استمعتُ إلى هذه القصة من مبدعها في لقاء نادر بمنزله بالمنيل في صيف 2003 ولن أنساها، ورغم كونها خاصة بالصغار إلا أن إبداع صاحبها، وعمق الخيال فيها، جعلها تعانق الواقع اليوم على نحو بالغ المرارة، وهل مثل استنهاض زاد ابتكار طفولي في بالغ المآسي تأثيراً في النفس والعقل .. أو الفكر والشعور؟
قال عبد التواب يوسف: تاه التمساح يوماً فجرب البعد عن المياه.. وقرر التنزه في الغابة.. فاستطاع بعد تدريب وجهد
وصعوبة أن (يتشقلب).. ولما وجد أن الجميع غير منتبه إليه.. صرخ بأعلى صوته: إنني فارقتُ النهر وصرتُ ما بينكم ألا تخافون من أنيابي؟!
فابتسموا واستمر القرد في التقاط حبات الجوز.. والأسد في اصطياد الغزلان متى جاع، والأرنب في البحث عن الجزر..
اما التمساح فإنه غضب من "حاله" فقرر ترك الغابة كلها إلى الأبد.. لكنه لما استقبل الطريق العمومي المفارق للحيوانات.. حانتْ منه التفاتة إلى الخلف فلم يجد الأمور كما كانت.. وجد القرد يحاول اصطياد الغزلان متى جاع.. والأسد يبحث عن الجزر بل الخس، والأرنب يبحث عن جوز الهند.. لم تعد الغابة كما كانت من قبل..
مع فارق التشبيه: لم تعد الحياة في الغابة، التي هي مصر بعد الانقلاب، كما كانت قبل خروج التمساح من النهر وتمكنه من التجول خلال أراضيها، بل تعوده الإتيان بخارق الأفعال حتى صار مكان الأسد منها، فإن الحقيقة المُرة التي تأبى عقول ملايين المعارضين في مصر تصديقها حتى الآن.. هي أن أسداً رضي أن ينزل معترك الحكم في الغابة، بعد أكثر من ستين عاماً من تحويلها من دولة إلى غابة، دون أن يستطيع "لملمة" تمساح .."هو" الذي أخرجه وأطلقه من مكانه كأصغر عضو بالمجلس العسكري، بأن جعله وزيراً للدفاع ورقاه ترقيتين استثنائيتين في آن واحد، ولما "تمخطر" الأخير في الغابة.. وأعلن عبد الفتاح السيسي أنه يستطيع إتمام المقلوب فيها لم ينتبه إليه أحد.. فلم يغادر الغابة، كما في القصة، بل حاول ملكها.. وأعمل التقتيل في من لم يخضع له!
بعد مرور الذكرى الثانية من مجزرة ومذبحة رابعة العدوية، أجد ألقها في النفس والشعور والوجدان.. كتجمع إنساني غير مسبوق على أرض مصر، وإن لم يخل من أخطاء البشر، وقد كان خطاب المنصة من أفدح أخطاء رابعة، ولكني أزعم أنه لم يكن أخطرها على الإطلاق!
