في السابعة من مساء كل يوم
في السابعة من مساء كل يوم، يبدأ الناس في الخروج إلى الشبابيك والبلكونات ليقوموا بالتصفيق والتصفير تحية لأفراد الطواقم الطبية الذين يواجهون جائحة فيروس كورونا المستجد ببسالة واقتدار في كل مستشفيات وعيادات نيويورك. تأخر ذلك الطقس الذي رأيناه من قبل في عدة مدن إيطالية في الوصول إلى نيويورك التي تحفل بالملايين من ذوي الأصول الإيطالية، كما تأخرت إجراءات كثيرة كان يجب اتخاذها لمقاومة الفيروس، بسبب وساخة إدارة البلاد بشكل عام وارتباك إدارة المدينة بشكل خاص، لكن ذلك الطقس تأخر أكثر في الوصول إلى المنطقة التي أسكن فيها في حي كوينز الذي تسكنه أغلبية كاسحة من المهاجرين من مختلف الأعراق، لدرجة أن منطقة فيه هي "جاكسون هايتس" تحتوي على أكبر عدد من الجاليات في العالم التي تجتمع في سكنى منطقة واحدة.
بعد أن رأيت بعض الفيديوهات التي تصور مظاهر ذلك الطقس في هارلم وبروكلين على مدى يومين متتاليين، استغربت حين ظل الصمت مخيماً في السابعة مساءً على العمارة الضخمة التي أسكنها والعمارات المجاورة لها، قلت ربما لم تصل المعلومة لجيراني لأنهم يهربون من متابعة الأخبار المقبضة، وفي اليوم التالي وبعد أن رأيت بعض تلك الفيديوهات مذاعاً في نشرات الأخبار المحلية، واستمر الصمت مخيماً على "البلوكّ" في السابعة مساء، تأكدت أن الحكاية وراءها ما هو أكبر من التجاهل.
هل يعقل أن يكون أغلب جيراني من جمهور قناة فوكس نيوز والمؤمنين بنظريات المؤامرة الذين يرون موضوع الجائحة مجرد لعبة سياسية تدبرها النخبة الأميركية لمنع دونالد ترامب من الاستمرار في حكم البلاد؟ ألم ألاحظ من قبل أن هناك من جيراني من يسمي شبكة "الوايفاي" الخاصة به باسم شعار حملة ترامب الانتخابية البائس "اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً؟"، لكن إذا كان تجاهل ما يجري يصلح في فترة البدايات التي كان ترامب فيها متبنياً فكرة التهوين من خطر الفيروس، فلماذا لم يتغير ذلك الآن بعد أن أصبحت سطوة الفيروس أقوى من ترامب؟ ألم تقل لنا إدارة العمارة في آخر إيميل أرسلته إن هناك عدداً كبيراً من السكان يعملون في مستشفيات كبيرة مجاورة وشكرتهم على ما يقومون به من مجهودات طبية، طيب، هل يعقل أن لا يكون حتى أهالي هؤلاء وأصدقاوهم راغبين في توجيه تحية لما يواجهونه من تحديات؟ وما الذي يحدث لو بادرت أنا وأسرتي إلى التصفيق بمفردنا؟
في اليوم التالي كنا قد اتخذنا كأسرة قرار المبادرة بالتصفيق والصفير مثل بقية أهالي نيويورك الذين رأيناهم في الفيديوهات، وحين اتجهنا نحو الشباك مع حلول السابعة مساء، فوجئنا بانبعاث أصوات التصفيق والتصفير من أكثر من شباك من شبابيك العمارة، بدت الأصوات خافتة ومرتبكة في البداية، ثم قرر جار ما أن يستخدم حلة معدنية ليبدأ في الدق عليها، فعلا صوت التخبيط واجتذب مقلدين للفكرة كنا منهم، وبعد لحظات أصبحت أصوات التصفير أوضح، ثم زاد التصفيق وتلته الآهات، وبدأت تتعالى إلى جوار ذلك أصوات عالية لا تمتلك منطقاً واضحاً، لكنها توصل بوضوح معاني الاستحسان والتضامن والتشجيع.
