فرج فودة.. 3 دقّات

11 يونيو 2019
+ الخط -
أما الأولى، فهي للإسلاميين: لم يكن فرج فودة كافراً، وفق المعايير التراثية للتكفير، لا علاقة لهذا التقييم بحرية المعتقد، وحقه الأصيل في أن يؤمن أو يكفر كما يشاء. أتحدّث من داخل المنطق الإسلامي نفسه، وأتحدّى أن يأتي واحد ممن كفّروه أو ممن فرحوا بهذا التكفير فأيدوه وبرّروه ووزّعوه، أتحداهم أن يأتوا بدليل واحد "حقيقي" و"متماسك" على كفر الرجل. فودة مؤمن كما تشهد كتاباته، مسلم كما تشهد كتاباته، خصمٌ للإسلاميين الحركيين كما تشهد كتاباته، وهذا حقه، ولا يحسم من رصيد إيمانه أو إسلامه، فالله لم يتعبدنا بالإسلاميين، في ما أعتقد وأزعم. وعليه، فإن اتهام فودة بالكفر، لتصفية حساباتٍ سياسية، جريمة دينية، قبل أن تكون سياسية وأخلاقية. وما ترتب على هذا الاتهام من إهدار لدمه جريمة أكبر، وكل من تورّط، بالكلمة أو التنفيذ، مجرم كان يستحق العقاب أمام القضاء، حينها، ولم يزل يستحق الإدانة، أمام التاريخ، في كل حين، وعند الله تجتمع الخصوم. 
وأما الثانية فهي للتنويريين: لم يأت فودة بجديد، طرح أفكارا قديمة، بقلمٍ رشيق، وكتابة ممتعة، ومستفزّة، وشواهد أغلبها من كتب الإسلاميين أنفسهم، ووظّف ذلك كله في خدمة الدولة لا رسالة التنوير. خاض فودة معركة الدولة مع الإسلاميين، في بعديْها، الجماهيري والسياسي، حمل رواية الدولة على كتفيه، وخاض بها معركة الكتابة والانتخابات والمناظرات، وكان شجاعا حقا، لكنه، كسياسي، لم يكن يبشّر بدولة ديمقراطية حرّة، فودة من كتاباته وتصريحاته المتكرّرة، كان يرى في الحكم العسكري حكما مدنيّا، لمجرّد أنه ليس إسلاميا. في مناظرة معرض القاهرة للكتاب الشهيرة، يقول الرجل إن هذه المناظرة لا يمكن أن تنعقد تحت حكم الإسلاميين. صدق، وأنهم جميعا هنا ورؤوسهم فوق أكتافهم، لأن المناظرة في دولة مدنية، وهذا هو الكذب والتزوير بألف ولام العهد، لا الحكم العسكري مدني، ولا حسني مبارك كان مدنيا، ولا عبد الفتاح السيسي الآن، ولا أنور السادات ولا حتى جمال عبد الناصر. جميعهم عسكر حكموا مصر تحت تهديد السلاح، وكانوا سببا رئيسا في تخلفها وانحطاطها وتراجعها، على ما بينهم من اختلافات، في البوصلة والمشروع، والإسلام السياسي نفسه، في هذه الصورة المنحطّة، هو أحد منتجات مصانع الجيش.
لم يكن فرج فودة يتبنّى رواية دولة مبارك وحدها، إنما دولة يوليو، فسجون عبد الناصر كانت "في غاية الراحة، والنظافة، واحترام الآدمية، وكان يسمح فيها في بعض الأوقات بخروج المسجونين لعيادات الأطباء أو لممارسة واجبات الزوجية، ناهيك عن مصروف جيب شخصي كان يصرف لكل فرد منهم". هكذا يكتب فودة بالنص في كتابه، الممتع، "الإرهاب"، ويشدّد على أنه لم يكن هناك تعذيب في محاولة بائسة لتبرئة دولة يوليو من مسؤوليتها في تفريخ متطرّفين داخل سجونها، والكلام واضح لا يحتمل التأويل، ولا يستحق المناقشة، مجرّد إيراده ردٌّ عليه، ولهذا خلق الله الأسف.
وأما الثالثة، فلنا: نحن أبناء هذا الجيل، تجربتنا مختلفة، قرأنا محمد الغزالي وفودة معا، محمد عمارة وفؤاد زكريا معا، تمثّلنا تجاربهم. علينا الآن أن نتجاوزهم. في تصوّري أن جيل فودة، على الرغم من إضافته، شغلنا بمعارك وهمية، واستهلكنا بلا معنى، هذا الصراع الإسلامي العلماني كان حقا بلا معنى، لم يستفد به، بل لم يدفع له ويعزّزه، ولم يزل، سوى الدولة.. الدولة التي استفادت من الجميع ولعبت بالجميع، وتحالفت مع الجميع وانقلبت على الجميع، ليذهب الجميع وتبقى هي، شوكة في حلق المستقبل..
في الاحتفاء، المستحق، بفرج فودة، علينا ألا ننسى أننا نحتاج لتنوير آخر، لا يتذرّع بخصومة الإسلاميين لتمرير أفكار العساكر. أقول مع فرج فودة: إن ما يقدّمه الإسلاميون ليس إسلاما، وإن اختبأ خلف ألف شعار إسلامي. وأقول في مواجهة أفكاره، والمتحمّسين لها وله: إن ما يقدّمه خطاب التنوير الحكومي (بتعبير نصر أبو زيد) تزويرٌ محض، وإن جاءنا من بوابة مقاومة التطرّف والدعشنة. دولتنا شيء آخر، وكذلك حلمنا.
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان