عن الفرق بين المواطن ورجل السلطة.. العرب نموذجا

26 يناير 2016
الأمن يطارد مظاهرة لرافضي الانقلاب (العربي الجديد)
+ الخط -


كنت أرتشف فنجان قهوة، ذات يوم، في منزل صديق؛ حين قالت زوجة المضيف: "مو أهاليهن إرهابيين بيستحقوا الذبح". كان الحديث عن أطفال الحولة، مذبحة من مذابح "محاربة المؤامرة الكونية" في سورية. تحول لون البن إلى أحمر قان حين رميته من يدي فزعاً وقرفاً.

كان لي، ذات يوم، أصدقاء فلسطينيون في الغربة الطويلة، يسألون في زمن الانتفاضة الثانية في فلسطين، وفي ذكرى يوم الأرض، عما إذا كنت قادراً على دعوة فلان صاحب الخطاب "الناري" من القاهرة.
في الغربة تكون الناس متعطشة للالتقاء بمن يعطيهم شحنة أمل. لم يحدث الأمر وتهربت منه وفي ذاكرتي غضب ذلك الشخص على تمزيق صورة حسني مبارك في الضفة.

صاحبنا هذا "الثورجي، غير المساوم، والمعادي للإمبريالية"، وقبل أن يصير عضو برلمان، كان صوته ملعلعاً في 2011 على "بابا مبارك". دهش الجمع الذي لم يكن يصدق سبب عدم إعجابي، ومنهم حمساويون ويساريون جمعتهم ذاكرة قصيرة جداً في فيلم طويل لاحتقار عقلنا بجريرة عدم فهمنا تلك الأنظمة، التي صار مبارك، والجلبي والعامري والمالكي وقبلهما إيلي حبيقة وغيرهم في زمن آخر، من ديناصورات النضال الثورجي، ممانعين، مقاومين، يجلسون في الصفوف الأمامية لمهرجانات الردح.

ومثلما تكاثرت شخوص الممانعة في مسيرة طويلة، ممتدة منذ 5 سنوات هي عمر الربيع العربي، وتغيرت ألوان الجلد كالحرباء. اتضح كثير.
شخصياً، لست غاضباً. بل أعرف أن ذلك مسار تاريخ لا بد أن يمر في ممرات إجبارية. تعلمت، ذات يوم، في مدرسة "ماركسية" مصطلحات كثيرة. لكن حتى يومي، بعد 31 سنة من الغربة. ما زلت لا أفهم الرابط بين التخوين وعمل نخبة تجد في مَن يخالفون "خونة يستحقون السحق".

في الغرب، على الرغم من كل مآخذنا عليه. تنتهي مناظرة وحملات انتخابية حامية الوطيس. يتابعها الشعب الإسكندنافي، ثم حين يصل الأمر للصمت الانتخابي ترى رئيسة وزراء بعد كل الجدية في كفاحها ضد يمين الوسط، تمد يدها لمنافسها في آخر الليل أمام ملايين المشاهدين: حظاً سعيداً.


باكورة "ثورة يناير"، التي توقعت حين انقلب عليها من جعل من مرسي مشجب الحقد كله في عام حكم، أوصلتنا إلى الزمن التالي: "بابا مبارك ظلم. دي مكنتش ثورة، إنما مؤامرة إخوانجية مدعمة من السي آي إيه، والتدريب في صربيا". لماذا ليس تركيا أو كرواتيا أو ستوكهولم، لا أعرف الاختيار الصربي تحديداً. يقولون "الثورة الوحيدة في مصر هي 30 يونيو". بدليل حقائق وأسرار الثورجي الصحافي المناضل عضو البرلمان، والذي كشف، مثلما كشفت قناة الدنيا وغيرها، أن ما ذهبت إليه "المنار" عن "الصحوة الإسلامية"، والأعلام تزين الخلفية، إذا كان لبعضهم ذاكرة، لم تكن إلا "مؤامرة".
كم يكون مفجعاً لـ"مثقف يعشق البساطير العسكرية" أن يرى في ثورته المضادة ما لا ينفع في كي الوعي؟، إنه مفجع، فوق محاكمة من قام بثورة يناير، واتهام سخيف لخالد سعيد ومحمد البوعزيزي بالتآمر مع السي أي إيه، في واقعة الشهيد غياث مطر؛ الدليل حضور سفراء جلسة تعزية في داريا.
إنه مفجع إلى حد رفع السبابة في وجه شعب، وشعوب بالتهديد: "أي واحد هينزل الميدان الشعب سيسحقه، واحنا مستنيين 25 يناير وخلوا مجرم واحد ينزل".
لنقلب الصورة قليلاً. كعربي، سألت طبيباً من القاهرة: "أنت تطلب مني أن أساعدك في كيفية الحصول على إقامة وعمل في شمال الكرة الأرضية، وبذات الوقت نغمة هاتفك (تسلم الأيادي)، فلماذا لا تذهب إلى القاهرة وتسأل تلك الأيادي أن تجد لك عملاً بكرامة؟. مش أنت ليل نهار بتمجد السيسي. متروح ليه يا سيدي؟!
حين كان "الونش"، في أيام مرسي، يحاول خلع بوابة القصر الرئاسي، هل كانت تلك صوراً "مفبركة"؟ ماذا لو قيل: خلي راجل من ظهر راجل ينزل مصطفى محمود ونحن سنسحقه أيام مرسي؟
في 2016 الفاجعة واضحة: مفيش وطني حيطلع. قالها السيد النائب مقدم البرنامج على قناة صدى البلد. جزم بالتحريض "الإخوان وعصاباتهم". من اشتراكيين ثوريين إلى تكميم أفواه أساتذة الجامعات الممنوعين من الإطلال على الشاشة إلى 6 أكتوبر. وبقية الجمع المختفي خلف قضبان السحل والتعليق في مسالخ الارتداد عن "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية".
إنها في رأيي فاجعة يعيشها راكبو موجة ثورة يناير، وبقية الثورات العربية، فهؤلاء يظنون أنهم يواجهون شعوباً مسطولة وممسوحة الذاكرة. أيها السادة: الجزم والبساطير والتهديد بالقوة نفعت قليلاً في السلفادور وتشيلي والفلبين وضد الخمير الحمر، حيث حكمت الفاشية بطبقة من طحالب الكومبرادور. لكن انظروا حولكم. حتى الجدران تلعن دون خوف، فذاك زمن ولى، فأين كل هؤلاء؟
زمن تجريم ثورة وثوار يناير بهذا الضخ التهديدي. بل ومقاربات: انظروا لما جرى في سورية وليبيا. متعامين عن تونس خميرة الثورات. لن تجدي نفعاً، حتى لو جئتم بكل ساسة وأمنيي الغرب يمنحونكم تلك الشرعية الزائفة.
يقيناً، كل هذا الصراخ والارتجاف والرعب لم يكن ليحدث لولا أنكم تدركون أن الشعوب ليست صراصير ولا أرانب ولا مجموعة من الجبناء ينفع معها رفع السبابة تهديداً. كان حبيب العادلي أشطر. كان رجال بشار يصرخون "بدكن حرية؟". فيصر العرب: نعم مهما كان الثمن. وتحت الرماد ما لا تعرفون أيها المرعوبون.


اقرأ أيضاً:"لساها ثورة يناير" شعار سناء سيف بمسيرتها المنفردة لـ"التحرير"

المساهمون