كان أخطر ما برابعة هو رابعة نفسها من أسف شديد، ووجوب المصارحة يقتضي فتح الجراح.. وإن لم نصل بعد لمرحلة المحاسبة لقادة الإخوان المسؤولين عن التجمع بصورة مباشرة رغم بشاعة الحدث، ولا يقلل من فظاعته استشهاد بعض من أبنائهم فيه، بل يزيد من حجم المسؤولية السياسية السلبية الملقاة عليهم، نعم، مع الفارق الشديد جداً لخطئهم عن خطايا قادة الانقلاب، إلا أن بعض المقارنة لا تنفي الخطأ وسوء التقدير لما يتصل بمصير الآلاف بل الوطن..، والكلمات السابقة لا تقلل من مكانة رابعة في القلب، ولا من محبة من استُشهدوا وأُصيبوا واعتقلوا فيها ومن يعانون مما حدث بها حتى اليوم، ولكني أرى أن فواتير رابعة التي يقر بها العقل ليست ثقيلة على أحد من طرفي المعادلة في مصر بل على الطرفين معاً.. مجتمعينِ.. لا كما يحاول كلاهما الإنكار، ونفي "ثقل".. ما ينبغي عليه دفعه عن نفسه.. وإلصاقه بالطرف الآخر، فالإخوان يبذلون غالي الدماء على طريق ليس معروفاً آخرُه على أي نحو كان، فيما العسكر يزلزلون مصر كلها من أجل استمرارهم في حكمها في محاولة حكم لم تستقر لنظام قبلهم.. وإن طال لبضع سنوات.. فهو قليل جداً في عمر الزمان!
بداية كان الانقلاب وقائده يحتاج إلى مذبحة ومجزرة بالغة الوقع والضخامة لا ليثبت وجود انقلاب مفترض استمراره كما يريد.. وهو موجود في بر مصر بالفعل لكنه محدود الوجود، أي أن انقلابه كان في البداية أضعف ما يكون بالنسبة لما استقوى به فيما بعد بقليل الأيام.. من أخطاء الإخوان بالغة المرارة،.. بمعنى أن نجم الدين أربكان، لما انقلب العسكر عليه قبيل منتصف التسعينيات في تركيا، كانت بؤرته الشعبية تزيد على أربعة ملايين مستعدين للنزول إلى الشوارع والاعتصام، ولكن لأن الرجل كان صاحب رؤية وفهم ثاقب لما يرمي الانقلابيون إليه عبره.. فقد ترك الحكم لهم وآثر السلامة.
أما الإخوان فقد ساهموا في استقرار أركان دولة السيسي حتى حين.. بتلبية تطلعه لـ"التشقلب" والاستجابة لجانب في طبيعة الشعب المصري الذي لم يدرسوه، واستعجلوا فحكموه، دون تدبر.
علم السيسي، تمساح الغابة الحقيقي، أن المصريين يجب أن يذوقوا سوط المعز مع سيفه قبل ذهبه، ولذلك كرر المذابح قبل رابعة في الحرس الجمهوري الأول والثاني والمنصة ورمسيس.. ولم يأبه الإخوان أو يهتموا كالمساق إلى حتفه رغم أنفه، ولو أنهم مالوا إلى التفاوض حينها كما مال أربكان.. لسهلوا العودة.. لكن ليس في سياق فوري كما أرادوا وتوهموا، لو أنهم تصالحوا مع أنفسهم وعلموا أنهم لم يكونوا مؤهلين للحكم، لو أنهم تصافوا قليلاً وتصالحوا مع أنفسهم لهونوا الأمر.. ولاحتفظوا بقواعدهم شبه كاملة.. ولما أضيرتْ على هذا النحو المتجدد، وكان الأمر سيتطلب سنوات أقل ليعودوا.. إن استطاعوا الفصل بين الدعوي والسياسي.. مع صعوبة ذلك المطلقة.. ولكن على نحو ما بدأت عودة أردوغان في بداية الألفية الثانية أي عدة سنوات فقط.. ليصعد تياره سلم تركيا من جديد، ولا يقول أحد إنه يواجه المتاعب اليوم.. ولكنها تجربة تخاطب العقل لا عذب الشعور دون سند من واقع أو حسن تدبير..
فالعاقل هو من يستطيع وقت المحن الشديدة.. ووقت رمد العينين تحسس موضع الشمس.. لينظر من جديد على هدي نورها، وليس العاقل الذي يركب رأسه ليرى الصواب فقط ما يفعله، حتى وإن انشقتْ عنه حتى القاعدة الشعبية المكونة له من أمامه ومن خلفه..، وهو يظن أنها على قلب رجل واحد، وبالتالي عصف قادة الإخوان حتى بمكانة الجماعة المهمة لبنيان الحياة ونسيجها في مصر، وهو ما لا ينكره إلا ظالم..
