حين هاجر الشاب السوري شبلي سليم من مسقط رأسه في محافظة السويداء إلى النرويج في عام 2015، حاول أن يستمر في جمعه بين دراسة الهندسة المدنية التي قطع معها شوطاً في جامعة دمشق، واهتمامه بآلة العود. لكن لم يطل به الأمر حتى أدرك أن آلته الأثيرة لا تقبل شريكاً؛ فقرّر التفرغ التام لدراسة الموسيقى في جامعة مدينة هامر.
خلال سنوات الدراسة الأولى، كان شبلي سليم يصارع وجدانه محاولاً الانسلاخ التام عن الموروث الموسيقي العربي، ظنّاً منه أن القطيعة بينه وبين الماضي تسهّل له طريق الانفتاح الثقافي والفني، وتعينه على اكتساب خبرات أعمق بالمنتج الموسيقي الغربي. لكن هذا الصراع الوجداني والفكري تبدّد أمام إعادة اكتشاف الأبعاد العميقة للموسيقى العربية، ووضع اليد على جوانب الثراء والجمال والحرية التي تمنحها تلك الموسيقى لمن يعطيها الجهد والوقت والاهتمام.
خلال رحلته الفنية، تعرف شبلي سليم إلى عازفة الكمان النرويجية إنغر هانيسدال، التي شاركته الاهتمام بالموسيقى الشرقية وإيقاعاتها، ليثمر التعاون بين الشاب السوري والفتاة النرويجية إصداراً بعنوان "موزون"، يضم 12 مقطوعة موسيقية، تستلهم أفكاراً وارتجالات وتوقيعات من أعلام الموسيقى في مصر، عبر حوار متنوع بين العود والكمان. في لقاء مع "العربي الجديد"، يكشف شبلي سليم عن تفاصيل إصداره الأول، والأثر العميق للموسيقى الكلاسيكية المصرية وأعلامها على تفكيره واختياراته.
نشأ سليم في أسرة تهتم كثيراً بالفنون عموماً، وبالموسيقى خصوصاً. والده مستمع جيد، يعزف أحياناً على العود، ويولي عناية فائقة لتراث المنطقة التي ولد وعاش فيها. يقول سليم: "من خلال والدي، تعرفت إلى العديد من الأنماط الموسيقية العربية، ووجدت في العود مادة دسمة للبحث، بقدر ما وجدت فيه من السلوى والأنس. لم أكن راضياً عن طرائق تعليم العزف الشائعة خارج المعاهد الرسمية ذات الطابع الأكاديمي، فشرعت في تعلم الآلة بنفسي، وكانت أذني وما أسمعه أستاذي الوحيد خلال تلك المرحلة".
يضيف: "يمكن أن أقول إن محصول الاستماع لكون عندي هوية موسيقية أشعرني أن "التقنية" هي العقبة التي تحول بيني وبين التعبير عنها. انقطعت عن الآلة فترة بسبب استقراري في دمشق حيث كلية الهندسة، وظل امتعاضي من الدراسة والمكان يتفاقم، إلى أن قرّرت الهجرة وخوض تجربة اللجوء بسبب تردي الأحوال في عموم سورية وانعدام أي أفق مستقبلي. وبعد سنوات من التفرغ لدراسة الموسيقى، يمكن أن أقول إن تحصيلي كان متنوعاً، لأن مصادر تأثري كانت متعددة، ولكن من المؤكد أن الأثر الأكبر في تكويني يعود إلى المدرسة المصرية التي كانت دوماً مصدر إلهامي".
في عام 2020، بدأ شبلي سليم دراسته الأكاديمية لآلة العود مع العازف والمؤلف والمحاضر الأكاديمي أحمد الخطيب. يقول: "هو موسيقي متميز ترك أثراً عميقاً في نفسي وتفكيري وساعدني جداً على الانفتاح موسيقياً ونغمياً. وفي الأشهر الأولى لدراستي، شعرت بأنني منطلق بقوة نحو عوالم متعددة، عزفنا موسيقى الـPop والـ Norwegian folk، وكنت مصراً على أن أعزف العود باعتباره عوداً لا آلة أخرى.
