"لمّ الشمل" في الجزائر والانسداد السياسي
أطلق الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مشاورات سياسية مع رؤساء أحزاب وناشطين في العمل السياسي، وذلك بعد فترة طويلة من صمت سياسي خيم على المشهد الجزائري منذ الانتخابات المحلية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، حتى كاد السكوت يتحوّل إلى حالة من انسداد سياسي شديد، فغياب العمل الحزبي أصبح حالة مرضية لا تعالجها إلا المناسبات الانتخابية التي ينشط فيها العمل السياسي والحراك الحزبي.
اكتفت الرئاسة الجزائرية بنشر بيان مقتضب، أشار إلى الاستقبالات، من دون تطرّق إلى فحوى مباحثاتها، ولم تضف الأحزاب في حديثها عن اللقاءات إلا كلمات عامة، كما في بيان حزب جبهة المستقبل الذي قال إن اللقاء بين رئيس الحزب عبد العزيز بلعيد والرئيس تبون تطرّق إلى "مراجعة التحديات الوطنية والدولية، واستكمال بناء المؤسسات المنتخبة وإرساء المنظومة القانونية الصحيحة التي من شأنها تحقيق الوثبة الاقتصادية والاجتماعية".
وتُدرج أغلب قراءات المشهد السياسي الحالي اللقاءات ضمن مسعى السلطة إلى حشد ما يمكن حشده من جهود سياسية لإنجاح مبادرة "لم الشمل" التي أعلنتها الرئاسة، عبر وكالة الأنباء الرسمية، ولم يُكشف عن تفاصيلها بعد، ما زاد من منسوب الغموض بشأنها، وأدّى إلى طرح أسئلة عن المقصودين بها، والسبل القانونية لتحقيقها، وعن مداها الزمني، والشروط المتوفرة لإنجاحها. ولا تزال الأوساط السياسية في الجزائر تترقب مضمون المبادرة. وترجّح تسريبات إعلامية أن تشمل النُشطاء المعارضين في الخارج، فيما تذهب تفسيراتٌ أخرى إلى إن الرئيس تبّون يُخطّط لغلق ملف الحراك الشعبي نهائياً، بإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي، والانفتاح على معارضي الداخل والخارج قبل الاحتفالات بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر يوم 5 يوليو/ تموز المقبل.
لعل مبادرة "لم الشمل" للرئيس تندرج في إطار الواقعية السياسية التي فرضتها الظروف المحلية والدولية
بمناسبة اليوم العالمي لحرية التعبير والصحافة، 3 مايو/أيار، قالت حركة مجتمع السلم، أكبر الأحزاب المعارضة في الجزائر، إنها تسجل حجم التراجع الكبير في حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان في الجزائر، وإن هذا "نتيجةٌ حتمية لعدم التزام السلطات السياسية والأمنية بمعايير الحكم الراشد، والتوسُّع المفرط في استخدام تقنيات الرقابة والمتابعة للصحافيين والسياسيين والنشطاء الحقوقيين". فهل ستكون مبادرة "لم الشمل" أرضية صلبة يمكن البناء عليها للمرحلة المقبلة من العلاقة بين المجتمع والسلطة في الجزائر؟
تعرف السلطة يقينا نقصان ثقة بقية المجتمع، والمجتمع السياسي خصوصا، بها، فإقبال الناخبين الضعيف في أربعة انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية ودستورية يكفي ليشي بحجم الهوّة التي تفصل بين الفريقين. ولعل مبادرة "لم الشمل" للرئيس تندرج في إطار الواقعية السياسية التي فرضتها الظروف المحلية والدولية. وقد أعلن حزب الأغلبية النيابية، جبهة التحرير الوطني، دعمه المبادرة، وقال إنها تأتي "تأمينا للجزائر في مواجهة مختلف التحديات التي تحيط بها، في وقت يعاني فيه العالم من العديد من التوترات، والأزمات بكل ما لها من تداعيات خطيرة". ويُبشر الرئيس تبون في تصريحاته بما يسميها "الجزائر الجديدة"، وهو يعرف أنه يحتاج مشاركة شعبية كبيرة لتحقيق ذلك (كانت المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية الماضية متدنية باعتراف رسمي)، وأنه بحاجة إلى تحرير الفعل السياسي، وتصفية الملفات العالقة في حرية الإعلام والحقوق.
وتعترف السلطة أيضا بوجود طيف من الجزائريين لم يكن راضيا عن مسار التغيير الذي تبنّته السلطة بعد حراك 22 فبراير (2019)، عقب تنحية الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وهو ما تُشير إليه برقية وكالة الأنباء الرسمية بقولها إن المبادرة تأتي "للمّ شمل كل الأشخاص والأطراف التي لم تكن تتفق في الماضي"، وتوضح الوكالة إنه "يجب أن يعرف أولئك الذين لم ينخرطوا في المسعى، أو الذين يشعرون بالتهميش، أن الجزائر الجديدة تفتح لهم ذراعيها من أجل صفحة جديدة".
مبادرة "لم الشمل" أو "اليد الممدودة" خطوة مفاجئة للقوى السياسية، ومحاولة للخروج من حالة الركود السياسي
تُطالب القوى السياسية في الجزائر، منذ اعتلاء عبد المجيد تبون السلطة في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، بالذهاب إلى إصلاحاتٍ عميقة، وإلى القطيعة مع النظام السابق، ولكن السلطة تريثت دائما في الاستجابة لمطالب المعارضة، مفضّلة تطبيق خريطة الطريق الخاصة بها، والتي أجرت، من خلالها، أربعة انتخابات، كان الاقتراع على الدستور أهم استحقاق فيها.
مبادرة "لم الشمل" أو "اليد الممدودة" خطوة مفاجئة للقوى السياسية، ومحاولة للخروج من حالة الركود السياسي، والبحث عن بدائل ممكنة للسلبية التي ميزت الأداء الحزبي منذ فترة طويلة. ورغم أن وكالة الأنباء الجزائرية لم تكن واضحة بخصوص المعنيين بالمبادرة، فقد تحدّثت عن "يد الرئيس ممدودة للجميع دون إقصاء، باستثناء الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء، وأولئك الذين أداروا ظهرهم لوطنهم". وإذ أدرجت السلطات الجزائرية، العام الماضي، حركتي "رشاد" المعارضة و"الماك" الانفصالية منظمتين إرهابيتين، ولا يُعرف بعد إن كانت مبادرة الرئيس تشملهما والمتعاطفين معهما، أم أنهما تدخلان ضمن "الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء"، وتُستثنيان من لم الشمل الذي يُفترض أنه يتزامن مع عيد الاستقلال المقبل.
لم تنخرط الطبقة السياسية بعد في مناقشة "لم الشمل"، والسبب أن السلطة الجزائرية لم تدخل بعد ميدان التسويق السياسي لهذه المبادرة، فلم تعلن عن مضمونها، ولم تكشف عن فحوى لقاءات الرئيس ببعض رؤساء الأحزاب. وفي كل الأحوال، تبقى المبادرة رهينة بتوسعة الحوار، ليشمل مختلف أطياف المجتمع ومكوناته، وبلورة مبادرة أكثر عمقا ووضوحا، وإطلاق سراح جميع المعتقلين. فمن شأن ذلك كله أن يحقّق الهدف المنشود من" اليد الممدودة"، وأن يدفع نحو انفراج سياسي حقيقي يساهم في تحصين البلاد من الداخل، ومواجهة أي تحدّيات اقتصادية أو خارجية.