فرانكشتاين سبتمبر
بعد ليال من الاشتباكات، خرجت أنا وزوجي نطوف المدينة، كانت هادئة يلفها السكون والغموض معا، نقاط التفتيش تزاحم ذلك السكون وأطفال لا يتجاوزون متراً ونصف المتر يقفون خلف طبقة من غبار الأرض التي وهبوها لماض سحيق من دون أن يدركوا ذلك..
ما زالت ابتسامة ذلك الطفل في نقطة المحافظة في بيت بوس عالقة بمخيلتي، ولا أظن أنها ستفارقني يوما، كانت ابتسامة الظافر الخجول الذي يحاول أن يخبئ فرحته اللا مبررة، ابتسامة من يحصل على علامة كاملة في مادة ما لم يستعد لها ولم يتوقع يوما اجتيازها، لكنه فعل..
كانت عيناه العسليتان تخوضان حربا جديدة في شوارع المدينة، كنت أرتدي نظارتي الشمسية وأجلس بجانب زوجي في المقعد الأمامي حين قررت أن أرفع النظارة لأدقق في تفاصيله أكثر.. لم أر إلا اليمني الذي وصفه البردوني:
عرفته يمنيا في تلفته
خوف
وعيناه تاريخ من الرمد
من خضرة القات في عينيه
أسئلة
صفرٌ، تبوح كعود نصف متقد.
حدقت في عينيه، بيأس، بحسرة، بألم لكن بحب لم أتمكن من حجبه، كنت أعلم أنه ضحية مثلي أو أكثر، طأطأ رأسه للأرض بخجل، وقال: اتفضلوا أهلا وسهلا!.. كان يرحب بي في مدينتي وهو الغريب عنها، لكني مع الأيام أدركت أنه كان يرحب بنا إلى الثقب الأسود الذي ابتلع مدينته مسبقا.
قدنا السيارة في ضواحي المدينة ونحن نستمع لداليدا تغني حلوة يا بلدي، كانت علاقتنا بالوطن تتوطد كلما شعرنا بجاذبية ثقب ما قبل الجمهورية ما قبل الثورة ما قبل الحرية ونقاوم، نقاوم بالموسيقى والحلم.
كنا نجلس في ممر شقتنا الصغيرة ونتابع المسلسلات والأفلام والحفلات الموسيقية ونقرأ الروايات بصوت عال لنقتل الخوف الذي يخيم على المدينة أو بالأدق لنمنعه من التسرب إلى أرواحنا.
في تلك الليلة كنا نقرأ الرواية الفائزة بالبوكر "فرانكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي، ايش اسمه أو الشسمة كان بطل الرواية وأظن الكاتب يقصد به العدالة المزيفة، التطرف الديني، خداع الذات، الجانب المظلم في كل إنسان..
الشسمة شخص يحاول إنقاذ نفسه بدعوى الانتقام للعدالة ثم ينتهي به الأمر إلى مجرم يقاوم من أجل البقاء، هو شبح يرافقك طوال قراءة الرواية ثم يزورك في الليل كي يستعير عينيك أو إحدى ساقيك لترميم جسده، الشسمة روح تلبست جسدا مخيطا من عشرات ضحايا الانفجارات، وهو الوجه الآخر للمستقبل الذي كنا نعلم أنه بانتظارنا.
إلا أننا ولسبب لا أعلمه حتى اللحظة كنا وما زلنا على يقين كامن في أعماقنا نؤمن أنها فترة عصيبة وستمر، من 2014 حتى 2018 لم أشعر يوما بأن الزمن طبيعي، إنه يهرول بسرعة، كمن يعرف طريقه، يعلم أنه قد مر من هنا يوما ورحل، يعلم أنه يجب أن يعود إلى النقطة التي أتى منها ليسمح للحاضر بالعبور ولنا بالحياة.
فرنكشتاين سبتمبر هو يوم الانقلاب الذي يحاول أن يخيط من جثث اليمنيين أرضا يحكمها بعد أن ثاروا على الإمامة والكهنوت في ذات الشهر قبل عقود مضت.. لكن وكما قال الشابي:
ولا بد لليل أن ينجلي .. ولا بد للقيد أن ينكسر.