وللحديث بقية ما دام في العمر بقية..
(مصر)
قال عبد التواب يوسف: تاه التمساح يوماً فجرب البعد عن المياه.. وقرر التنزه في الغابة.. فاستطاع بعد تدريب وجهد
وصعوبة أن (يتشقلب).. ولما وجد أن الجميع غير منتبه إليه.. صرخ بأعلى صوته: إنني فارقتُ النهر وصرتُ ما بينكم ألا تخافون من أنيابي؟!
فابتسموا واستمر القرد في التقاط حبات الجوز.. والأسد في اصطياد الغزلان متى جاع، والأرنب في البحث عن الجزر..
اما التمساح فإنه غضب من "حاله" فقرر ترك الغابة كلها إلى الأبد.. لكنه لما استقبل الطريق العمومي المفارق للحيوانات.. حانتْ منه التفاتة إلى الخلف فلم يجد الأمور كما كانت.. وجد القرد يحاول اصطياد الغزلان متى جاع.. والأسد يبحث عن الجزر بل الخس، والأرنب يبحث عن جوز الهند.. لم تعد الغابة كما كانت من قبل..
مع فارق التشبيه: لم تعد الحياة في الغابة، التي هي مصر بعد الانقلاب، كما كانت قبل خروج التمساح من النهر وتمكنه من التجول خلال أراضيها، بل تعوده الإتيان بخارق الأفعال حتى صار مكان الأسد منها، فإن الحقيقة المُرة التي تأبى عقول ملايين المعارضين في مصر تصديقها حتى الآن.. هي أن أسداً رضي أن ينزل معترك الحكم في الغابة، بعد أكثر من ستين عاماً من تحويلها من دولة إلى غابة، دون أن يستطيع "لملمة" تمساح .."هو" الذي أخرجه وأطلقه من مكانه كأصغر عضو بالمجلس العسكري، بأن جعله وزيراً للدفاع ورقاه ترقيتين استثنائيتين في آن واحد، ولما "تمخطر" الأخير في الغابة.. وأعلن عبد الفتاح السيسي أنه يستطيع إتمام المقلوب فيها لم ينتبه إليه أحد.. فلم يغادر الغابة، كما في القصة، بل حاول ملكها.. وأعمل التقتيل في من لم يخضع له!
بعد مرور الذكرى الثانية من مجزرة ومذبحة رابعة العدوية، أجد ألقها في النفس والشعور والوجدان.. كتجمع إنساني غير مسبوق على أرض مصر، وإن لم يخل من أخطاء البشر، وقد كان خطاب المنصة من أفدح أخطاء رابعة، ولكني أزعم أنه لم يكن أخطرها على الإطلاق!
كان أخطر ما برابعة هو رابعة نفسها من أسف شديد، ووجوب المصارحة يقتضي فتح الجراح.. وإن لم نصل بعد لمرحلة المحاسبة لقادة الإخوان المسؤولين عن التجمع بصورة مباشرة رغم بشاعة الحدث، ولا يقلل من فظاعته استشهاد بعض من أبنائهم فيه، بل يزيد من حجم المسؤولية السياسية السلبية الملقاة عليهم، نعم، مع الفارق الشديد جداً لخطئهم عن خطايا قادة الانقلاب، إلا أن بعض المقارنة لا تنفي الخطأ وسوء التقدير لما يتصل بمصير الآلاف بل الوطن..، والكلمات السابقة لا تقلل من مكانة رابعة في القلب، ولا من محبة من استُشهدوا وأُصيبوا واعتقلوا فيها ومن يعانون مما حدث بها حتى اليوم، ولكني أرى أن فواتير رابعة التي يقر بها العقل ليست ثقيلة على أحد من طرفي المعادلة في مصر بل على الطرفين معاً.. مجتمعينِ.. لا كما يحاول كلاهما الإنكار، ونفي "ثقل".. ما ينبغي عليه دفعه عن نفسه.. وإلصاقه بالطرف الآخر، فالإخوان يبذلون غالي الدماء على طريق ليس معروفاً آخرُه على أي نحو كان، فيما العسكر يزلزلون مصر كلها من أجل استمرارهم في حكمها في محاولة حكم لم تستقر لنظام قبلهم.. وإن طال لبضع سنوات.. فهو قليل جداً في عمر الزمان!
