لو نظر المرء إلى خارطة فلسطين عام 1948 وقارنها بالوضع على الأرض اليوم، لما خفي عليه كيف تقلّصت وضاقت وتكاد تخنق القاطنين فيها، ليس فقط بسبب الحدود الأدنى إلى قضبان سجن (ليس كبيرًا على أي حال)، بل أيضًا بسبب المستوطنات التي تتكاثر باستمرار. اللا منطق هو الوصف الأقرب إلى حياة الفلسطينيين، شيء سريالي يظلّل أرض فلسطين وسماءها. وربما لهذا السبب تواترت مفردة الاختفاء في أدبيات الفلسطينيين. مصعوقون هم، كيف سُحبت الأرض منهم، وكيف اختفوا بين ليلة وضحاها عن الخارطة "الرسمية". ورغم المقاومة العنيدة والمستمرّة، ورغم النضال بأشكاله كلّها المسلّح والسلمي، ورغم اتفاق أوسلو، وتلك العودة الجزئية إلى جزء من المكان، بقيت الأرض الفلسطينية تسير نحو الاندثار والاختفاء.
الوجود هشّ لكن الهويّة صلبة. معادلة أدنى إلى اللا منطق والسريالية. ربّما لهذا لجأت الفنانة الفلسطينية لاريسا صنصور إلى الخيال العلمي في أفلامها القصيرة. وأحد أقوى أفلامها تعبيرًا عن تلك المعادلة "مبنى الأمّة"، حيث الفلسطينيون كلّهم محشورون في ناطحة سحاب هائلة، تتمتع بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا الغربية، حيث المرء معرّف ببصمة عينه وأصبعه، والأزرار الإلكترونية سيدة مطلقة، حتّى الهواء على ما يبدو معلّب في السجن الزجاجي الهائل، الذي لا يحتوي ولا على نافذة واحدة تنفتح. استعارة تقول إن هذه هي فلسطين في المستقبل. حيث كلّ طابق من ناطحة السحاب يطلّ على مدينة أو قرية أو بلدة من وراء الزجاج اللامع. الجو المعقم والمرتب بطريقة تفوق الوصف، والمناسب فعلًا للخيال العلمي، لا يوحي إلا بقوّة العولمة وتأثيرها المباشر على الناس. فالمكان الذي تنطلق منه لاريسا لتستقل مصعدًا مُفضيًا إلى فلسطين، يذّكر على الفور بسلطة المراقبة الكلية الوجود، التي تفرض على البشر التصرّف كما لو أنهم آلات يعرفون القواعد ولا يفكّرون أصلًا بتجاوزها. مشاهد الفيلم السريالية تبدو مثل تطبيق عملي للعولمة بشقّها الاقتصادي غير المنفصل عن السياسي، من حيث تتبوأ المراقبة المرتبة الأولى، كذا يغدو المكان سجنًا لا فكاك منه ولا من قوانينه المدجِنة، يزيّن للمرء إعادة قراءة المراقبة والعقاب لميشيل فوكو.
لم يمرّ الفيلم اللاذع من دون ضجّة. ونظرًا إلى قوّة رسالته السياسية، تراجعت وقتها شركة لاكوست الشهيرة عن ترشيح لاريسا بين مجموعة من الفنّانين لجائزة تمنحها بالتعاون مع متحف إيليزيه - لوزان. ألغيت الجائزة وأوقف المتحف تعاونه مع شركة لاكوست. علّقت لاريسا على الضجّة قائلة: "على الشركات أن تتبع القواعد أيضًا، فنحن الفنانين لا نعمل كما لو أننا نقوم بحملة إعلانية لديهم". وكشفت الأمر حين قالت أيضًا :"أنا فنانة ملتزمة سياسيًا، لكنني لم أخضع يومًا للرقابة، وتدخُّل لاكوست هذا يسلّط الضوء على فكرة رعاية الشركات الكبرى للفنّ عمومًا، فهل يمكننا التحدّث عن فنّ حر ضمن هذه الرعاية؟". هكذا قيّض للفلسطينية لاريسا وضع النقاط على الحروف إلى حدّ كبير في ما يخصّ "أسس" تلك العلاقات الغامضة بين الفنّانين والكتّاب العرب وشركات المال والوسطاء "المتأنقين"، أي المنظمات غير الربحية الـ NGO.
