في أنّ المصطلح الممانع سُمٌّ مصفّى
هشام غانم
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!
يعني خذ مثلاً مصطلح "الرجل الأبيض". فما أن يطل برأسه حتى تهجم عليك كلمات مثل الاستعمار والاستلاب وثروات الشعوب والرجل الأبيض وفرانز فانون والاستشراق وفلسطين والقهر والرجل الأبيض والتبعية وغرامشي والتموضع والتموقع والرجل الأبيض والتمفصل وتعرية وفضح وخطاب وسردية والرجل الأبيض والرجل الأبيض والرجل الأبيض.
وأنا واللهِ لا أحاول الاستخفاف بهذه المصطلحات أو نفي وجودها في الواقع أحياناً. لكن لاحظ كيف تبدو نافرة ومقحمة إقحاماً في سياقات ناتئة وأزمنة غريبة عنها كما لو أنها منحوتة بأزاميل من خشب، ناهيك عن أن مجرد ورودها في المقالة الممانعة، حيث ترتع هناك هانئة مطمئنة في بحر من سوء النية؛ يؤدي إلى انتصاب سدود أمامك من الشك فيها وفي معانيها وفي حقيقتها وحقيقة أصحابها.
ثم إنك لو أمسكت كل مصطلح أو كلمة منها، وتأملته جيداً وقلّبته على وجوهه، وجدتَ أنه يدين صاحبه ويتلبّسه أكثر بكثير من الشخص أو الفئة اللذيْن يراد هجاؤهما. ولنبدأ بـ"الرجل الأبيض" درّة تاج المقالة الممانعة وقدس أقداسها. أصحاب هذا المصطلح هم غالباً "رجال بيض"، حقيقة ومجازاً. ذلك أنهم يحملون صفات الرجل الأبيض كما يتصورونه ويشيعونها تجاه الغير. فهم في معظمهم سوريون ولبنانيون من طبقات اجتماعية عليا ومن ذوي البشرة البيضاء. فإذا وقفتُ، أنا الرجل الحنطي، بجانب واحدهم، بدوتُ، من فرط الكونتراست، "الرجلَ الأسود".
وفي الجانب المعنوي، لا يكاد يخلو واحد منهم من ضرب شديد اللؤم من العجرفة والشعور الإمبراطوري والتعالي يتجلى حتى في رفض الرد على من "يحاورهم" في السوشل ميديا. لكن فوق هذا كله، ربما يجب أن نسأل عن مسؤولية المحور الذي ينطقون باسمه، عن جلب الرجل الأبيض إلى بلداننا.
أما الاستعمار، بأبشع معانيه، أي الاقتصار على الحضور العسكري، على نحو ما هي الحال مع الاستعمار الروسي في سورية، فلم تصدر عن المقالات الممانعة كلمة واحدة تندد به أو تعترف أصلاً أنه استعمار ابتداءً. وإذا عرّجت على الاستلاب؛ فقد ترى أنه ما من فئة في التاريخ أكثر استلاباً ممّن نظموا قصائد غزل في صوت طيارة السوخوي، التي قال قائلهم إن هديرها على السمع أوقع من الموسيقى.
وما يجري على المصطلحات أعلاه يجري على غيرها من أخواتها. فما التبعية إن لم تكن رهن قرار سورية ولبنان بيد إيران وروسيا ومليشيات قدمت من أطراف الأرض؟ وما "ثروات الشعوب" من غير الكلام عن ثروات رامي مخلوف وبقية الرهط؟ وما القهر إن لم يكن قصف المدن بالصواريخ والقتل في السجون؟ وما الخطاب من غير الاستماع لـ"خطاب" العميد عصام زهر الدين؟ بل وأكثر من ذلك، ما الاستشراق من غير الانتباه لما تقوله الممانعة في حق "العربان" و "رعاة الإبل" الخليجيين؟ وأما فلسطين، فآآآآه من فلسطين و"فرع فلسطين"!
لقد قيل الكثير عن ضرورة وجود قواميس مضادّة أو بديلة تفسّر النوع أعلاه من الكلام، أي ذلك الذي يؤدي عكس معناه. لكن هذه ليست المشكلة الوحيدة في الكلام إياه، بل لا تكفي السخرية منه لأنه، للأسف الشديد، ليس كلاماً هازلاً، بل جدّياً جداً. وهناك في هذا الزمن من هم مستعدون لتصديق ما لا يُصدّق والدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه.
الكلام الممانع ليس سمّاً في العسل، بل سمّ مصفّى، يسمّم الثقافة ويستولي على اللغة والقول والعبارة على نحو يلوّث السياسة ويُبطلها ويجعلها مطيّة للسلاح والأقوياء. ولذا، فالتصدّي للمصطلح الممانع وتعريته وفضح الخطاب الذي يتموقع خلفه، إنما هو فعلُ مقاومة بامتياز. يا إلهي، هل انتبهتَ أنني في الجملة الأخيرة استعملت كلمات مثل التصدي والتعرية والفضح والخطاب والتموقع وامتياز؟ ألم أقل لك قبل قليل إن الممانعة استولت على اللغة؟
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!