أدى تأسيس "التجمع الوطني الديمقراطي" إلى إثراء الفكر والخطاب السياسيين للفلسطينيين في الداخل، وجاء تأسيس التجمع، في جزء منه، كنتاج لاتفاق أوسلو، والحاجة إلى تطوير خطاب فكري جديد يتعامل مع التغييرات التي حصلت في العلاقة مع الدولة العبرية من جهة، والعلاقة مع الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة أخرى في أعقاب الاتفاق، علاوة على وضوح وجهة المشروعين الفلسطيني والإسرائيلي.
فالأول أقصى الفلسطينيين في الداخل بشكل كامل من المشروع الوطني الفلسطيني، والثاني توغل في يهوديته، أو على الأقل كشف أوسلو عن أن خطاب المساواة الذي ساد في الخطاب السياسي العربي لم يرتق إلى حجم تحدي مكانة الفلسطينيين المدنية والقومية في سياق الدولة اليهودية، التي كرّسها أوسلو بتهميش قضايا الفلسطينيين في الداخل.
انطلق "التجمع" من فكرتين أساسيتين: الأولى، دولة المواطنين تهدف إلى تحييد الدولة كدولة إثنية إقصائية، وفي نفس الوقت تضمن الحقوق الجماعية للمجموعتين القوميتين فيها، والثانية حل الدولتين.
لم يفصل "التجمع" بين الفكرتين، برغم الحدود السياسية الجغرافية الفاصلة بينهما، فحل الدولتين دون حل دولة المواطنين يشكل ظلماً تاريخياً للمجموعة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وحل الدولة الفلسطينية- بدون حل دولة المواطنين- قد يضمن الحقوق القومية للفلسطينيين عموما ويستثني الفلسطينيين داخل الخط الأخضر من حق تقرير المصير في صيغة حقوق جماعية ثقافية.
في هذا السياق، يخطئ من يعتقد أن حل دولة المواطنين يتناقض مع الحقوق الجماعية، لأن دولة المواطنين كانت تهدف، من وجهة نظر "التجمع"، إلى تحييد الدولة أيديولوجياً، وليس إلى تغييب الحقوق القومية والجماعية للمجموعة القومية الفلسطينية داخلها.
تعزّزت في هذه الفترة عمليات التواصل والتفاعل على المستوى السياسي الحزبي على جانبي الخط الأخضر، وتم إحياء ذكرى النكبة لأول مرة عبر مسيرة العودة في عام 1998، وبدا الخطاب السياسي واضحاً تجاه قضايا ومركبات المشروع الوطني مثل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
كما لعبت التيارات السياسية في الداخل دوراً في تعميق الوعي في الحركة الوطنية لرفض الطلب الإسرائيلي بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية كشرط مسبق لإنهاء الصراع، ومعارضة مشروع ضم المثلث أو التبادل السكاني كجزء من الحل النهائي.
يمكن القول إن المرحلة التي أعقبت اتفاق أوسلو وفشله أثرت الخطاب والعمل السياسي لمعارضي الاتفاق ومؤيديه.
وظهر ذلك في تعبيرات كثيرة، فمثلاً بدأت الحركة الإسلامية مشروعها للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك وتعزيز صمود أهل القدس، وقبل ذلك برز الدور الذي لعبته القائمتان العربيتان في "الكنيست" (الجبهة الديمقراطية والحزب الديمقراطي العربي) في دعم حكومة رابين من الخارج، وأطلق عليهما الكتلة المانعة، من أجل المضي في تنفيذ اتفاق أوسلو.
تعرّجات إلى المشروع الوطني الجامع
علاوة على ذلك، شكل اتفاق أوسلو صدمة للفلسطينيين داخل الخط الأخضر. فمن جهة، اعتبر الحزب الشيوعي- الجبهة أن الاتفاق هو تأكيد على توجهها السياسي منذ عقود لحل الصراع عبر المفاوضات وحل الدولتين، والكتلة المانعة في الكنيست إبان حكومة رابين لم تكن خروجاً عن الخط السياسيّ للجبهة في هذا الصدد.
ومن جهة أخرى، كشف الاتفاق الموقع الحقيقيّ للفلسطينيين في الداخل من المشروع الوطني الفلسطيني، فهم "مواطنون إسرائيليون" فقط، وخارج المشروع الوطني، وأدى ذلك إلى نقد إطار المواطنة القائم، ونقد المشروع الوطني المتشكل بناء على المفاوضات في نفس الوقت. وجاء تأسيس "التجمع الوطني الديمقراطي" وانقسام الحركة الإسلامية وأبناء البلد، نتيجة وضوح وُجهة كل من "منظمة التحرير الفلسطينية" و"إسرائيل" ومشروعهما؛ أي تهميش فلسطينيي الـ 48، مما أعاد تشكيل الخطاب السياسيّ الفلسطيني داخل الخط الأخضر.