يتابع: "في السنة الثانية لدراستي مررت بفترة إحباط، وبدأت أشعر بأنني في مكان ليس لي. كنت أشعر بالنقص، وبأن ما أعزفه غير مفهوم. نصحني أستاذي الجامعي بأن أوقف دراستي لفترة حتى أتمكن من إعادة تنظيم أفكاري. ما أتذكره، أنني عدت إلى الجامعة بتصميم على عزف ما أعرفه وما أملكه من مخزون شرقي من دون تحريف فيه أو تغيير، كأن المونولوج والدور والطقطوقة والتقاسيم سياج الأمان الذي يحمينا من ضياع الشخصية وفقدان البوصلة والهوية".
حديث شبلي سليم عن المدرسة الموسيقية المصرية يثير سؤالاً مشروعاً عن أهم الشخصيات التي تأثر بها. لا يتردد العازف الشاب في الإجابة، فعنده الموسيقي والملحن المصري محمد القصبجي هو نموذج الإلهام والإعجاب الأول. يضيف: "عشقت القصبجي، وريشته، وأسلوبه، وتعلمت منه كيف أصل بالعود ليكون "فصيحاً" معبراً عن هويته وبيئته. كان القصبجي بالنسبة إلي فيلسوفاً وصاحب فكر. تأثرت به، ولا أتورط فيه بمحاولة تقليده، ولا الاستنساخ الحرفي لما يفعله، فأنا لست القصبجي، ولا يمكن لأيّ إنسان آخر أن يكون القصبجي".
يتابع: "منذ خمس سنوات أو أكثر، بدأت أستمع إلى تسجيلات القصبجي بكثافة، درست مونولوجاته التي لحنها لأم كلثوم، ودرست تقاسيمه وحاولت تقليدها، لكن سرعان ما اكتشفت أنني أثرثر كثيراً على العود، وأن ما أعجبني في القصبجي هو بلاغة قوله، وقدرته الفائقة على التعبير بأقل عدد من الحروف الموسيقية. أدركت حينها أن ما أتعامل معه ليس كسائر ما عزفته أو تمرنت عليه، وكان درس القصبجي الذي حصلته يجب عليّ أن أتعلم الفِكر ثم الموسيقى ثم التقنية".
يردف: "بسبب القصبجي، جلست ساعات طويلة أسمع المؤلفات والتحاميل التي تركها. كنت مذهولاً وأنا أراقب حديثه المشترك مع العناصر الموسيقية المختلفة في الفرقة، وكيف كان مُدركاً تمام الإدراك لماهية آلة العود ونوع صوتها وأبعادها. كانت قدرته فائقة على التحكم بأبسط أصوات الآلة. وكلما ابتعدت عن القصبجي، وجدت نفسي أعود إليه. أعود لأنظر إلى ما تركه بعين جديدة، وكلما ارتفعت قدرتي التقنية، وجدت أن فهمي للرجل أصبح أعمق وأقوى. كان القصبجي صاحب فضل عليّ، لا موسيقياً فحسب، بل أكاديميا وفكرياً وحتى نفسياً".
بالمصادفة، تعرّف شبلي سليم إلى عازفة الكمان إنغر هانيسدال التي التقاها في أحد مقاهي أوسلو عام 2017. وكانت المفاجأة أن العازفة النرويجية درست الموسيقى الشرقية في بيروت. حدثها سليم عن تأثره بالقصبجي والسنباطي وعبد الوهاب وأم كلثوم، ففاجأته مرة أخرى باهتمامها وتأثرها بعازف الكمان الشهير سامي الشوا. كان هذا التوافق الفني دافعاً إلى التعاون الذي كان مظهره الأول إنشاء فرقة موسيقية باسم Takhat Tøyen أو "تخت توين"، وهي المنطقة التي انتقل إليها الشاب بعد انتهاء دراسته بمدينة هامر. قدمت الفرقة أكثر من عرض موسيقي قوامه أعمال القصبجي وعبد الوهاب وأم كلثوم والقوالب الآلية الكلاسيكية.
