يبدو فريدريك شوبان (1810 - 1849) تعبيراً عن صورة عفوية من عصر تملأه الانفعالات، كما أن مؤلفاته الموسيقية مهدت للروح القومية التي ستعصف بكل أوروبا. 170 عاماً تمرّ على رحيله، بينما مؤلفاته الموسيقية وبصمته تعتقت بشاعرية حالمة.
تحيلنا ملامحه الموسيقية إلى هيئة تشكلت من نصفين التقيا في زمنين مختلفين، لم يكن التقاؤهما ممكناً. غير أن رومانتيكيته الثورية ارتبطت بسمات محافِظة تعود في أساسها إلى طراز رومانتيكي باروكي بزخارفه الغنية وأسلوب عزفه المرهف على البيانو.
جعل هذا كلّه موسيقى شوبان تتفرد في عصرها، ليس فقط لخصوصية الألحان البولونية التي حملها معه طيلة مساره، بل في تركيباته الموسيقية الفريدة، ونزوعه الرومانتيكي المتسق مع ذائقة أرستقراطية. في تلك الجزئية، يتقاطع مع موزارت الذي دفعه تمرده إلى أن يذهب بعالمه الموسيقي المتوائم مع الذائقة الأرستقراطية نحو عالم رعوي. كلاهما تمرّد على عصره بصورة مختلفة.
تجلت عبقرية شوبان بصورة مبكرة، فاستبشر به البولنديون بوصفه موزارت جديداً، كما لو أنه بطل قومي لهم. وشكلت الألحان البولندية مصدر إلهام، استعاده في سياق محموم بالتذكر والحنين. ترك شوبان وطنه بولندا في عام 1830، متجهاً نحو باريس، عبر فيينا وغوندسبورغ، وعندما وصل إلى شتوتغارت، بلغته أخبار الاحتلال الروسي لبلده. لعل توجهه القومي على صلة بوضعية بلده الشائكة بين ثلاث قوى كبرى هي روسيا وبروسيا والنمسا. هذا الأمر لم يكن ملحاً على موسيقي روسي أو ألماني أو حتى إيطالي، مع أنه سيصبح توجهاً لدى كثير من الموسيقيين الأوروبيين، على رأسهم المجري بارتوك.
يُعتبر شوبان أول مؤلف موسيقي قومي في أوروبا، وانصبت ألحانه بعاطفية مفعمة بالشعرية والمأساوية. جعله نبوغه المبكر متصابياً أيضاً كموزارت، لكن بطابع أكثر تراجيدية، مقارنة بلعبية موزارت المرحة. مع أن تلك السمات اللعبية تظهر في براعة غير مسبوقة على البيانو وفي تراكيب فذة.
كما أن أسلوبه اللحني توافق مع مرحلة رومانتيكية أهملت القالب، وكرست الموسيقى تطلعاً وراء الابتكار اللحني. شوبان ابتعد عن أن يبني لنفسه نموذجاً موضوعياً، وتفاوتت معالجته للثيمات والفواصل الزمنية من دون الالتزام الشكلي. لكنه أول من استخدم الاستهلالات والفواصل التي تثير الدوار، وهي مفاهيم تدين للنقد الموسيقي في القرن العشرين الذي أعاد اكتشاف شوبان موسيقياً.
عُرف عن شوبان تدريبه اليومي على ألحان باخ وموزارت، وخالف في أسلوب عزفه على البيانو طراز عصره السائد. فاستعاد روابط وثيقة مع موسيقيي القرن الثامن عشر، وانحاز إلى المدرسة القديمة الآتية من الإيطالي كليمنتي.
ولدت الموسيقى الرومانتيكية من الأساليب التعبيرية لبيتهوفن، وبلغت أوج ازدهارها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. كان في العشرين من عمره حين استقر في باريس، وبعثت أعماله روحاً جديدة في الموسيقى، ستفضي إلى الحداثة، إذ يقف في مرحلة فاصلة بين موزارت وفاغنر، وسيكون ملهماً لديبوسي. كما أنه أحدث مع موسيقيي جيله، مثل ليست وشومان وبرليوز، انقطاعاً مع الأساليب الكلاسيكية. وكان القرن التاسع عشر عصراً قطيعياً، باعتباره مرحلة فارقة عن سابقتها شغلت حيزاً من الزهو بالتقدمية، فتشكلت قيم الحداثة.
