30 ديسمبر 2021
فن طرقعة البلالين
(1)
سألتني الباحثة عن تعريفي للكتابة الساخرة التي تحضر رسالة ماجستير عنها لجامعة أمريكية، فقلت لها إنني لست من الذين ينشغلون بتعريف ما يشتهون ممارسته بل يكتفون باقترافه بشغف. قالت: أفهم إجابتك في إطار ميلك الدائم إلى السخرية، لكن هذا سؤال رئيسي أوجهه لكل المبحوثين في الرسالة لكي يقدموا تعريفاً محدداً من وجهة نظرهم لفن الكتابة الساخرة، قلت لها: إذن فليكن تعريفي أن الكتابة الساخرة هي فن طرقعة البلالين البشرية، وقبل أن تقاطعني واصلت قائلاً: وهو تعريف يرجع الفضل في صكه إلى أحد عظماء الساخرين في بلاد العرب، أبونا صلاح جاهين الذي وضع منهجاً للكتابة الساخرة في رباعيته التي قال فيها:
"ولدي إليك بدل البالون ميت بالون
انفخ وطرقع فيه على كل لون
عساك تشوف بعينيك مصير الرجال
المنفوخين في السترة والبنطلون".
قالت لي الباحثة بحيرة: هل يمكن أن نجد تعبير أشد رصانة وانضباطاً لكلمة الطرقعة؟، فحكيت لها نكتة عن مواطنين أجروا حوارا مع قناة تلفزيونية حكومية خيرتهم بين أن يكونوا مع الرئيس المتهور أو الرئيس المراوغ أو الرئيس الرصين الذي يحكم البلاد حالياً، فاختاروا طبعاً أن يكونوا مع الرصين، لكنها لحسن الحظ لم تفهم النكتة، ولا علاقتها ببحثها عن تعريف علمي رصين للكتابة الساخرة.
(2)
على مر العصور، كان الذين يحتلون مواقع السلطة في بلادنا العربية المنكوبة يتظاهرون أمام شعوبهم بالعظمة والتماسك والقوة والصلابة، لكن كل ذلك كان ينهار فوراً أمام أبسط تعليق ساخر عنهم يشيع بين الناس، فينفضح كم هم متهرئون وعصبيون وعديمو الثقة بأنفسهم و"منظر على الفاضي"، لكن سيكون على مطلق ذلك التعليق الساخر أن يدفع ثمن فضحه لتلك الحقيقة غالياً، وهو ما جسده صلاح جاهين أيضا في رباعيته الشهيرة:
"أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج خفتوا ليه قمتوا ليه
لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس".
هذا القدر المرير للساخرين في أوطاننا أدركه من قبل عظيم آخر جمع بين السخرية والشعر هو عمنا بيرم التونسي، طبقاً لما يرويه عميد الساخرين العرب عمنا محمود السعدني الذي أكرمني الله بصحبته في الدنيا، وأسأله أن يجمعني به وببيرم في جنان الخُلد التي أعدها للساخرين من الظلمة والفاسدين. يقول محمود السعدني: "في بداية حياتي الصحفية أكرمني المولى العزيز بالجلوس في حجرة واحدة مع العبقري الخالد بيرم التونسي، وكان بيرم في نظر جيلنا أسطورة من الأساطير، كان كاتبا ساخرا وشاخرا أيضا... ولأن عمنا بيرم كان شعبيا وبسيطا فقد توطدت الصلة بيني وبينه، وكان في لحظات صفوه يحكي للعبد لله عن معاناته في المنفى وعن دوخة يني التي تعرض لها في الغربة. النصيحة الوحيدة التي أسداها للعبد الله، أن أهجر الأسلوب الساخر الذي أكتب به وأوصاني بإتباع الأسلوب الحنجوري بحيث تحمل المقالة عدة أوجه، تقرؤها فتتصور أنها هجاء ويقرؤها غيرك فيتصور أنها مديح، كلام من نوع الشواشي العليا للبرجوازية، والشفق المذهق على قفا الأفق، كما يكتب السادة الحناجرة، أو كلام على طريقة السادة السناكحة نسبة إلى سنكوح بن مزاحم الذي كان واليا على ديوان الإنشاء للقائد أبرهة وكان عليه أن يكتب الرسائل والفرمانات بلغة يفهمها جميع البشر من روم ومن عرب وعجم وفرس وزنوج، فكان يكتب في رسالته شيئا من شندبار يلوح في السواهيلي ويكشف عن رجل ملم نشطل مكارف مظروم على خوشبي أمديد زغتي".