منذ عقدين تقريبًا تجول تلك المنظمات في دنيا العرب، وتفرض خياراتها وأذواقها على الفنّانين والكتّاب الشباب، عبر توجيه
"ناعم" صوب مواضيع دون أخرى. مواضيع "معقمة" ومرتبة خاضعة لمعيارية واضحة في ذهن القائمين على تلك المنظمات. وفي النهاية، يبدو الأمر نوعاً من "التدريب المهني"، إن جاز التعبير، للثقافة العربية كي تدخل في دفتر شروط معدّ سلفًا، يقوم فعلًا على "المراقبة والعقاب" كحالة مدركة، ومحسوس بها، تقوّي من الرقابة الذاتية، وتحكم الدوران في حلقة مفرغة. حلقة لا يبدو أن القائمين على أمور الثقافة في الدول العربية، لا في فلسطين وحدها، (حيث نمت تلك المنظمات بعد أوسلو كالفطر) مهتمّون بكسرها. هم إلى حدّ كبير غافلين عن أثرها في صوغ "العقليات الثقافية" للفنّانين والكتّاب الشباب العرب، أو غير قادرين على فعل شيء، في ظلّ انعدام الموارد من جهة، وتشبثّهم بطرق التفكير "التقليدية" من جهة أخرى.
رغم ذلك، يبدو هؤلاء الشبّاب أكثر مكرًا أحيانًا، فقد خبروا مسارب تلك المنظمات، خضعوا لـ "أجندتها" في أحايين كثيرة، لكنهم "لعبوا" أيضًا، منطلقين في ذلك من إدراكهم المساحة الضيقة جدًا المتوفرة لديهم في ظلّ انكفاء وزارات دولهم وتمدّد تلك المنظمات. في فيلم لاريسا مشهد آسر، حيث تروي شجرة مغروسة في الرخام الأبيض اللامع، وترتفع جذورها لتكسّره. رسالة بليغة لا عن المقاومة بصورتها الكلاسيكية كما تفهمها وزارات الثقافة العربية فحسب، بل عن مقاومة العولمة، أي تلك الكلمة الملطفة لاستبداد المال العالمي.
الوجود هشّ لكن الهويّة صلبة. معادلة أدنى إلى اللا منطق والسريالية. ربّما لهذا لجأت الفنانة الفلسطينية لاريسا صنصور إلى الخيال العلمي في أفلامها القصيرة. وأحد أقوى أفلامها تعبيرًا عن تلك المعادلة "مبنى الأمّة"، حيث الفلسطينيون كلّهم محشورون في ناطحة سحاب هائلة، تتمتع بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا الغربية، حيث المرء معرّف ببصمة عينه وأصبعه، والأزرار الإلكترونية سيدة مطلقة، حتّى الهواء على ما يبدو معلّب في السجن الزجاجي الهائل، الذي لا يحتوي ولا على نافذة واحدة تنفتح. استعارة تقول إن هذه هي فلسطين في المستقبل. حيث كلّ طابق من ناطحة السحاب يطلّ على مدينة أو قرية أو بلدة من وراء الزجاج اللامع. الجو المعقم والمرتب بطريقة تفوق الوصف، والمناسب فعلًا للخيال العلمي، لا يوحي إلا بقوّة العولمة وتأثيرها المباشر على الناس. فالمكان الذي تنطلق منه لاريسا لتستقل مصعدًا مُفضيًا إلى فلسطين، يذّكر على الفور بسلطة المراقبة الكلية الوجود، التي تفرض على البشر التصرّف كما لو أنهم آلات يعرفون القواعد ولا يفكّرون أصلًا بتجاوزها. مشاهد الفيلم السريالية تبدو مثل تطبيق عملي للعولمة بشقّها الاقتصادي غير المنفصل عن السياسي، من حيث تتبوأ المراقبة المرتبة الأولى، كذا يغدو المكان سجنًا لا فكاك منه ولا من قوانينه المدجِنة، يزيّن للمرء إعادة قراءة المراقبة والعقاب لميشيل فوكو.
