07 نوفمبر 2024
عن ذعر الطبقة العليا في مصر
شهدت الأسابيع الماضية ظواهر عديدة، تكشف عن "ذعر" الطبقة العليا المصرية ورعبها من المستقبل القادم. ومع استمرار تردّي الأوضاع داخل البلاد، وضبابية المستقبل المتزايدة، كان الهجوم الطبقي والعنصري ضد نجم الكرة العربية والمصرية، محمد أبو تريكة، آخر تجليات تلك الظاهرة، فاللاعب السابق لم يثبت له أي انتماء لأية جماعات إرهابية، وحصل على حكمين قضائيين بعدم جواز مصادرة أمواله من النظام. ومع ذلك، وجدنا ممثلةً تهاجمه بشدة، ولم تجد سببا لذلك إلا أن "شكله" يوحي بأنه إرهابي، على حد قولها، وأن في ملامح وجهه "لؤم الفلاحين"، وهي لهجة الباشوات نفسها، ممن كانوا يستعبدون الفلاحين المصريين في القرنين التاسع عشر والعشرين، وكأن الممثلة المبجلة قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة مثلا، وكأنها لم تأت من محافظة الغربية، إحدى معاقل الفلاحين في مصر. ورأينا هجوماً طبقياً آخر من صاحب مطعم، قال إنه يشبه أعضاء هيئة التدريس في جامعة الأزهر، وعلى الرغم من أن أحدا لم يفهم وجه الانتقاد في أن يكون أبو تريكة يشبه هؤلاء على فرض صحة المقارنة، إلا أنه يبدو أن المدعو صاحب المطعم وجد ذلك سببا كافيا للهجوم على اللاعب الشهير واعتباره "إرهابيا".
رغبة تلك الطبقات في الانعزال، ووضع الأسوار بينها وبين باقي مكونات المجتمع، ظاهرة أخرى خاصة بالطبقة العليا المصرية، تكشف عن ذعرها المتزايد، وإن لم تكن تلك الظاهرة وليدة هذه الأيام، فقد توصلت إليها الطبقة العليا حلاً مقترحاً لضمان ابتعادهم عن "الشعب الغلبان"، فظهرت فكرة "الكمباوند" منذ سنوات، وهو مجموعة من البنايات، أو الفيلات، محاطة بأسوار عالية تضمن انعزالها، مع وجود أطقم حراسة مدار 24 ساعة، لكن الدعاية
لهذه المشروعات وصلت إلى درجةٍ مقزّزة من الفجاجة والطبقية والعنصرية في الآونة الأخيرة، مع ظهور إعلان لأحد تلك المشروعات، وهو يبشر المصريين بأنهم سيجرون مقابلة شخصية مع الراغبين في الشراء، لبحث مدى استحقاقهم الحياة في ذلك المكان أم لا! وكأن امتلاك الأموال ليس كافياً ليطمح الإنسان إلى العيش الكريم، بل لا بد من أن يتمتع بمواصفاتٍ معينةٍ، تؤهله لذلك، كما احتوى الإعلان على سخريةٍ منحطّةٍ من فئات عديدة من الشعب المصري، أبرزهم "الصعايدة" لتتكامل تلك الإهانة مع إهانة الممثلة التي هاجمت أبو تريكة الفلاحين، لنرى ازدراء لمعظم الشعب المصري، بينما ابتكرت شركة عقارية أسلوبا آخر جديداً للإبداع، في تقسيم عملية عزل الطبقة العليا، إذ خصصت "كوتا" للمحجبات، وأخرى لغير المحجبات، وثالثة للمسيحيين، وهكذا، أي أن عملية العزل وصلت إلى الطبقة العليا نفسها.
امتدت ظاهرة "المقابلات" التي تتخذ طابعاً طبقياً إلى كل مناحي الحياة في مصر، حتى إن المدارس تقوم بعمل مقابلات مع والد الطفل ووالدته لقياس مستواهما الاجتماعي والمعيشي، قبل التكرّم بالموافقة على إلحاق الطفل بالمدرسة. لكن هذه الظاهرة بدأت أصلاً، خلال اختبارات إلحاق المتقدمين بوظائف الدولة السيادية، مثل الالتحاق بالكليات العسكرية وكلية الشرطة ومؤسسات القضاء والعمل الدبلوماسي. لكن الهدف منها تحول من بحث مدى صلاحية المتقدمين من حيث الكفاءة للالتحاق بتلك الوظائف إلى بحث حالتهم الاجتماعية، وما إذا كانوا ينحدرون من أسر غنية، تتمتع بالثراء الكافي، وبالواسطة والمحسوبية المطلوبة، حتى لا يقتحم الدائرة أحد من "الغرباء" أو "الأغيار" من الناس العاديين. ونظرة واحدة إلى كشوف الملتحقين حديثا بكلية الشرطة أخيراً تكشف عن وجود أبناء عشرات من أعضاء البرلمان في الدفعة، وكذلك أفراد عديدين ينتمون إلى عائلة واحدة، يوجد فيها عشرات من الضباط والقضاة والفئات الأكثر ثراءً.
