11 سبتمبر 2024
فتنة أخرى تُضاف إلى مصاعب ليبيا
لم يكن ينقص الشعب الليبي الذي يعيش صراعا سياسيا محتدما منذ ست سنوات، إلا فتنة مذهبية، تصف أتباع المذهب الإباضي الذي يعتنقه أمازيغُ ليبيا بالضلال، حيث أصدرت الفتوى لجنةٌ تُسمّى اللجنةَ العليا للإفتاء، تابعةٌ لحكومة عبد الله الثني التي تُمارس أعمالَها من مدينةِ البيضاء في شرق ليبيا، وصفت الإباضية بالفرقة المنحرفة الضالة من الباطنية الخوارج، ونادت بعدم جواز الصلاة خلفهم.
يبسط اللواء خليفة حفتر في شرق ليبيا نفوذه، بالقوة العسكرية، مدعوما بمدد وأموال من الإمارات، وبإسناد من الطيران المصري. وتحت حكم العسكر، تتراجع حرية التعبير وتقمع الحريات ويُكبت المثقفون، ولأن سلطة القوة تحتاج إلى مبرّراتٍ لوجودها ومسوغات لحكمها، فقد اعتلى منصة الخطابة والإفتاء سلفيون مدعمون فكريا وماليا من السعودية.
أصدر هذه الفتوى أفرادُ لجنةٍ دينيةٍ من أتباع التيار السلفي المُدخلي الذي يتخذ مما يفتي به داعية الدين السعودي، ربيع المدخلي، مرجعا للأحكام الشرعية. وأهم الأحكام في خضم الصراع عن السلطة في ليبيا أن أتباع هذا "المدخلي" يرون في خليفة حفتر حاكما وولي أمرٍ شرعيا لا يجوز الخروج عليه، وهنا مربط الفرس في كل القضية. فحفتر يريد أن يحشد لنفسه اعترافا داخليا بولايته، كما حشد لنفسه تمويلا وسلاحا خارجيين. يُحاول بالجمع بينهم الانفراد لنفسه بحكم ليبيا، بفرض أمر الواقع، وتجاوز الإجماع الوطني واتفاق الصخيرات وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا.
يتبع أغلب سكان ليبيا المذهب المالكي، كما بقية سكان المغرب الكبير، مع وجودٍ للمذهب
الإباضي في بعض المناطق الأمازيغية. ويقطن أمازيغُ ليبيا بعض المدن والمناطق غرب العاصمة طرابلس، وفي جبل نفوسة الواقعِ جنوب غربي البلاد، وهم يشكلون أكثر من 10% من سكان ليبيا. اختار هؤلاء الأمازيغ المذهب الإباضي، ولم يعم ذلك الاختيار كل الأمازيغ في دول المغرب، فأمازيغ الجزائر منهم من اختار المذهب المالكي، ومنهم من اختار المذهب الإباضي. وفي تونس، اختار أمازيغ جربة المذهب الإباضي أيضا، بينما فضّل أمازيغ المغرب الأقصى المذهب المالكي.
أسس عبد الرحمن بن رستم الذي كان واليا على القيروان في تونس دولة إباضية، سميت باسمه "الدولة الرستمية"، كان ذلك سنة 160 هجرية (761 ميلادية) في مدينة تاهرت (تيارت في الجزائر). والتي امتد نفوذها إلى أمازيغ جبال نفوسة في ليبيا، الذين يقول عنهم الدكتور محمد حسن مهدي في كتابه "الإباضية.. نشأتها وعقائدها" (عمّان، 2011) "كانت نفوسة من أوسع قبائل البربر وأكثرها انتشارا.. وتضرب شعوبها في أحواز طرابلس وجبل نفوسة حتى مشارف القيروان.. ولما قامت الدولة الرستمية في تاهرت، كان النفوسيون من أشد مناصريها ضد خصومها، ولا غرو، فلقد حظوا بأهم المناصب العامة في الدولة، إلا أنهم، على الرغم من تبعيتهم للإمامة في تاهرت، كانوا شبه مستقلين، نظرا لبعد المسافة بينهم وبين تاهرت". ولم تسقط دولة الرستميين إلا سنة 296 هجرية 908 ميلادية على يد أبي عبد الله الحجاني الشيعي الذي قتل الإمام الإباضي اليقظان بن أبي اليقظان وأسرته وحاشيته.
شدَّ الإباضيون من قبل تأسيس دولة الرستميين على مذهبهم بالنواجذ، وعاشوا في وئام مع محيطهم الذي ينتهج المذهب المالكي، بعد انحسار المذهب الشيعي عن المغرب الكبير.