أحدث اتفاق أوسلو "أسلمة" في الخطاب السياسي والفكري للحركة الإسلامية، وربما أدت هذه الأسلمة إلى انشقاقها، ومسألة الخلاف حول المشاركة في انتخابات الكنيست كانت بين من أراد إخضاعها للنص الدينيّ-الشرعيّ وبين من أراد نقاشها في السياق السياسيّ بعيداً عن النص، مستحضراً التجربة التاريخية الإسلامية، وهي تدخل في إطار السياق السياسيّ وليس النص.
والحركة الإسلامية التي أخضعت المشاركة للنص الدينيّ-الشرعيّ اتجهت نحو تبنّي فكرة الجامعة الإسلامية كحاضن للمشروع الوطني الفلسطيني، بينما الحركة التي التصقت بالسياق السياسيّ بقي تصوّرها خاضعاً لهذا السياق، بتبنّيها حل الدولتين، وإبقاء فكرة الجامعة الإسلامية تصوراً فكرياً لا سياسياً. هكذا بينما أخضعت الحركة الأولى السياسة للفكر، أخضعت الثانية الفكر للسياسة.
وفي مراجعة الخطاب الإعلامي - السياسي للحركة الإسلامية قبل الانشقاق، يمكن بسهولة ملاحظة تباين التيارين في الحركة الإسلامية، بين تيار انتقد اتفاق أوسلو من داخله، وهو نفس التيار الذي شارك في انتخابات الكنيست، وبين التيار الذي انتقده من خارجه وهو التيار الذي قاطع الانتخابات.
ربط الحزب الشيوعيّ والجبهة حل "الدولتين لشعبين" بخطاب المساواة، وهو من وجهة نظره يشكل استئنافاً على التمييز الواقع على المواطنين الفلسطينيين في الداخل. أظهرت فترة ما بعد أوسلو أن خطاب المساواة بصيغته التي كانت مطروحة قبل أوسلو لا تشكل استئنافاً جدياً على الدولة اليهودية وتفكيك طابعها التمييزي والتفوق الإثني والقومي.
لذلك نتج عن أوسلو خطاب التجمع نحو دولة المواطنين الذي يربط بين مكانة الفلسطينيين في الداخل وبين طابعها اليهودي في الدرجة الأولى وحل الدولتين في الدرجة الثانية. لم يطرح "التجمع" خطاب دولة المواطنين كبديل لحل الدولتين، ولكنه استأنف على حل "الدولتين لشعبين"، موضحاً التناقض بين المساواة وبين حل دولتين لشعبين.
ثمة في الآونة الأخيرة قدر من الرومانسية الفلسطينية في التعاطي مع التجربة السياسية لفلسطينيي 48، وهي تاريخياً جزء من سيرورة تاريخية بدأت مع انتقال مركز الثقل الوطني والسياسي والنضالي من الشتات قبل عام 1987 إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي ساهم اتفاق أوسلو في تحديد المشروع الوطني في إقامة دولة على هذه البقعة من الوطن الفلسطيني، وانتهاء بانتقال مركز الثقل إلى مناطق 48 بعد وصول هذا المشروع المتآكل إلى مآزق وطريق مسدودة في السنوات الأخيرة.
تمثل هذه اللحظة الرومانسية لحظة مهمة في إعادة الاعتبار لمكانة فلسطينيي 48 في المشروع الوطني أو على الأقل في التعاطي الفلسطيني الإيجابي مع هذه الفئة من الشعب الفلسطيني، مع التأكيد أنه لا يمكن قطع هذا الاهتمام عن التحوّلات التي حدثت في خطاب ونضال فلسطينيّي 48 في العقدين الماضيين.
في نفس الوقت، تنطوي هذه اللحظة الرومانسية على خطورة، لأنها قد لا تدرك في لهفة رومانسيتها السياق السياسي الذي يُحدد خطاب وآليات العمل السياسي والنضالي لفلسطينيي الداخل، سياق المواطنة الذي تفتقر له، إلا إذا تبلور مشروع وطني فلسطيني جامع يضع حل الدولة الواحدة ثنائية القومية في مركزه، عندها تكون هذه الرومانسية مرحلة وليست لحظة فارقة للمشروع الوطني ولمكانة فلسطينيي الداخل ودورهم في المشروع الوطني.
اقرأ أيضاً: في مأزق الحركة الوطنية