عدا أنه يقف متفرداً بين الرومانتيكيين الكلاسيكيين، مثل برامز ومندلسون، وأيضاً المتطرفين مثل شومان وليست، برهافته وأسلوبه الموسيقي المتحيز للذائقة الأرستقراطية.
انفلتت موسيقى شوبان من القالب، أو البنية الكلاسيكية؛ فخطّ أسلوباً متحرراً وثورياً بتركيبات هارمونية كانت وقتها جديدة، إضافة إلى تلويناته المفعمة. ومع تغيير وظيفة الكوردات في التوافقات اللحنية، منحت ألحانه كثافة صوتية أعلى.
مع شوبان، أيضاً، استعادت الموسيقى إبهاراً في فن الزخرف، ومدّ للرومانتيكية جسوراً مع موسيقى الباروك. ربما، استعار فيها روح باخ وهاندل، وإن بسمات خاصة ومختلفة. لم يكن الزخرف ضمن اهتمام موزارت أو بيتهوفن، ولم يضيفوا له الكثير، هذا الإحياء للزخرف عاد في إيطاليا مع ألحان روسيني وباغنيني، وكان لشوبان نزوع إيطالي مشرق في الموسيقى. كان الموسيقي الفرنسي رافيل عندما يتحدث عن شوبان يقول: "السلافي العظيم ذو التربية الإيطالية". لعل تفرُّد شوبان عن الموسيقيين الكبار، هو ارتباطه الحميمي بالبيانو، بل هو أعظم ملحن من ناحية ارتباطه بآلة واحدة.
من ناحية أخرى، ثمة صلة جوهرية بين شوبان والكاتب الروسي تشيخوف، تتعلق باشتغالهما على أصناف قصيرة. وفي نفس الوقت كانا مُهمّين، سواء في الموسيقى أو الأدب. اقتصر أدب تشيخوف على القصة، ولم يطرق باب الرواية، وكذلك شوبان؛ ألف لقوالب قصيرة، ولم يقترب من السيمفونية.
على العكس من ذلك، اختار شوبان قوالب قصيرة للغاية، تعتمد معظمها على حركة واحدة. وربما لعبت دوراً في التعبير عن روحه الفنية المتسمة بالشعرية والحلمية، في نزوع لمدى لحني وتراكيب ثورية في عصرها. كتب شوبان عملين للكونشرتو في مرحلة مبكرة، غير أن البعض وجد أن كتابته للأوركسترا لم تخرج عن روح البيانو. إن ارتباطه بالبيانو جعلها جزءاً عضويا منه. ارتبطت معظم أعماله بالبالدات والدراسات، والنوكترنز، والاستهلالات، وكذللك الفانتازي بجذورها القائمة على فن الارتجال. يُضاف إلى ذلك قالبان ارتبطا برقصات بولندية هما؛ البولينيز والمازوركا. وحده شوبان رفع تلك القوالب الهامشية في الموسيقى الكلاسيكية إلى مرتبة عالية.
في قالب السوناتا، وهو أكبر قالب مخصص للبيانو أو آلة منفردة، ألف ثلاث سوناتات فقط، الأولى جاءت في مرحلة مبكرة. أما الثانية، فتحظى بشعبية كبيرة بين مؤلفاته، ألفها عام 1839، وفي أكثر مراحل حياته إبداعاً. كانت بداية حياته إلى جانب معشوقته الكاتبة جورج صاند، التي بدأت علاقته بها عام 1838، لتكتب هي نهايتها بعد تسع سنوات.
جاء لحن السوناتا الثانية من مقام سي بيمول على سلم المينور، مخالفاً لأسلوب السوناتا المعهود، فمنحها مسحة دراماتيكية عالية في التعامل مع المضامين، وكذلك تلك السمة المتسعة في الفواصل الزمنية. كما أن الحركة الأولى يمكن أن تكون أهم تطور في فن السوناتا منذ بيتهوفن.
