سماء المدينة
سريعة هبطت بنا الطائرة، وهذا ما أزعجني حينها، إذ لم أشبع بعد من النظر إلى الأسقف القرميدية الحمراء الممتدّة قرب مطار "أتاتورك". تبدو المدينة الرحبة، الشغوفة بنفسها، أوروبية الطابع من فوق، بطراز بنائها المتنوّع والموزّع بين القرميد الأحمر والأبراج العتيقة، إضافة إلى توافر شبكة مواصلات متطوّرة من باصات نقل داخلي إلى ترامواي يقطع قلب المدينة واصلاً بين أجزائها المترامية، حتى حجرات المترو التي تحملك إلى أحياء محددة. لكنّ اسطنبول في الحقيقة ليست أوروبية، ولا حتّى عربية أو إسلامية، إنّها تركية! فما أن يدرك زائر تلك المدينة أنّ اعتداد الأتراك بلغتهم ناجم عن كونها جزءاً من حضارة متكاملة، حتّى يغفر بعضاً من عصبيتهم تجاه أصحاب اللغات الأخرى، رغم سوء تبرير كل عصبية.
على الأرض
"بصق" سائق التاكسي كثيرا تعبيرا عن استنكاره زحمة السير الخانقة في الطريق إلى منطقة السلطان أحمد. تمتم مرارا عبارة واحدة، بدت أقرب إلى شتيمة. حلّت لعنات السماء كلّها عندما اعترضت طريقنا ورشة حفريات لبلدية الفاتح. لا يكاد يخلو شارع في المدينة من عمّال البلدية، يمسح بعضهم زجاج شبكة "الترمواي"، بينما ينهمك آخرون في صفّ أحجار الشارع الفرعي قرب محطة "المترو". نصحني أصدقائي أن أزور قهوة درويش في حيّ السلطان أحمد. تتسابق صور الدراويش مع موسيقى آلة القانون لاستقبالك حال دخولك المقهى. يبدأ الدرويش في الدوران فتتباطأ دورة الحياة المحيطة به، يسكن روّاد المقهى، كما يقلّل العاملون من حركتهم. تتشابك خيالات الدرويش مع النقش الحجري لدرويش قديم في الخلفية. تدور القبّعة المُستدقّة الرأس وتتلألأ أمامها مصابيح الإنارة الملوّنة. ينتهي العرض سريعاً فينقضي السكون. تقودني الأسواق نزولاً نحو "أمينونو"، وقبلها "السوق الكبير". في السوق الكبير المسقوف، كلّ أنواع البشر. جنسيات ولهجات متنوّعة، التقت جميعها تحت قبّة التسوّق. انجرفتُ والناس في بحر الأصناف المتنوّعة، حتّى أسدى إليّ صديق عراقي العديد من النصائح. قصد صديقي اسطنبول قبل سنوات للدراسة والعمل. ينهي الماجستير في إدارة الأعمال شتاءً، ويستقبل الوفود السياحية في الصيف. نصح فأوجز: "ثلاثة احذرْها في اسطنبول: مالُها وهواؤها ونساؤها". كانت كلماته دستوري في أيامي العشرة، وكما كلّ دستور...، خرقتُ القواعد كثيراً.
غلال اسطنبول
يقال إنّ الإنسان السعيد يميل إلى الاستهلاك الكثير. فكيف بسائح جديد، فتحت له اسطنبول أبوابها، وشرّعت أسواقها الرخيصة. من الهدايا إلى الملابس مروراً بالطعام، تبدو الأسعار رخيصة، لكنّها متى اجتمعت يتخطّى المرء عتبة المئتي دولار في اليوم بسهولة. خصوصاً إذا قرّر التنقّل بالتاكسي عوضاً عن المواصلات العامة. وصل بنا المترو إلى منطقة تقسيم، ومنها سيراً على الأقدام وصلنا إلى مطعم مشهور في شارع الاستقلال. يصطفّ العشرات أمام المطعم، كما في الثكنات الحربية أو السجون. ينتظم الطابور أمام برج من الصواني الخشبية لملئها بالطعام. يغرف العامل من طبق المحاشي، ثم ينتقل بسرعة إلى الكباب. يعود بسرعة إلى طبق اللحم قبل أن ينقُلَكَ إلى الجزء المخصّص بالمقبّلات. تطغى البهارات الحارّة على الأكل التركي، وتطفئها جرعات "لبن العيران" الذي لو طاف لضمّ شطري اسطنبول في بحر من اللبن والزبد.
هواء الفصول الأربعة
يكفي أن تقضي تسعة أيام في الجزء الآسيوي من إسطنبول، حتى تعيش تحولات الفصول الأربعة. وفي ظلّ تقلّب الفصول بين الساعات، يبدو طبيعياً مشهد الأتراك وهم يلبسون الثياب الصيفية وبيدهم مظلة. خرجنا صباحاً من الفندق ترافقنا رطوبة البورسفور إلى "أمينونو" وسوقها المصري. وقانا السوق المسقوف من حرارة الشمس، فغدرتنا أمطار الصيف لدى خروجنا منه! تجمّعت الأمطار الغزيرة في الطرق فتحوّل التاكسي إلى قارب يسبر أغوار اسطنبول بحراً.
في جوار النساء
قرأت رواية "لقيطة اسطنبول" لأليف شافاق قبل أسابيع من الرحلة. بحثت في شوارع المدينة عن "زليخا قازنجي"، فوجدت العديدات. تغزو الوشوم أجساد العديد من النساء التركيات، يظهرن منطلقات هانئات. ولأنّها اسطنبول "مدينة كلّ شيء"، تتجاور المحجّبة، التي تلبس زوجها طربوش الباشا في الشارع، معلنة عن التسليم بسلطته، مع الشابة ذات الوشوم بملابسها الخفيفة، بعيدة عن الطرابيش.
العودة
فقدتُ جواز السفر خلال إحدى الجولات، فراجعتُ قنصلية بلدي. فوجئتُ بكون الموظّفات من الجنسية السورية. خفّفت لهجتهم السورية المحبّبة بعضاً من عناء متابعة الأوراق بين القنصلية و"كركون" منطقة "شركجي". في الكركون طردني الشرطي من مكتبه بعد محاولات عديدة للوصول إلى لغة مشتركة بين التركية والإنكليزية. فشلت المحاولة لكنّني أتممت المعاملات وعدت إلى لبنان، بجواز مرور.. انتهت رحلتي إلى إسطنبول كما بدأت، حظٌ عاثرٌ والعديد من الذكريات الباسمة كوجه المدينة.