يضيف السعدني قائلاً: "وقال لي عمنا بيرم التونسي إذا التزمت بهذا الأسلوب الساخر ستكون حياتك في مهب الريح وأيامك أسود من الزيتون المدهون بالورنيش، ولياليك ياصاحبي أزرق من الهدوم المصبوغة بالنيلة، لأنه لايغيظ المسئول إلا أن تتناوله بأسلوب ساخر يهتك ستره ويكشف حقيقته ويمزق الثوب الكاذب الذي يحرص على أن يظهر به أمام رؤسائه، لأن المسئول عادة مايكون مثلنا، غلبان وتعبان ومهزوم في داخله، ولكنه يحرص دائما على الظهور وهو في مكتبه العاجي في صورة تخالف حقيقته، فيتعمد أن يعوج رقبته أو أن ينفخ أوداجه، فإذا سخرت منه فقد نكأت جراحه، واللعب في الجراح يستفز ويهيج صاحبها، ويجعل منه وحشا يتصرف كالنمر الجريح".
لم يستمع السعدني إلى نصيحة بيرم قط، بل إنه لم ينصح بها أحدا من تلاميذه على حد علمي، واختار مثل بيرم أن يدفع ثمن سخريته غالياً في السجن والمنفى، لكنه بعد عمر طويل من العذاب كتب قائلاً: "بالرغم من القهر الأزلي والعذاب الأبدي هل أفضل للكاتب أن يعيش عيشة موظف الأرشيف، أم يعيش على سن القلم كما يعيش المقاتل على حد السيف؟"، وبالطبع لم يتأخر السعدني كثيرا في إعلان إختياره قائلا: "العبد لله يتمنى أن يعيش عيشة بيرم التونسي وأن أحظى بشرف خدمته في كل مكان ولو كان في تخشيبة قسم الخليفة"، وهو اختيار استعدته عندما أحلت إلى النيابة العامة بطلب رسمي من حاكم ليبيا العقيد الأبدي معمر القذافي، لأنني كتبت عنه مقالا بعنوان (الرجل الأخضر)، يومها سألني وكيل النائب العام: "لماذا اخترت أن تكتب هذا المقال بأسلوب ساخر؟"، وعندما أجبت "هل يمكن سيادتك أن تسأل العقيد معمر القذافي لماذا يحكم بأسلوب مثير للسخرية؟"، فاعتبر وكيل النيابة إجابتي إستخفافا بجدية التحقيق، ولتلطيف الأجواء حكيت له ما قاله عمنا بيرم لعمنا السعدني، وعندما سألني بذكاء المحققين المعهود عن علاقة ما رويته بالقضية، قلت له في حركة جنون أنقذتني يومها من السجن على ذمة التحقيق أنني حكيت ذلك فقط كمقدمة لطلبي إستدعاء الكاتبين الكبيرين محمود السعدني وأحمد رجب والفنان الكبير مصطفى حسين للشهادة في القضية بوصفهم جميعاً سبق لهم إرتكاب فعل السخرية الشنيعة من القذافي، ثم استعنت بكتب للسعدني كنت قد أحضرتها معي لأنني وجدت فيها أكثر من فصل يمسح فيه بالقذافي البلاط سخرية وهزلا، واستشهدت بالرسومات التي كان يقوم بها أحمد رجب ومصطفى حسين ضد القذافي أيام خلافه الشهير مع السادات في أواخر السبعينات، وهي رسومات وصلت إلى درجة رسم القذافي جالسا على "القصرية"، وهي أداة بلاستيكية منحها المصريون هذا الاسم ليس نسبة إلى قصور الحكام، بل إلى قصور الأطفال عن الذهاب إلى الحمام والجلوس عليها ليقضوا حاجتهم.
يومها أُقفل محضر التحقيق بعد ضم كتب محمود السعدني إلى أوراق القضية كدليل على أن ما كتبته من ألفاظ ليس متجاوزا بل سبق لأساتذة الكتابة الساخرة إستخدامه، وبعد أن تم الإفراج عني بضمان محل إقامتي خرجت من دار القضاء العالي إلى مكتبة دار أخبار اليوم لأشتري نسخا جديدة من كتب السعدني لتكون مستعدة لمصاحبتي إلى النيابة في أي قضية قادمة.
