بسرعة أو أن يفشل بسرعة، وفي الحالتين ستستفيد مصر، على عكس ما كان سيحدث لو كان السيسي ذكياً ومهد لنفسه طريقاً وسطاً، مما كان يعني أن معاناة المصريين ستطول بشكل لا تحتمله البلاد التي عانت من مرارات مثل ذلك الطريق خلال العقود الثلاثة التي حكمها مبارك، ثم أضاف محدثي قائلاً "طيب لو نجح السيسي بسرعة في حل مشاكل البلد، لا أعتقد إن حد فينا يكره البلد تبقى أحسن، ولو فشل بسرعة وأياً كان الثمن هيبقى الشعب مجبر يفوق من أوهامه ويبدأ يعالج مشاكله صح".
قال الرجل كل ذلك بهدوء وبابتسامة واثقة، في الوقت الذي كنت أستمع إليه متقمصاً شخصية هشام الحرامي وأنا أردد بداخلي عبارات مثل "إنت إيجابي ومالكش عازة أصلاً" - راجع الإنترنت لمزيد من التعرف إلى أبعاد نموذج هشام الحرامي - لكني مع ذلك وجدت في ما قاله حلاً سحرياً للخروج من مناقشات عبثية كنت أضطر لخوضها في العامين الأولين من حكم السيسي، قبل أن يتضح أن علاج الإيدز بكفتة عبد العاطي لم يكن صدفة بل كان أسلوب حكم، حيث كنت أنهي كل مناقشة مع أصدقائي من مهاويس السيسي بتكرار عبارة "هو يا إما ينجح بسرعة يا إما يفشل بسرعة وفي الحالتين مصر مستفيدة"، وللأسف لم تجمعني الظروف ثانية بذلك الأستاذ الجامعي لأسأله هل ما زال محتفظاً بتفاؤله، أم أنه بعد أن رأى كل ما جرى لمصر، أصبح يميل إلى اتباع منهج هشام الحرامي في التفكير.