يقول: "من خلال هذه العروض، اكتشفنا منطقة أخرى مشتركة بيننا، وهي هواية الارتجال واللعب بالإيقاعات، والجملة القصيرة التي تُعاد بأساليب مختلفة. اكتشفنا مركزية "الوزن الإيقاعي" في ما نقدمه. وكل هذا كان إرهاصاً لإصدارنا الأول، الذي اخترنا له عنوان "موزون"، تعبيراً عن تقديرنا لهذا النوع من الارتجالات والتقاسيم الإيقاعية".
من خلال المؤلفات التي تضمنها الإصدار، حاول سليم وإنغر استعراض الأشكال الآلية الكلاسيكية الشهيرة: السماعي والدولاب والتقاسيم الموقعة والمحاورة بين الآلات، وحرصا أيضاً على التنويع في الموازين الإيقاعية، فيجد من يستمع إلى مسارات الإصدار إيقاعات السماعي الثقيل، والمصمودي، والهجع، والوحدة.
يوضح: "حاولنا أن نستعرض عدة أجناس مقامية في كل مسار، كذلك كان اختيار النغمة أو الدرجة التي تُعزف منها مهماً. ومثلاً، عزفنا قطعة "رقص" من نغمة العشيران (لا قرار) بسبب ما تعطيه من مساحة على العود والتشيلو، واخترنا أن يكون السماعي وقطعة "تمايل" على نغمة الراست (دو). وقصدنا فيها أن نبني تسلسلاً تصاعدياً للأجناس، ابتداءً من الراست وختاماً بالبياتي على النوى.
يتابع: "في قطعة "ترحال"، كنت متأثراً بشدة بارتجالات القصبجي التي تسبق أو تتخلل بعض ارتجالات السيدة أم كلثوم، وكنت مولعاً بالارتجال على الوحدة. كنت أشعر بأنه ارتجال عربي أصيل يسير في تصاعد نغمي مقنع".
خلال مرحلة التأليف، اشترك سليم وإنغر في كتابة بعض الأعمال، مثل مقطوعة "حكاية على المصمودي"، وسماعي راست، وانفرد كل منهما بتأليف بعض المقطوعات، مثل مسار "خوش رنك" الذي انفردت إنغر بكتابته.
يقول سليم: "عندما ينصت المستمع إلى صوت العود سيدرك أنّ ما يُعزف مزيج من عدة مدارس. فهناك صوت خفي وراء ما أعزفه، هو صوت مصري أصيل تقوده يدي اليُمنى، وخلال المؤلفات جميعاً نستعرض تآلفات مختلفة من حيث التوقيع والنغم، وقد حاولت إنغر في مقطوعة "تمايل" أن تدمج لسانين موسيقيين فصيحين (الموسيقى المشرقية والموسيقى الشعبية النرويجية) التي تحتوي على مسارات تشبه إلى حد كبير مقام الراست".
يرى سليم أن أصعب ما يمر به العازف خلال مسار التعليم الأكاديمي، إمكانية ضياع هويته الموسيقية، ليتحول إلى شخص آخر بعيد عن جذوره، وعن صوت الموسيقى النابع من أصوله الراسخة، التي لا تتميز فقط بعراقة زمنية، ولكنها تحوز قدراً مذهلاً من الثراء والحرية والقدرة الهائلة على التعبير والتطريب وحمل الرسائل النفسية والروحية.
يقول: "بعد انتهاء دراستي، قال لي أحد أساتذتي إنه لم يرَ شخصاً في هذه الجامعة متمسكة بهويته وبموروثه أكثر مني. وحين سمعت منه هذا الثناء، مرت بخاطري على الفور صورة القصبجي محتضناً عوده، جالساً على كرسيه خلف أم كلثوم. كان القصبجي العاصم من ضياع هويتي الموسيقية في شوارع أوسلو".