في بادرة هي الأولى من نوعها، افتتح متحف برادو الإسباني في مدريد معرضاً يستمر حتى آب/ أغسطس المقبل لمجموعة من أعمال الرسم والتلوين الإيطالية على الرخام والحجارة. الهدف هو تعميم نتائج تحليلات مخبرية لهذه الأعمال، وتوجيه النظر إلى قضايا لم تدرس إلا نادراً حتى اليوم.
الأعمال المعروضة، التي جرى اختيارها بعناية من مجموعة يمتلكها المتحف ومن متحف نابولي، تكشف عن نهج التقانة الفنية الجديدة التي ظهرت في أوائل القرن السادس عشر.
وتعكس هذه الأعمال أيضاً المفاهيم الجمالية والفلسفية لذلك الزمن: إعادة انتاج مؤثرات بصرية دافعها السيطرة على مسقط الضوء على سطح اللوحة، وإدراك العالم الطبيعي كما هو مدوّن في النصوص الكلاسيكية، ومضاهاة فن النحت، والرغبة في إنتاج إبداعات خالدة.
حول هذا الموضوع ذاته أقيمت معارض سابقة ذات طبيعة عامة، إلا أن معرض متحف برادو يقدم نظرة أعمق تركيزاً على هذه الأعمال، تتضمن أولاً، دراسة للنظريات التي دفعت إلى ظهورها، وثانياً، استكشافاً لأصول هذه التقانة وعلاقتها بالعالم الكلاسيكي (اليوناني والروماني)، وأساليب التصوير التي بلغ بها الفنانون "سيباستيانو" و"تيتيان" و"فولتيرا" درجة الكمال في سعيهم إلى تحقيق مؤثرات لونية متنوعة، وفي الوقت نفسه استخدام أرضية للوحة غير تقليدية، ومن ثم إبداع أعمالٍ ظلت سليمة حتى اليوم.
طبيعة أرضية اللوحة، أو الأساس الذي يقوم عليه هذا الرسم والتلوين (موضوع مشروع البحث الراهن)، وعلاقتها بالتراث الكلاسيكي للحجر ذي الألوان المتعددة، شجعت على قيام تعاون مع فروع معرفية أخرى، بما في ذلك التاريخ الطبيعي والجغرافية وعلم الآثار. وأتاح كل هذا تركيزاً على الكيفية التي أنجزت بها هذه الأعمال، وإنتاج معرفة أوسع بها نجدها منعكسة في مختلف جوانب المعرض. وتحقق هذا، أولاً بإدخال أعمالٍ من هذه الحقول المعرفية المختلفة، مثل قطع رومانية كلاسيكية، وعينات من حجر خام، وفر سياقاً للوحات المختارة، وثانياً، بسلسلة دراسات محددة في مطبوعات مرافقة للمعرض طُبّقت فيها أساليب ومناهج هذه الفروع المعرفية المختلفة.
والملحوظ أن لوحتين من اللوحات المعروضة، إحداهما للفنان "تيتيان" والثانية للفنان "باسانوس"، جرت عليهما عمليات ترميم وحفظ طويلة ومعقدة على يد خبراء من اختصاصات مختلفة لكي يتمكن الزوّار من إعطاء هذه الأعمال الفريدة ما تستحقه من تقدير؛ أعمال نُفّذت بالألوان الزيتية على أرضيات من رخام وحجارة، خاصة أن كلا الأمرين من النادر أن وقعت عليهما الأنظار في تاريخ الفن.
العالم الكلاسيكي
في البندقية (الاسم العربي لمدينة "فينيسيا" الإيطالية)، مدينة القنوات المائية، ولدت هذه المقاربة الجديدة لمواد تقنية وفنية مدّها بالإلهام اكتشاف العالم الكلاسيكي، وتوافد مواد من الشرق الأدنى، ونشر المطابع المحلية لنصوص يونانية ورومانية تضمنت أوصافاً لفن الماضي.