عموماً، شهدت قطعة شوبان ملامح مغايرة لأسلوب السوناتا الشائع، فنجد فيها البالاد، والنوكترن، والسوكسرنز. واحتوت الحركة الثالثة على المارش الجنائزي، وهو اللحن الأكثر شيوعاً، خصوصاً أنه أعطى القطعة اسمها لاحقاً، أي "السوناتا الجنائزية". ويرى البعض أن المارش ألفه شوبان قبل وضعه السوناتا، وأدخله عليها. كما أنه أصبح أحد أكثر الألحان أيقونية، وكثيراً ما توظفه السينما في تصوير مشاهد الخراب ومآسي الحروب.
شهدت موسيقى شوبان انحساراً في التأسيس لقالب أو نسق لحني متماسك في جميع ألحانه. فلم يسعَ إلى عرض ثيمات أو تأسيس وحدة عضوية في بنية أعماله. إنما أعطى أولوية للأفكار الثانوية، على حساب الثيمات الرئيسية. ذلك أن هذا الطراز المفاهيمي للفن، فتح الباب للحداثة في الموسيقى والأدب والفن، وهيمنت سلطة الهامش واليومي، على حساب الجوهري أو الأفكار الكبيرة. وهو ما عبرت عنه لاحقاً رواية "التربية العاطفية" لـ فلوبير، وأيضاً قصائد بودلير.
غير أن شوبان، كما سلف، ظل يميل إلى نسق أرستقراطي، وإن فرض عليه عصره أساليب موسيقية مغايرة، بحيث تزدحم المضامين مقارنة بمعالجة بيتهوفن، وحتى شوبرت الموسيقية، والتي تعتمد على مضامين محدودة مع اتساع في الرؤية الموسيقية. لكن عُرف عنه نفوره من العروض العامة، وخلال مكوثه في فرنسا قدم 19 عرضاً عاماً، فقط في أربعة منها كان العازف الرئيسي، وفي حياته كلها قدم 30 عرضاً. اعتمد شوبان على تقديم الدروس في العزف على البيانو، لأبناء الطبقة الأرستقراطية.
لا يمكن الحديث عن كل سمات شوبان الموسيقية وتلك الأعراف الخاصة به التي لم تكن معروفة في تاريخ الموسيقى. لكنه في موسيقى البالدات الأربع التي ألفها، والمصنفة 23 و38 و47 و52، لا يقل أهمية عما فعله بيتهوفن في قالب السوناتا. وسنرى التلوين الكثيف في الخلاصة بالنسبة للبالدة الأخيرة والتوافقات الدراماتيكية متعددة النقاط، والتغيرات المفاجئة مع التلوين الكروماتيكي المكثف، والتدفق في صيغ لحنية وارتجالية. مع وجود التغيير القياسي الدائم في البالدة المصنفة 23.
اعتمد اسلوب شوبان في العزف على السلاسة والمرونة أكثر من اعتماده على القوة، وهو طراز مغاير لما شاع حينه. إضافة الى التقنيات الجديدة التي فتح شوبان أبوابها، استكشف أعرافا جديدة للبيانو لم تكن موجودة قبله. يرى آينشتاين في كتابه "الموسيقى في العصر الرومانتيكي" أنه لا يسعى إلى إدهاش الآخرين أو إبهارهم كما كان يفعل فرانتز ليست. وكما تنزع موسيقى ليست للخطابية وربما للطنطنة الجوفاء، كانت "موسيقى شوبان تحمل بلاغة من يفصح عن دخيلة نفسه بإخلاص وصدق".
ربما هناك صلة بين شوبان وموزارت، إلا أن الأول ظل كئيباً بطابع عصره، بينما صبيانية الآخر كانت في تلك السهولة بالتأليف وتدفقه اللامتناهي. فموسيقى شوبان أيضاً كانت مهمّة على صعيد التركيب رغم انحرافها عن البناء الكلاسيكي، بصيغ معقدة في التركيبات الهارمونية. كان شوبان ثورياً ومحافظاً، نزقاً ومستسلماً، وكان الطفل الحالم.