عبّر وزير العدل الأسبق، محفوظ صابر، عن تلك الحالة بوضوح شديد، عندما قال إن ابن عامل النظافة لن يسمح له بالالتحاق بالعمل في النيابة العامة. وعلى الرغم من إقالته بعد هذا التصريح، إلا أن الجميع تقريباً يعرف أن تلك العقلية متحكمةٌ تماماً في عملية اختيار الملتحقين بوظائف الدولة الحساسة والسيادية، وفات على الذين شعروا بالسعادة من إقالة الوزير أن مجلس القضاء الأعلى بنفسه قد صرح قبل أكثر من ثلاث سنوات بما قاله الوزير، عندما استبعد المجلس 188 من الملتحقين بالنيابة العامة، كان الرئيس محمد مرسي قد اعتمدهم قبل أيام من الانقلاب عليه. وقيل، بمنتهى الصفاقة، إن هناك معايير جديدة لاختيار الملتحقين بالنيابة، أهمها اشتراط حصول الوالدين على مؤهل تعليم عال، والتأكد من المستوى المادي لأسر المتقدمين،
أي أنه ليس للمصريين الحق في أن يطمحوا للالتحاق بالنيابة، إذا كانوا فقراء، أو إذا كان الوالد أو الوالدة لم يحصلا على مؤهل عال، وهو ما أدى إلى وفاة والد أحد الطلبة المتفوقين المستبعدين، بسبب إحساسه بأنه كان السبب في حرمان ابنه من تحقيق حلمه، ولم تحدث أية ضجةٍ حينها، بعدما تم تغليف الأمر في وسائل الإعلام بالحجة المعهودة عن انتماء المستبعدين لجماعة الإخوان المسلمين! والأغرب أن والد محفوظ صابر نفسه لم يحصل على مؤهلٍ عال. ومع ذلك، كان يريد منع الآخرين الذين هم في مثل ظروفه من الوصول إلى ما وصل إليه، وكان وزير العدل السابق، أحمد الزند، قد تحدث أيضا عن الأمر نفسه عام 2012، عندما أكد استمرار تعيين أبناء القضاة في النيابة، واصفا ذلك بأنه "زحفٌ مقدس". وقال أيضا إنهم "السادة" وغيرهم هم "العبيد". ونذهب بعيدا أكثر من هذا، لنذكّر بقضية عبد الحميد شتا الذي انتحر بعد استبعاده من التعيين في وزارة الخارجية، بحجة أنه "غير لائق اجتماعيا"، على الرغم من أنه كان الأول على جميع المتقدمين، فقط لأن والده فلاح بسيط.
وأخيراً، ليس هذا الكلام جديداً، فقد سبق أن عبر عنه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، في قصيدته "أحزاني العادية"، التي يقول فيها "إحنا شعبين ..شعبين.. شعبين.. شوف الأول فين.. والتاني فين.. وآدى الخط ما بين الاتنين بيفوت"، وهي قصيدة استخدمها الأديب، أحمد خالد توفيق، ليعبر عن الفكرة نفسها، بشكل أكثر وضوحاً في روايته "يوتوبيا"، التي تصور انقسام مصر إلى قسمين: الأول بالغ الثراء ويسكن في مدينة "يوتوبيا" المحاطة بسور ويحرسها الجنود المدججون بالسلاح، والثاني يعيش في فقرٍ مدقعِ، ويتقاتل سكانه من أجل الطعام. وللمفارقة، نشرت إحدى الصفحات المعبرة عن سكان "كومباوند" فاخر صورة مقسمة إلى قسمين يفصل بينهما سور كبير، الأول لمجموعة بيوت راقية والآخر لسكان العشوائيات، وهو معنى رواية "يوتوبيا" بالضبط، لكن الصفحة وجدت تلك الصورة سبباً كافياً لشكر الله على نعمة "السكن الآمن الآدمي الراقي" على حد قولها، متجاهلةً أن انقسام المجتمع إلى تلك الصورة أكبر خطر على مصر، وعلى الطبقة العليا أيضا، لأن الانفجار الذي أصبح قريبا جدا ومجرد مسألة وقت سيطاولها، ولن تفلح معه أي أسوارٍ تعطي إحساساً زائفاً بالأمان الكاذب.