بداية كان الانقلاب وقائده يحتاج إلى مذبحة ومجزرة بالغة الوقع والضخامة لا ليثبت وجود انقلاب مفترض استمراره كما يريد.. وهو موجود في بر مصر بالفعل لكنه محدود الوجود، أي أن انقلابه كان في البداية أضعف ما يكون بالنسبة لما استقوى به فيما بعد بقليل الأيام.. من أخطاء الإخوان بالغة المرارة،.. بمعنى أن نجم الدين أربكان، لما انقلب العسكر عليه قبيل منتصف التسعينيات في تركيا، كانت بؤرته الشعبية تزيد على أربعة ملايين مستعدين للنزول إلى الشوارع والاعتصام، ولكن لأن الرجل كان صاحب رؤية وفهم ثاقب لما يرمي الانقلابيون إليه عبره.. فقد ترك الحكم لهم وآثر السلامة.
أما الإخوان فقد ساهموا في استقرار أركان دولة السيسي حتى حين.. بتلبية تطلعه لـ"التشقلب" والاستجابة لجانب في طبيعة الشعب المصري الذي لم يدرسوه، واستعجلوا فحكموه، دون تدبر.
علم السيسي، تمساح الغابة الحقيقي، أن المصريين يجب أن يذوقوا سوط المعز مع سيفه قبل ذهبه، ولذلك كرر المذابح قبل رابعة في الحرس الجمهوري الأول والثاني والمنصة ورمسيس.. ولم يأبه الإخوان أو يهتموا كالمساق إلى حتفه رغم أنفه، ولو أنهم مالوا إلى التفاوض حينها كما مال أربكان.. لسهلوا العودة.. لكن ليس في سياق فوري كما أرادوا وتوهموا، لو أنهم تصالحوا مع أنفسهم وعلموا أنهم لم يكونوا مؤهلين للحكم، لو أنهم تصافوا قليلاً وتصالحوا مع أنفسهم لهونوا الأمر.. ولاحتفظوا بقواعدهم شبه كاملة.. ولما أضيرتْ على هذا النحو المتجدد، وكان الأمر سيتطلب سنوات أقل ليعودوا.. إن استطاعوا الفصل بين الدعوي والسياسي.. مع صعوبة ذلك المطلقة.. ولكن على نحو ما بدأت عودة أردوغان في بداية الألفية الثانية أي عدة سنوات فقط.. ليصعد تياره سلم تركيا من جديد، ولا يقول أحد إنه يواجه المتاعب اليوم.. ولكنها تجربة تخاطب العقل لا عذب الشعور دون سند من واقع أو حسن تدبير..
فالعاقل هو من يستطيع وقت المحن الشديدة.. ووقت رمد العينين تحسس موضع الشمس.. لينظر من جديد على هدي نورها، وليس العاقل الذي يركب رأسه ليرى الصواب فقط ما يفعله، حتى وإن انشقتْ عنه حتى القاعدة الشعبية المكونة له من أمامه ومن خلفه..، وهو يظن أنها على قلب رجل واحد، وبالتالي عصف قادة الإخوان حتى بمكانة الجماعة المهمة لبنيان الحياة ونسيجها في مصر، وهو ما لا ينكره إلا ظالم..
وللحديث بقية ما دام في العمر بقية..
(مصر)