اقــرأ أيضاً
لعل أكثر شيء تتسم به روح أعمال شوبان تلك الشعرية الحالمة، والنزوع المأساوي والعاطفي المؤثر كمؤلف رومانتيكي، ومع أن البعض قلل من شأنه باعتبار موسيقاه ذات سمات لحنية أكثر منها موسيقية بحتة، إلا ان تراكيبه المُعقدة حد الإعجاز وتصرفه المتحرر بالمضامين والسمات الجمالية الثورية تنسف تلك النظرة المتعسفة؛ كما أن كثيراً من أعماله على البيانو تتسم بتعقيد لا يمكن للهواة عزفها، خصوصاً البالدات والدراسات التي اتسمت بحيز لعبي وتكنيكي. وكما وصف آينشتاين طابع موسيقى شوبان: أعمال تتسم بالتركيز والأحكام.
تحيلنا ملامحه الموسيقية إلى هيئة تشكلت من نصفين التقيا في زمنين مختلفين، لم يكن التقاؤهما ممكناً. غير أن رومانتيكيته الثورية ارتبطت بسمات محافِظة تعود في أساسها إلى طراز رومانتيكي باروكي بزخارفه الغنية وأسلوب عزفه المرهف على البيانو.
جعل هذا كلّه موسيقى شوبان تتفرد في عصرها، ليس فقط لخصوصية الألحان البولونية التي حملها معه طيلة مساره، بل في تركيباته الموسيقية الفريدة، ونزوعه الرومانتيكي المتسق مع ذائقة أرستقراطية. في تلك الجزئية، يتقاطع مع موزارت الذي دفعه تمرده إلى أن يذهب بعالمه الموسيقي المتوائم مع الذائقة الأرستقراطية نحو عالم رعوي. كلاهما تمرّد على عصره بصورة مختلفة.
تجلت عبقرية شوبان بصورة مبكرة، فاستبشر به البولنديون بوصفه موزارت جديداً، كما لو أنه بطل قومي لهم. وشكلت الألحان البولندية مصدر إلهام، استعاده في سياق محموم بالتذكر والحنين. ترك شوبان وطنه بولندا في عام 1830، متجهاً نحو باريس، عبر فيينا وغوندسبورغ، وعندما وصل إلى شتوتغارت، بلغته أخبار الاحتلال الروسي لبلده. لعل توجهه القومي على صلة بوضعية بلده الشائكة بين ثلاث قوى كبرى هي روسيا وبروسيا والنمسا. هذا الأمر لم يكن ملحاً على موسيقي روسي أو ألماني أو حتى إيطالي، مع أنه سيصبح توجهاً لدى كثير من الموسيقيين الأوروبيين، على رأسهم المجري بارتوك.
يُعتبر شوبان أول مؤلف موسيقي قومي في أوروبا، وانصبت ألحانه بعاطفية مفعمة بالشعرية والمأساوية. جعله نبوغه المبكر متصابياً أيضاً كموزارت، لكن بطابع أكثر تراجيدية، مقارنة بلعبية موزارت المرحة. مع أن تلك السمات اللعبية تظهر في براعة غير مسبوقة على البيانو وفي تراكيب فذة.
كما أن أسلوبه اللحني توافق مع مرحلة رومانتيكية أهملت القالب، وكرست الموسيقى تطلعاً وراء الابتكار اللحني. شوبان ابتعد عن أن يبني لنفسه نموذجاً موضوعياً، وتفاوتت معالجته للثيمات والفواصل الزمنية من دون الالتزام الشكلي. لكنه أول من استخدم الاستهلالات والفواصل التي تثير الدوار، وهي مفاهيم تدين للنقد الموسيقي في القرن العشرين الذي أعاد اكتشاف شوبان موسيقياً.
عُرف عن شوبان تدريبه اليومي على ألحان باخ وموزارت، وخالف في أسلوب عزفه على البيانو طراز عصره السائد. فاستعاد روابط وثيقة مع موسيقيي القرن الثامن عشر، وانحاز إلى المدرسة القديمة الآتية من الإيطالي كليمنتي.