رغبة تلك الطبقات في الانعزال، ووضع الأسوار بينها وبين باقي مكونات المجتمع، ظاهرة أخرى خاصة بالطبقة العليا المصرية، تكشف عن ذعرها المتزايد، وإن لم تكن تلك الظاهرة وليدة هذه الأيام، فقد توصلت إليها الطبقة العليا حلاً مقترحاً لضمان ابتعادهم عن "الشعب الغلبان"، فظهرت فكرة "الكمباوند" منذ سنوات، وهو مجموعة من البنايات، أو الفيلات، محاطة بأسوار عالية تضمن انعزالها، مع وجود أطقم حراسة مدار 24 ساعة، لكن الدعاية
امتدت ظاهرة "المقابلات" التي تتخذ طابعاً طبقياً إلى كل مناحي الحياة في مصر، حتى إن المدارس تقوم بعمل مقابلات مع والد الطفل ووالدته لقياس مستواهما الاجتماعي والمعيشي، قبل التكرّم بالموافقة على إلحاق الطفل بالمدرسة. لكن هذه الظاهرة بدأت أصلاً، خلال اختبارات إلحاق المتقدمين بوظائف الدولة السيادية، مثل الالتحاق بالكليات العسكرية وكلية الشرطة ومؤسسات القضاء والعمل الدبلوماسي. لكن الهدف منها تحول من بحث مدى صلاحية المتقدمين من حيث الكفاءة للالتحاق بتلك الوظائف إلى بحث حالتهم الاجتماعية، وما إذا كانوا ينحدرون من أسر غنية، تتمتع بالثراء الكافي، وبالواسطة والمحسوبية المطلوبة، حتى لا يقتحم الدائرة أحد من "الغرباء" أو "الأغيار" من الناس العاديين. ونظرة واحدة إلى كشوف الملتحقين حديثا بكلية الشرطة أخيراً تكشف عن وجود أبناء عشرات من أعضاء البرلمان في الدفعة، وكذلك أفراد عديدين ينتمون إلى عائلة واحدة، يوجد فيها عشرات من الضباط والقضاة والفئات الأكثر ثراءً.
عبّر وزير العدل الأسبق، محفوظ صابر، عن تلك الحالة بوضوح شديد، عندما قال إن ابن عامل النظافة لن يسمح له بالالتحاق بالعمل في النيابة العامة. وعلى الرغم من إقالته بعد هذا التصريح، إلا أن الجميع تقريباً يعرف أن تلك العقلية متحكمةٌ تماماً في عملية اختيار الملتحقين بوظائف الدولة الحساسة والسيادية، وفات على الذين شعروا بالسعادة من إقالة الوزير أن مجلس القضاء الأعلى بنفسه قد صرح قبل أكثر من ثلاث سنوات بما قاله الوزير، عندما استبعد المجلس 188 من الملتحقين بالنيابة العامة، كان الرئيس محمد مرسي قد اعتمدهم قبل أيام من الانقلاب عليه. وقيل، بمنتهى الصفاقة، إن هناك معايير جديدة لاختيار الملتحقين بالنيابة، أهمها اشتراط حصول الوالدين على مؤهل تعليم عال، والتأكد من المستوى المادي لأسر المتقدمين،
وأخيراً، ليس هذا الكلام جديداً، فقد سبق أن عبر عنه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، في قصيدته "أحزاني العادية"، التي يقول فيها "إحنا شعبين ..شعبين.. شعبين.. شوف الأول فين.. والتاني فين.. وآدى الخط ما بين الاتنين بيفوت"، وهي قصيدة استخدمها الأديب، أحمد خالد توفيق، ليعبر عن الفكرة نفسها، بشكل أكثر وضوحاً في روايته "يوتوبيا"، التي تصور انقسام مصر إلى قسمين: الأول بالغ الثراء ويسكن في مدينة "يوتوبيا" المحاطة بسور ويحرسها الجنود المدججون بالسلاح، والثاني يعيش في فقرٍ مدقعِ، ويتقاتل سكانه من أجل الطعام. وللمفارقة، نشرت إحدى الصفحات المعبرة عن سكان "كومباوند" فاخر صورة مقسمة إلى قسمين يفصل بينهما سور كبير، الأول لمجموعة بيوت راقية والآخر لسكان العشوائيات، وهو معنى رواية "يوتوبيا" بالضبط، لكن الصفحة وجدت تلك الصورة سبباً كافياً لشكر الله على نعمة "السكن الآمن الآدمي الراقي" على حد قولها، متجاهلةً أن انقسام المجتمع إلى تلك الصورة أكبر خطر على مصر، وعلى الطبقة العليا أيضا، لأن الانفجار الذي أصبح قريبا جدا ومجرد مسألة وقت سيطاولها، ولن تفلح معه أي أسوارٍ تعطي إحساساً زائفاً بالأمان الكاذب.