لم تستدع فتوى تكفير المذهب الإباضي التي أطلقتها مجموعةٌ من التابعين للتيار السلفي، التاريخَ الليبيَ أو الطبيعةَ القبليةَ المتماسكةَ للمجتمع، ففي ليبيا 105 قبائل وفق إحصاء المستعمر الإيطالي الذي ذكره رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، سيلفيو برليسكوني، في كتاب "طريقتي" الذي أعده ألان فريدمان.
عاشت هذه القبائل قرونا طويلة، متناغمة في عيشها، متوائمةً مع اختياراتها المذهبية والدينية، ولم تُعكر صفوها العقائدي أي شائبةٍ، حتى جاءت هذه الفتوى التي تحمل في طياتها جرعةً سياسيةً بامتياز، فهي بانتصارها لشخصية وقيادة عسكريتين، نسفت الخصوصية الليبية، وأدخلت عليها طريقةً في الحياة الدينية لا تمت بصلة لما دأب عليه المجتمع الليبي، جيلا بعد جيل.
جاءت الفتوى سابقةً في تاريخ ليبيا، فهي تنسف أيضا أساسا من أسسِ المواطنةِ والعيشِ
المشترك، حيث اعتبر بيان المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا أن فتوى اللجنة العليا للإفتاء التابعة لـ" الحكومة المؤقتة"، حول المذهب الإباضي "تحريضٌ صريحٌ على الإبادة الجماعية للأمازيغ في ليبيا، وانتهاكٌ صارخ للمعاهدات والمواثيق الدولية، وبثٌّ للفتنة بين الليبيين". والخوف كل الخوف أن تؤدي هذه الفتوى إلى استدعاء أطرافٍ أجنبية للتدخل، بحجة نصرة فريقٍ على الآخر، ذلك أن المعطى الديني حسّاسٌ للغاية في المجتمعات القبلية، فهو حقلٌ خصب لكل أنواع النزاعات والتجاذبات والاتهامات التي إن فُتح بابها من الصعب أن يُوصد، إلا بعد سقوط ضحايا وفتنة، هي ليبيا الآن في غنىً عنها، أكثر من أي وقت. خصوصا وأن الفكر السلفي، المستقوي بمرجعية دولة وازنة، لم يترك فئةً من المجتمع لا توافق مدرسته إلا واعتبرتها كافرة أو ضالة أو منحرفة أو عاصية أو قاصرة أو جاهلة، فلقد سبق للهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية في الحكومة المؤقتة في مدينة البيضاء التحريض ضد تياراتٍ فكرية ودينية وسياسية، مثل مريدي الصوفية ومثقفين وكتاب.
من نافلة القول، التأكيد على رفض جميع الدعوات التكفيرية والتحريض، والعنف اللفظي والإرهاب الفكري والديني، لأن من شأن ذلك إلغاء الحرية، وإلغاء المواطنة التي يقف فيها الناس جميعا متساوين أمام القانون الذي يبدو أن حكومة "البيضاء" المؤقتة تتصرف حياله، إما مغلولة اليدين، لاستقواء أصحاب هذه الدعوات بدول أجنبية، تتدخل في الشأن الليبي، أو أنها تستغل انهيار مؤسسات الدولة المدنية والديمقراطية، لتُطلق بإرادتها يدَ من يُصدرون مثل هذه الفتاوى، للتحريض على الكراهيةِ ضد مكونٍ أصيلٍ من مكوناتِ الهُوية الثقافيةِ والدينية الليبية. وفي الحالتين، أصبح تماسك المجتمع الليبي أمام امتحان صعب، لا يمكن الخروج منه إلا بتماسك مقدّرات الليبيين في وجه أي دخيل.
يبسط اللواء خليفة حفتر في شرق ليبيا نفوذه، بالقوة العسكرية، مدعوما بمدد وأموال من الإمارات، وبإسناد من الطيران المصري. وتحت حكم العسكر، تتراجع حرية التعبير وتقمع الحريات ويُكبت المثقفون، ولأن سلطة القوة تحتاج إلى مبرّراتٍ لوجودها ومسوغات لحكمها، فقد اعتلى منصة الخطابة والإفتاء سلفيون مدعمون فكريا وماليا من السعودية.