(3)
هناك طبعات متعددة من الكتابة الساخرة يمارس فيها الكثيرون السخرية من الزوجات ومن غلاء الأسعار ومن العلاقات العاطفية ومن عبث الحياة، ولها ولكتابها كل التقدير، لكن أرفع ألوان الكتابة الساخرة في رأيي سيظل دائما ذلك الذي يمارس بشغف فن طرقعة البلالين السياسية، لكن مشكلة هذا النوع أن ثمنه في أوطاننا غالٍ جدا، ويتطلب أن تكون شخصا طويل البال عريض الصبر دائم التشحيم لمراوح صدرك وقادرا على التعايش مع أي مصيبة تحط على رأسك بسبب ما تكتبه، فتجد في الذهاب إلى المحاكم والنيابات بركة إلهية تدفعك للتواصل مع قاع المجتمع ورؤية أشياء لا يراها غيرك من الكتاب المعزولين عن الواقع، وتعتبر أن قول أمك لك على الدوام بأن "لسانك ده هيجيبك ورا" تحذير لطيف أكثر من كونه نبوءة حتمية، وأن حرص بعض أصدقائك على إهدائك نسخة من كتاب "شعراء قتلتهم قصائدهم" هو قلة ذوق ليس أكثر لأن العالم تغير ولم يعد فيه سلاطين يخوزقون الشعراء الهجائين فقد أصبحت هذه مهمة شعبية لا يحتكرها السلاطين فقط، وتدرك أن الكتابة الساخرة ستجعلك تعيش تجارب مدهشة لا تحدث بسهولة، منها مثلا أن يقول لك أصدقاؤك إنهم صلوا الجمعة في أحد المساجد، وأن الإمام دعا عليك في الخطبة لأنك فاسق منحل، مضيفين: "وللأسف اضطرينا نقول آمين".
.....
مقدمة لكتاب (المطرقعون في الأرض) يصدر قريباً بإذن الله، أنشرها بمناسبة ذكرى ميلاد الكاتب الكبير محمود السعدني عليه ألف رحمة ونور.
سألتني الباحثة عن تعريفي للكتابة الساخرة التي تحضر رسالة ماجستير عنها لجامعة أمريكية، فقلت لها إنني لست من الذين ينشغلون بتعريف ما يشتهون ممارسته بل يكتفون باقترافه بشغف. قالت: أفهم إجابتك في إطار ميلك الدائم إلى السخرية، لكن هذا سؤال رئيسي أوجهه لكل المبحوثين في الرسالة لكي يقدموا تعريفاً محدداً من وجهة نظرهم لفن الكتابة الساخرة، قلت لها: إذن فليكن تعريفي أن الكتابة الساخرة هي فن طرقعة البلالين البشرية، وقبل أن تقاطعني واصلت قائلاً: وهو تعريف يرجع الفضل في صكه إلى أحد عظماء الساخرين في بلاد العرب، أبونا صلاح جاهين الذي وضع منهجاً للكتابة الساخرة في رباعيته التي قال فيها:
"ولدي إليك بدل البالون ميت بالون
انفخ وطرقع فيه على كل لون
عساك تشوف بعينيك مصير الرجال
المنفوخين في السترة والبنطلون".
قالت لي الباحثة بحيرة: هل يمكن أن نجد تعبير أشد رصانة وانضباطاً لكلمة الطرقعة؟، فحكيت لها نكتة عن مواطنين أجروا حوارا مع قناة تلفزيونية حكومية خيرتهم بين أن يكونوا مع الرئيس المتهور أو الرئيس المراوغ أو الرئيس الرصين الذي يحكم البلاد حالياً، فاختاروا طبعاً أن يكونوا مع الرصين، لكنها لحسن الحظ لم تفهم النكتة، ولا علاقتها ببحثها عن تعريف علمي رصين للكتابة الساخرة.
