عن الشاذلي القليبي
أحيت تونس يوم الخميس أربعين الوزير والسياسي والمثقف والدبلوماسي، الشاذلي القليبي، وأشرف رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ، على المناسبة التي تخللتها كلمات مسؤولين وقادة عرب، منهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس والأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، فضلا عن شهادات مؤثرة لشخصيات ثقافية تونسية جايلت القليبي اشتغلت معه.
ربما لا يعلم جيل الشباب إلا القليل عن الفقيد الذي انسحب بشكل يكاد يكون كليا من المشهد السياسي منذ سنة 1991، على إثر استقالته من منصبه أمينا عاما لجامعة الدول العربية، بعد أن أعطى زعماء عرب الضوء الأخضر لبدء الهجوم على العراق في حرب الخليج الأولى. تفرّغ الرجل بعد ذلك لكتاباته العديدة، وظل منعزلا في بيته في ضاحية قرطاج.
يمكن أن تُصاغ حياة الشاذلي القليبي، الزاخرة والصاخبة في آن، على شاكلة كتاب يضم فصلين كبيرين: الأول محلي تونسي خالص، كان الرجل فيه مثقفا يتولى الإشراف، من مسؤولياته وزيرا، على عدة وزارات، لعل أهمها وزارتا الثقافة والإعلام، فضلا عن مؤسسات أخرى أدارها باقتدار، على غرار الإذاعة والتلفزة التونسية. وكانت البلاد تخوض بعيْد الاستقلال معركةً لا تقل نبلا وضراوة.. معركة بناء مجتمع حديث. كما كانت النخبة التونسية تعلم مفرداتها ومقتضياتها آنذاك، دولة عصرية، ثقافة حديثة، ومثل وقيم مفتحة تشكل قناعات المواطنين وممارساتهم الاجتماعية، وأخيرا بنى وهياكل سياسية واجتماعية منسجمة ومتضامنة. كانت النخبة السياسية تدرك أن ذلك يقتضي تعويلا على مقاربةٍ غير معهودة، وهي الرهان على الثقافة بالمفهوم الواسع للكلمة، وبشكل يكاد تقريبا يكون منسجما ومتناغما مع المفهوم الأنتروبولوجي للثقافة الذي يحيل إلى كل الأبنية الرمزية والذهنية والمادية التي تنسجها الشعوب، وتعيد إنتاجها باستمرار على ضوء حاجاتها ورغبة نخبها (قواها الحية كما يقول الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة).
ظلّ القليبي حريصا على حد أدنى من التضامن العربي. ولكنه حين تيقن أن ذلك غدا حلما عسيرا، فضّل تقديم استقالته
كان بورقيبة يدرك أن الثقافة والتعليم والتثقيف والإعلام وغيرها من المجالات والأبعاد يمكن أن تعيد صياغة الأبنية الذهنية للمجتمع وفئاته الواسعة تحديدا. إنها تلك المدرسة المفتوحة التي يتعلم فيها الشعب المثل والمبادئ والأذواق والقيم الفنية والجمالية وغيرها.على هذا النحو، تمثلت النخب الوطنية التي كان الشاذلي القليبي أحد أبرز رموزها في أهمية الثقافة. ولهذا الهدف، عقدت عليها رهانات جمّة، فخصتها بسياساتٍ عمومية شديدة الخصوصية، لم تسلم أحيانا من التعسف والقسر، حين شنّت الدولة المركزية صراعا ثقافيا شرسا لتفتيت جيوب الصد التي يمكن أن تتحصّن بها الأبنية الثقافية التقليدية. أوكل بورقيبة هذه المهمة إلى خرّيج السوربون، الشاذلي القليبي.
الفصل الثاني من كتاب الرجل قومي عربي بدأ تحديدا سنة 1978، وامتد إلى أزيد من عقد. تولى خلال هذه الفترة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، بعد قرار نقلها استثنائيا من القاهرة إلى تونس، في رد فعل على زيارة أنور السادات إسرائيل. لم يكن الأمر سهلا، خصوصا وأن عدة دول ظلت أشهرا طويلة ترفض الاعتراف به، في خطوة مساندة لمبادرة السادات التطبيعية غير المسبوقة والصادمة.
كان الفقيد، على الرغم من العواصف العنيفة التي عرفتها المنطقة العربية خلال تلك الفترة (غزو الكويت، حرب الخليج الأولى ...) حريصا على حد أدنى من التضامن العربي. ولكنه حين تيقن أن ذلك غدا حلما عسيرا، فضّل تقديم استقالته (بيان استقالته في 5 سبتمبر/ أيلول 1990). وتورد عدة شهادات (محمد حسنين هيكل، طارق عزيز ...) حجم الضغوط، وحتى الإهانة التي تعرّض إليها الأمين العام الأسبق للجامعة من العقيد معمر القذافي وحسني مبارك في آخر قمة عربية طارئة، عقدت قبل بدء الهجوم على العراق في 15 أغسطس/ آب 1990 في القاهرة.
خصص الشاذلي القليبي لكل هذه الهواجس ما يزيد عن أربعة مؤلفات ومئات المقالات والحوارات. من مؤلفاته "الشرق والغرب .. السلام العنيف"، "العرب أمام قضية فلسطين".