في هذه الأجواء، حرّضت الفنانين التائقين إلى إبداع أعمال خالدة متانة الحجر على استخدامه كمادة يُرسم عليها. وسمح لهم الحجر بعرض قدراتهم (باستخدام نهج كان يعدّ سرّاً) وإبداع مؤثرات بالغة التأثير، بالسيطرة على انعكاس الضوء على السطح، كما أحدث بينهم خلافاً حاداً بين موقفين؛ موقف المحاكاة في العلاقة بين الفن والطبيعة، وموقف المقارنة التنافسية بين التصوير والنحت. وفي متحف برادو مجموعة صغيرة ولكن مهمة من أعمال عصر النهضة الإيطالية تم إبداعها في هذا الجو مرسومة على ألواح ورخام أبيض، حللها الآن جيولوجيون وعلماء آثار لفهم الكيفية التي تفاعلت بها معادن هذه المواد مع الألوان الزيتية في هذه الأعمال.
ومن المعروف أن الرخام والحصى المصقول كانت من المواد التي تحظى بتقدير عال في العالم الكلاسيكي بسبب قدرتها على امتصاص وعكس الضوء. "بليني الأكبر" من القرن الميلادي الأول لاحظ أن الطبيعة لا توجد فيها خطوط حادة، وأن على الصورة في الأعمال الفنية أن تحاكي رؤيا عالم يكاد يضمحل كما لو أن من يشاهدها ينظر إلى حجر مصقول.
ومنذ القرن السادس عشر كان معروفاً أن ممكنات الرسم على الحجر وتقانتها انحدرت إلى مراسم القرون الوسطى من الفنانين الإغريق. وتعتبر لوحة "ثيسيوس والقنطور" المكتشفة في القرن الثامن عشر في مدينة هيركلنيوم الداثرة، واحدة من عدد قليل من اللوحات الكلاسيكية الناجية المرسومة على الرخام. وليس من المؤكد أن فناني مدينة البندقية عرفوا أعمالاً من هذا النمط، ولكن وصف هذه الأعمال مذكور في كتابات "بليني" والمهندس المعماري "فيتروفيو" التي ترجمت وذاعت في البندقية في أوائل القرن الخامس عشر.
المادة الأساس أو المفتاح
لا تعتبر الحجارة في الكثير من النصوص الكلاسيكية أشياء خامدة. وفي الأساطير اليونانية تعتبر أصل الجنس البشري، ونسبت بعض الديانات القديمة إلى الحجارة قداسة من نوع ما.
الرخام كان مفضلاً أكثر من غيره في العالم الكلاسيكي للرسم عليه بألوان متنوعة بسبب التماعه ومقاومته وامتصاصه للألوان، ولكن في عصر النهضة كان الحصول على لوح اردوازي أكثر سهولة، وهو ما جعله حجراً مألوفاً كأرضية أساس للرسم والتلوين. حين يسقط عليه الضوء فإن لون سطحه الرمادي الطباشيري، وخراشة معدنه، ينتجان تأثيراً ذا ألق يحقق تناغماً في الصورة، صانعاً بذلك الإيهام بأن شخوص الصورة والعناصر الأخرى تبرز من داخلها.
وسمحت هذه الخصائص بتكوين سلسلة لونية باستخدام القليل من مواد التلوين، وهذه التقانة هي التي طورها "سيباستيانو" للرسم على الحجر واعتبرت "سراً". وكشف تحليل هذه العملية وإعادة إنتاجها في المختبر عن أن مفتاح العملية يتضمن استخدام مزيج من الزيت الساخن والشمع الذائب وراتنجات كأرضية تؤمن أن تلتصق بها الألوان. واستخدم "فولتيرا" وريثه في روما تقانة مماثلة.
ومع أواخر القرن السادس عشر، ومع ظهور حركة الإصلاح المضاد، اكتسب الرسم على أرضية حجرية طبيعة تعبدية وزخرفية اختلفت عن طبيعة لوحات الفنانين الأقدم، فأصبحت أكثر جاذبية وأجمل ومعتمدة على مشاهد بسيطة، وممتثلة لتوجيهات السلطات الدينية في التصوير والرسم.