(2)
على مر العصور، كان الذين يحتلون مواقع السلطة في بلادنا العربية المنكوبة يتظاهرون أمام شعوبهم بالعظمة والتماسك والقوة والصلابة، لكن كل ذلك كان ينهار فوراً أمام أبسط تعليق ساخر عنهم يشيع بين الناس، فينفضح كم هم متهرئون وعصبيون وعديمو الثقة بأنفسهم و"منظر على الفاضي"، لكن سيكون على مطلق ذلك التعليق الساخر أن يدفع ثمن فضحه لتلك الحقيقة غالياً، وهو ما جسده صلاح جاهين أيضا في رباعيته الشهيرة:
"أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج خفتوا ليه قمتوا ليه
لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس".
هذا القدر المرير للساخرين في أوطاننا أدركه من قبل عظيم آخر جمع بين السخرية والشعر هو عمنا بيرم التونسي، طبقاً لما يرويه عميد الساخرين العرب عمنا محمود السعدني الذي أكرمني الله بصحبته في الدنيا، وأسأله أن يجمعني به وببيرم في جنان الخُلد التي أعدها للساخرين من الظلمة والفاسدين. يقول محمود السعدني: "في بداية حياتي الصحفية أكرمني المولى العزيز بالجلوس في حجرة واحدة مع العبقري الخالد بيرم التونسي، وكان بيرم في نظر جيلنا أسطورة من الأساطير، كان كاتبا ساخرا وشاخرا أيضا... ولأن عمنا بيرم كان شعبيا وبسيطا فقد توطدت الصلة بيني وبينه، وكان في لحظات صفوه يحكي للعبد لله عن معاناته في المنفى وعن دوخة يني التي تعرض لها في الغربة. النصيحة الوحيدة التي أسداها للعبد الله، أن أهجر الأسلوب الساخر الذي أكتب به وأوصاني بإتباع الأسلوب الحنجوري بحيث تحمل المقالة عدة أوجه، تقرؤها فتتصور أنها هجاء ويقرؤها غيرك فيتصور أنها مديح، كلام من نوع الشواشي العليا للبرجوازية، والشفق المذهق على قفا الأفق، كما يكتب السادة الحناجرة، أو كلام على طريقة السادة السناكحة نسبة إلى سنكوح بن مزاحم الذي كان واليا على ديوان الإنشاء للقائد أبرهة وكان عليه أن يكتب الرسائل والفرمانات بلغة يفهمها جميع البشر من روم ومن عرب وعجم وفرس وزنوج، فكان يكتب في رسالته شيئا من شندبار يلوح في السواهيلي ويكشف عن رجل ملم نشطل مكارف مظروم على خوشبي أمديد زغتي".
يضيف السعدني قائلاً: "وقال لي عمنا بيرم التونسي إذا التزمت بهذا الأسلوب الساخر ستكون حياتك في مهب الريح وأيامك أسود من الزيتون المدهون بالورنيش، ولياليك ياصاحبي أزرق من الهدوم المصبوغة بالنيلة، لأنه لايغيظ المسئول إلا أن تتناوله بأسلوب ساخر يهتك ستره ويكشف حقيقته ويمزق الثوب الكاذب الذي يحرص على أن يظهر به أمام رؤسائه، لأن المسئول عادة مايكون مثلنا، غلبان وتعبان ومهزوم في داخله، ولكنه يحرص دائما على الظهور وهو في مكتبه العاجي في صورة تخالف حقيقته، فيتعمد أن يعوج رقبته أو أن ينفخ أوداجه، فإذا سخرت منه فقد نكأت جراحه، واللعب في الجراح يستفز ويهيج صاحبها، ويجعل منه وحشا يتصرف كالنمر الجريح".