ولدت الموسيقى الرومانتيكية من الأساليب التعبيرية لبيتهوفن، وبلغت أوج ازدهارها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. كان في العشرين من عمره حين استقر في باريس، وبعثت أعماله روحاً جديدة في الموسيقى، ستفضي إلى الحداثة، إذ يقف في مرحلة فاصلة بين موزارت وفاغنر، وسيكون ملهماً لديبوسي. كما أنه أحدث مع موسيقيي جيله، مثل ليست وشومان وبرليوز، انقطاعاً مع الأساليب الكلاسيكية. وكان القرن التاسع عشر عصراً قطيعياً، باعتباره مرحلة فارقة عن سابقتها شغلت حيزاً من الزهو بالتقدمية، فتشكلت قيم الحداثة.
عدا أنه يقف متفرداً بين الرومانتيكيين الكلاسيكيين، مثل برامز ومندلسون، وأيضاً المتطرفين مثل شومان وليست، برهافته وأسلوبه الموسيقي المتحيز للذائقة الأرستقراطية.
انفلتت موسيقى شوبان من القالب، أو البنية الكلاسيكية؛ فخطّ أسلوباً متحرراً وثورياً بتركيبات هارمونية كانت وقتها جديدة، إضافة إلى تلويناته المفعمة. ومع تغيير وظيفة الكوردات في التوافقات اللحنية، منحت ألحانه كثافة صوتية أعلى.
مع شوبان، أيضاً، استعادت الموسيقى إبهاراً في فن الزخرف، ومدّ للرومانتيكية جسوراً مع موسيقى الباروك. ربما، استعار فيها روح باخ وهاندل، وإن بسمات خاصة ومختلفة. لم يكن الزخرف ضمن اهتمام موزارت أو بيتهوفن، ولم يضيفوا له الكثير، هذا الإحياء للزخرف عاد في إيطاليا مع ألحان روسيني وباغنيني، وكان لشوبان نزوع إيطالي مشرق في الموسيقى. كان الموسيقي الفرنسي رافيل عندما يتحدث عن شوبان يقول: "السلافي العظيم ذو التربية الإيطالية". لعل تفرُّد شوبان عن الموسيقيين الكبار، هو ارتباطه الحميمي بالبيانو، بل هو أعظم ملحن من ناحية ارتباطه بآلة واحدة.
من ناحية أخرى، ثمة صلة جوهرية بين شوبان والكاتب الروسي تشيخوف، تتعلق باشتغالهما على أصناف قصيرة. وفي نفس الوقت كانا مُهمّين، سواء في الموسيقى أو الأدب. اقتصر أدب تشيخوف على القصة، ولم يطرق باب الرواية، وكذلك شوبان؛ ألف لقوالب قصيرة، ولم يقترب من السيمفونية.
على العكس من ذلك، اختار شوبان قوالب قصيرة للغاية، تعتمد معظمها على حركة واحدة. وربما لعبت دوراً في التعبير عن روحه الفنية المتسمة بالشعرية والحلمية، في نزوع لمدى لحني وتراكيب ثورية في عصرها. كتب شوبان عملين للكونشرتو في مرحلة مبكرة، غير أن البعض وجد أن كتابته للأوركسترا لم تخرج عن روح البيانو. إن ارتباطه بالبيانو جعلها جزءاً عضويا منه. ارتبطت معظم أعماله بالبالدات والدراسات، والنوكترنز، والاستهلالات، وكذللك الفانتازي بجذورها القائمة على فن الارتجال. يُضاف إلى ذلك قالبان ارتبطا برقصات بولندية هما؛ البولينيز والمازوركا. وحده شوبان رفع تلك القوالب الهامشية في الموسيقى الكلاسيكية إلى مرتبة عالية.
في قالب السوناتا، وهو أكبر قالب مخصص للبيانو أو آلة منفردة، ألف ثلاث سوناتات فقط، الأولى جاءت في مرحلة مبكرة. أما الثانية، فتحظى بشعبية كبيرة بين مؤلفاته، ألفها عام 1839، وفي أكثر مراحل حياته إبداعاً. كانت بداية حياته إلى جانب معشوقته الكاتبة جورج صاند، التي بدأت علاقته بها عام 1838، لتكتب هي نهايتها بعد تسع سنوات.
جاء لحن السوناتا الثانية من مقام سي بيمول على سلم المينور، مخالفاً لأسلوب السوناتا المعهود، فمنحها مسحة دراماتيكية عالية في التعامل مع المضامين، وكذلك تلك السمة المتسعة في الفواصل الزمنية. كما أن الحركة الأولى يمكن أن تكون أهم تطور في فن السوناتا منذ بيتهوفن.