لم يمرّ الفيلم اللاذع من دون ضجّة. ونظرًا إلى قوّة رسالته السياسية، تراجعت وقتها شركة لاكوست الشهيرة عن ترشيح لاريسا بين مجموعة من الفنّانين لجائزة تمنحها بالتعاون مع متحف إيليزيه - لوزان. ألغيت الجائزة وأوقف المتحف تعاونه مع شركة لاكوست. علّقت لاريسا على الضجّة قائلة: "على الشركات أن تتبع القواعد أيضًا، فنحن الفنانين لا نعمل كما لو أننا نقوم بحملة إعلانية لديهم". وكشفت الأمر حين قالت أيضًا :"أنا فنانة ملتزمة سياسيًا، لكنني لم أخضع يومًا للرقابة، وتدخُّل لاكوست هذا يسلّط الضوء على فكرة رعاية الشركات الكبرى للفنّ عمومًا، فهل يمكننا التحدّث عن فنّ حر ضمن هذه الرعاية؟". هكذا قيّض للفلسطينية لاريسا وضع النقاط على الحروف إلى حدّ كبير في ما يخصّ "أسس" تلك العلاقات الغامضة بين الفنّانين والكتّاب العرب وشركات المال والوسطاء "المتأنقين"، أي المنظمات غير الربحية الـ NGO.
منذ عقدين تقريبًا تجول تلك المنظمات في دنيا العرب، وتفرض خياراتها وأذواقها على الفنّانين والكتّاب الشباب، عبر توجيه
"ناعم" صوب مواضيع دون أخرى. مواضيع "معقمة" ومرتبة خاضعة لمعيارية واضحة في ذهن القائمين على تلك المنظمات. وفي النهاية، يبدو الأمر نوعاً من "التدريب المهني"، إن جاز التعبير، للثقافة العربية كي تدخل في دفتر شروط معدّ سلفًا، يقوم فعلًا على "المراقبة والعقاب" كحالة مدركة، ومحسوس بها، تقوّي من الرقابة الذاتية، وتحكم الدوران في حلقة مفرغة. حلقة لا يبدو أن القائمين على أمور الثقافة في الدول العربية، لا في فلسطين وحدها، (حيث نمت تلك المنظمات بعد أوسلو كالفطر) مهتمّون بكسرها. هم إلى حدّ كبير غافلين عن أثرها في صوغ "العقليات الثقافية" للفنّانين والكتّاب الشباب العرب، أو غير قادرين على فعل شيء، في ظلّ انعدام الموارد من جهة، وتشبثّهم بطرق التفكير "التقليدية" من جهة أخرى.
رغم ذلك، يبدو هؤلاء الشبّاب أكثر مكرًا أحيانًا، فقد خبروا مسارب تلك المنظمات، خضعوا لـ "أجندتها" في أحايين كثيرة، لكنهم "لعبوا" أيضًا، منطلقين في ذلك من إدراكهم المساحة الضيقة جدًا المتوفرة لديهم في ظلّ انكفاء وزارات دولهم وتمدّد تلك المنظمات. في فيلم لاريسا مشهد آسر، حيث تروي شجرة مغروسة في الرخام الأبيض اللامع، وترتفع جذورها لتكسّره. رسالة بليغة لا عن المقاومة بصورتها الكلاسيكية كما تفهمها وزارات الثقافة العربية فحسب، بل عن مقاومة العولمة، أي تلك الكلمة الملطفة لاستبداد المال العالمي.