لم يستمع السعدني إلى نصيحة بيرم قط، بل إنه لم ينصح بها أحدا من تلاميذه على حد علمي، واختار مثل بيرم أن يدفع ثمن سخريته غالياً في السجن والمنفى، لكنه بعد عمر طويل من العذاب كتب قائلاً: "بالرغم من القهر الأزلي والعذاب الأبدي هل أفضل للكاتب أن يعيش عيشة موظف الأرشيف، أم يعيش على سن القلم كما يعيش المقاتل على حد السيف؟"، وبالطبع لم يتأخر السعدني كثيرا في إعلان إختياره قائلا: "العبد لله يتمنى أن يعيش عيشة بيرم التونسي وأن أحظى بشرف خدمته في كل مكان ولو كان في تخشيبة قسم الخليفة"، وهو اختيار استعدته عندما أحلت إلى النيابة العامة بطلب رسمي من حاكم ليبيا العقيد الأبدي معمر القذافي، لأنني كتبت عنه مقالا بعنوان (الرجل الأخضر)، يومها سألني وكيل النائب العام: "لماذا اخترت أن تكتب هذا المقال بأسلوب ساخر؟"، وعندما أجبت "هل يمكن سيادتك أن تسأل العقيد معمر القذافي لماذا يحكم بأسلوب مثير للسخرية؟"، فاعتبر وكيل النيابة إجابتي إستخفافا بجدية التحقيق، ولتلطيف الأجواء حكيت له ما قاله عمنا بيرم لعمنا السعدني، وعندما سألني بذكاء المحققين المعهود عن علاقة ما رويته بالقضية، قلت له في حركة جنون أنقذتني يومها من السجن على ذمة التحقيق أنني حكيت ذلك فقط كمقدمة لطلبي إستدعاء الكاتبين الكبيرين محمود السعدني وأحمد رجب والفنان الكبير مصطفى حسين للشهادة في القضية بوصفهم جميعاً سبق لهم إرتكاب فعل السخرية الشنيعة من القذافي، ثم استعنت بكتب للسعدني كنت قد أحضرتها معي لأنني وجدت فيها أكثر من فصل يمسح فيه بالقذافي البلاط سخرية وهزلا، واستشهدت بالرسومات التي كان يقوم بها أحمد رجب ومصطفى حسين ضد القذافي أيام خلافه الشهير مع السادات في أواخر السبعينات، وهي رسومات وصلت إلى درجة رسم القذافي جالسا على "القصرية"، وهي أداة بلاستيكية منحها المصريون هذا الاسم ليس نسبة إلى قصور الحكام، بل إلى قصور الأطفال عن الذهاب إلى الحمام والجلوس عليها ليقضوا حاجتهم.
يومها أُقفل محضر التحقيق بعد ضم كتب محمود السعدني إلى أوراق القضية كدليل على أن ما كتبته من ألفاظ ليس متجاوزا بل سبق لأساتذة الكتابة الساخرة إستخدامه، وبعد أن تم الإفراج عني بضمان محل إقامتي خرجت من دار القضاء العالي إلى مكتبة دار أخبار اليوم لأشتري نسخا جديدة من كتب السعدني لتكون مستعدة لمصاحبتي إلى النيابة في أي قضية قادمة.
(3)
هناك طبعات متعددة من الكتابة الساخرة يمارس فيها الكثيرون السخرية من الزوجات ومن غلاء الأسعار ومن العلاقات العاطفية ومن عبث الحياة، ولها ولكتابها كل التقدير، لكن أرفع ألوان الكتابة الساخرة في رأيي سيظل دائما ذلك الذي يمارس بشغف فن طرقعة البلالين السياسية، لكن مشكلة هذا النوع أن ثمنه في أوطاننا غالٍ جدا، ويتطلب أن تكون شخصا طويل البال عريض الصبر دائم التشحيم لمراوح صدرك وقادرا على التعايش مع أي مصيبة تحط على رأسك بسبب ما تكتبه، فتجد في الذهاب إلى المحاكم والنيابات بركة إلهية تدفعك للتواصل مع قاع المجتمع ورؤية أشياء لا يراها غيرك من الكتاب المعزولين عن الواقع، وتعتبر أن قول أمك لك على الدوام بأن "لسانك ده هيجيبك ورا" تحذير لطيف أكثر من كونه نبوءة حتمية، وأن حرص بعض أصدقائك على إهدائك نسخة من كتاب "شعراء قتلتهم قصائدهم" هو قلة ذوق ليس أكثر لأن العالم تغير ولم يعد فيه سلاطين يخوزقون الشعراء الهجائين فقد أصبحت هذه مهمة شعبية لا يحتكرها السلاطين فقط، وتدرك أن الكتابة الساخرة ستجعلك تعيش تجارب مدهشة لا تحدث بسهولة، منها مثلا أن يقول لك أصدقاؤك إنهم صلوا الجمعة في أحد المساجد، وأن الإمام دعا عليك في الخطبة لأنك فاسق منحل، مضيفين: "وللأسف اضطرينا نقول آمين".
.....
مقدمة لكتاب (المطرقعون في الأرض) يصدر قريباً بإذن الله، أنشرها بمناسبة ذكرى ميلاد الكاتب الكبير محمود السعدني عليه ألف رحمة ونور.