أصدر هذه الفتوى أفرادُ لجنةٍ دينيةٍ من أتباع التيار السلفي المُدخلي الذي يتخذ مما يفتي به داعية الدين السعودي، ربيع المدخلي، مرجعا للأحكام الشرعية. وأهم الأحكام في خضم الصراع عن السلطة في ليبيا أن أتباع هذا "المدخلي" يرون في خليفة حفتر حاكما وولي أمرٍ شرعيا لا يجوز الخروج عليه، وهنا مربط الفرس في كل القضية. فحفتر يريد أن يحشد لنفسه اعترافا داخليا بولايته، كما حشد لنفسه تمويلا وسلاحا خارجيين. يُحاول بالجمع بينهم الانفراد لنفسه بحكم ليبيا، بفرض أمر الواقع، وتجاوز الإجماع الوطني واتفاق الصخيرات وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا.
يتبع أغلب سكان ليبيا المذهب المالكي، كما بقية سكان المغرب الكبير، مع وجودٍ للمذهب
أسس عبد الرحمن بن رستم الذي كان واليا على القيروان في تونس دولة إباضية، سميت باسمه "الدولة الرستمية"، كان ذلك سنة 160 هجرية (761 ميلادية) في مدينة تاهرت (تيارت في الجزائر). والتي امتد نفوذها إلى أمازيغ جبال نفوسة في ليبيا، الذين يقول عنهم الدكتور محمد حسن مهدي في كتابه "الإباضية.. نشأتها وعقائدها" (عمّان، 2011) "كانت نفوسة من أوسع قبائل البربر وأكثرها انتشارا.. وتضرب شعوبها في أحواز طرابلس وجبل نفوسة حتى مشارف القيروان.. ولما قامت الدولة الرستمية في تاهرت، كان النفوسيون من أشد مناصريها ضد خصومها، ولا غرو، فلقد حظوا بأهم المناصب العامة في الدولة، إلا أنهم، على الرغم من تبعيتهم للإمامة في تاهرت، كانوا شبه مستقلين، نظرا لبعد المسافة بينهم وبين تاهرت". ولم تسقط دولة الرستميين إلا سنة 296 هجرية 908 ميلادية على يد أبي عبد الله الحجاني الشيعي الذي قتل الإمام الإباضي اليقظان بن أبي اليقظان وأسرته وحاشيته.
شدَّ الإباضيون من قبل تأسيس دولة الرستميين على مذهبهم بالنواجذ، وعاشوا في وئام مع محيطهم الذي ينتهج المذهب المالكي، بعد انحسار المذهب الشيعي عن المغرب الكبير.
لم تستدع فتوى تكفير المذهب الإباضي التي أطلقتها مجموعةٌ من التابعين للتيار السلفي، التاريخَ الليبيَ أو الطبيعةَ القبليةَ المتماسكةَ للمجتمع، ففي ليبيا 105 قبائل وفق إحصاء المستعمر الإيطالي الذي ذكره رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، سيلفيو برليسكوني، في كتاب "طريقتي" الذي أعده ألان فريدمان.
عاشت هذه القبائل قرونا طويلة، متناغمة في عيشها، متوائمةً مع اختياراتها المذهبية والدينية، ولم تُعكر صفوها العقائدي أي شائبةٍ، حتى جاءت هذه الفتوى التي تحمل في طياتها جرعةً سياسيةً بامتياز، فهي بانتصارها لشخصية وقيادة عسكريتين، نسفت الخصوصية الليبية، وأدخلت عليها طريقةً في الحياة الدينية لا تمت بصلة لما دأب عليه المجتمع الليبي، جيلا بعد جيل.
جاءت الفتوى سابقةً في تاريخ ليبيا، فهي تنسف أيضا أساسا من أسسِ المواطنةِ والعيشِ
من نافلة القول، التأكيد على رفض جميع الدعوات التكفيرية والتحريض، والعنف اللفظي والإرهاب الفكري والديني، لأن من شأن ذلك إلغاء الحرية، وإلغاء المواطنة التي يقف فيها الناس جميعا متساوين أمام القانون الذي يبدو أن حكومة "البيضاء" المؤقتة تتصرف حياله، إما مغلولة اليدين، لاستقواء أصحاب هذه الدعوات بدول أجنبية، تتدخل في الشأن الليبي، أو أنها تستغل انهيار مؤسسات الدولة المدنية والديمقراطية، لتُطلق بإرادتها يدَ من يُصدرون مثل هذه الفتاوى، للتحريض على الكراهيةِ ضد مكونٍ أصيلٍ من مكوناتِ الهُوية الثقافيةِ والدينية الليبية. وفي الحالتين، أصبح تماسك المجتمع الليبي أمام امتحان صعب، لا يمكن الخروج منه إلا بتماسك مقدّرات الليبيين في وجه أي دخيل.