عموماً، شهدت قطعة شوبان ملامح مغايرة لأسلوب السوناتا الشائع، فنجد فيها البالاد، والنوكترن، والسوكسرنز. واحتوت الحركة الثالثة على المارش الجنائزي، وهو اللحن الأكثر شيوعاً، خصوصاً أنه أعطى القطعة اسمها لاحقاً، أي "السوناتا الجنائزية". ويرى البعض أن المارش ألفه شوبان قبل وضعه السوناتا، وأدخله عليها. كما أنه أصبح أحد أكثر الألحان أيقونية، وكثيراً ما توظفه السينما في تصوير مشاهد الخراب ومآسي الحروب.
شهدت موسيقى شوبان انحساراً في التأسيس لقالب أو نسق لحني متماسك في جميع ألحانه. فلم يسعَ إلى عرض ثيمات أو تأسيس وحدة عضوية في بنية أعماله. إنما أعطى أولوية للأفكار الثانوية، على حساب الثيمات الرئيسية. ذلك أن هذا الطراز المفاهيمي للفن، فتح الباب للحداثة في الموسيقى والأدب والفن، وهيمنت سلطة الهامش واليومي، على حساب الجوهري أو الأفكار الكبيرة. وهو ما عبرت عنه لاحقاً رواية "التربية العاطفية" لـ فلوبير، وأيضاً قصائد بودلير.
غير أن شوبان، كما سلف، ظل يميل إلى نسق أرستقراطي، وإن فرض عليه عصره أساليب موسيقية مغايرة، بحيث تزدحم المضامين مقارنة بمعالجة بيتهوفن، وحتى شوبرت الموسيقية، والتي تعتمد على مضامين محدودة مع اتساع في الرؤية الموسيقية. لكن عُرف عنه نفوره من العروض العامة، وخلال مكوثه في فرنسا قدم 19 عرضاً عاماً، فقط في أربعة منها كان العازف الرئيسي، وفي حياته كلها قدم 30 عرضاً. اعتمد شوبان على تقديم الدروس في العزف على البيانو، لأبناء الطبقة الأرستقراطية.
لا يمكن الحديث عن كل سمات شوبان الموسيقية وتلك الأعراف الخاصة به التي لم تكن معروفة في تاريخ الموسيقى. لكنه في موسيقى البالدات الأربع التي ألفها، والمصنفة 23 و38 و47 و52، لا يقل أهمية عما فعله بيتهوفن في قالب السوناتا. وسنرى التلوين الكثيف في الخلاصة بالنسبة للبالدة الأخيرة والتوافقات الدراماتيكية متعددة النقاط، والتغيرات المفاجئة مع التلوين الكروماتيكي المكثف، والتدفق في صيغ لحنية وارتجالية. مع وجود التغيير القياسي الدائم في البالدة المصنفة 23.
اعتمد اسلوب شوبان في العزف على السلاسة والمرونة أكثر من اعتماده على القوة، وهو طراز مغاير لما شاع حينه. إضافة الى التقنيات الجديدة التي فتح شوبان أبوابها، استكشف أعرافا جديدة للبيانو لم تكن موجودة قبله. يرى آينشتاين في كتابه "الموسيقى في العصر الرومانتيكي" أنه لا يسعى إلى إدهاش الآخرين أو إبهارهم كما كان يفعل فرانتز ليست. وكما تنزع موسيقى ليست للخطابية وربما للطنطنة الجوفاء، كانت "موسيقى شوبان تحمل بلاغة من يفصح عن دخيلة نفسه بإخلاص وصدق".
ربما هناك صلة بين شوبان وموزارت، إلا أن الأول ظل كئيباً بطابع عصره، بينما صبيانية الآخر كانت في تلك السهولة بالتأليف وتدفقه اللامتناهي. فموسيقى شوبان أيضاً كانت مهمّة على صعيد التركيب رغم انحرافها عن البناء الكلاسيكي، بصيغ معقدة في التركيبات الهارمونية. كان شوبان ثورياً ومحافظاً، نزقاً ومستسلماً، وكان الطفل الحالم.