كنت أقف في شباك المطبخ، بينما تقف زوجتي وابنتي في شباك الغرفة، ووجدت نفسي أبكي من التأثر بفعل وصلة التضامن المرتبكة والمؤثرة تلك، وتذكرت على الفور ذلك الفيديو الذي رأيته لمواطن نيويوركي يقف أمام مستشفى (ألمهرست) القريب من منطقتنا، وهو يصور بهاتفه المحمول منظر جثامين من ضحايا الوباء يتم إدخالها إلى شاحنة ضخمة استعداداً للدفن، وهو يقول مكرراً بتأثر وفزع: "الأمر ليس بسيطاً يا جماعة.. الحكاية كبيرة.. خذوا بالكم.. أرجوكم خذوا بالكم"، وسألت نفسي: هل شاهد كثير من جيراني الفيديو مثلما شاهدته على الإنترنت، وقرروا تأثراً به أن يشاركوا بقية سكان نيويورك في تلك اللفتة التضامنية اليومية، خصوصاً حين بدا لهم أن شبح الموت أقرب بكثير مما نتصور، أم أن الأمر كله محض مصادفة؟
في اليوم التالي لاحظت أن أعداداً أكبر شاركت بمنتهى الحماس في اللفتة التضامنية بالتصفيق والتصفير والخبط والرزع على المواعين والأكواب الزجاجية، ربما ليتيحوا لصوت آخر أن يعلو على صوت الخوف ولو لدقائق طيلة اليوم، وبالأمس لم يكتف جيراني بما يفعلونه كل يوم، بل وقضوا وقتاً أطول في الاستماع إلى عزف جميل على الأورج انبعث من بلكونة لم أرها، لكننا وقفنا نستمع إلى من يعزف منها بمحبة وتقدير، وصفقنا له طويلاً، بل وطالبه بعضنا بالإعادة، لكنه لم يستجب للطلب، ربما لأنه شعر أن ذلك سيحول المسألة من لحظة تضامنية إلى حفلة، ومع أنني أحببت عزفه إلا أنني شعرت بتقدير أكثر لقدرته على ضبط انفعاله وإجبار نفسه على ترك المسرح في الوقت المناسب، وعزمت على أن أرسل إيميلاً إلى إدارة العمارة للسؤال عن رقم وحدته السكنية، لكي أشكره على اختياره للحظة المناسبة والموسيقى المناسبة أيضاً.
حين قلت لزوجتي ذلك، قالت لي إن إدارة العمارة أرسلت منذ دقائق إيميلاً تدعو فيه السكان إلى أن يقوموا في السابعة من مساء الغد بغناء أغنية "Lean on Me" والتي يوحي عنوانها الذي يمكن ترجمته بالعامية إلى "اسند عليّ"، بسبب اختيارها هي بالذات لتكون بداية لطقس الغناء الجماعي الذي قررت الإدارة تنظيمه، كنت قد شاهدت فيلماً عن المدارس الفقيرة وأحوالها يحمل نفس العنوان من بطولة مورجان فريمان، لكنني لم أكن قد سمعت عن تلك الأغنية من قبل، ثم عرفت أنها أغنية من السبعينيات للمطرب Bill Withers الذي اتضح أنه أشهر بكثير مما كنت أتصور، وعرفت أن سبب اختيار الأغنية لا يكمن في عنوانها وكلماتها فقط، بل لأن مطربها توفاه الله يوم 30 مارس بعد أن أصيب بأزمة قلبية وفارق الحياة بعد أن تجاوز الثمانين من عمره، ولأن أحداً منا لا يحفظ الأغنية، فقد قررنا أن نكتفي بالتصفيق والهمهمة إلى أن يتم اختيار أغنية نعرفها، فنشارك في الغناء بما فتح الله علينا.
بعد قليل قررت ابنتي التي بادرت إلى سماع الأغنية على الإنترنت، أن تبدأ في حفظ كلمات الأغنية لتشارك في الغناء مع الجيران، كنا قد شاهدنا في اليوم السابق فيديو لكوميديانها المفضل تريفور نواه القادم من جنوب أفريقيا قبل سنوات ليحل محل أستاذه العظيم جون ستيوارت في برنامجه اليومي الساخر، خرج نواه في الفيديو إلى بلكونة شقته في مانهاتن وشرع في الغناء مقلداً الفيديوهات المثيرة للشجن والتي نراها قادمة من إيطاليا المنكوبة، فطلب منه جار نيويوركي غاضب أن يخرس، ومع أن الفيديو مصنوع بهدف الإضحاك، إلا أنه كان يشير إلى المزاج الحاد المعروف عن غالبية سكان نيويورك الذين تجبرهم المطحنة الكبيرة التي يعيشون فيها على أن يكونوا أشرس من اللازم، وأخذنا نتذكر سوياً الفيديوهات التي رأيناها والتي تقدم محتوى شبيهاً لمحتوى فيديو تريفور نواه، ثم وجدنا على الإنترنت فيديوهات من أكثر من منطقة سكنية في نيويورك يوجد بها حالة غناء جماعي بين السكان، كان من أجملها فيديو في أحد بلوكات بروكلين الفقيرة والتي اشترك سكانها في أغنية صاخبة لابن المنطقة المغدور نوتوريوس بي آي جي.
عبرت خلال مروري بين الفيديوهات على حديث لأحد خبراء الصحة النفسية يؤكد فيه على أهمية مثل هذه الممارسات الغنائية في خلق حالة من التضامن الجماعي التي تخرج الطاقة السلبية وتستبدلها بطاقة إيجابية تكتسب في هذه الظروف أهمية استثنائية، لأنها ترتبط بجهاز المناعة الذي أصبح خط دفاعنا الأول والأخير، كررت على مسامع ابنتي بعض ما قاله الخبير لكي أشجعها أكثر على حفظ الكلمات، بوصفها ستكون ممثلة الأسرة في طقس الغناء الجماعي الذي وعدت الإدارة أنه سيتكرر كل يومين أو ثلاثة لو تحمس السكان للمشاركة فيه، خصوصاً أن العازفين المجيدين في العمارة اتضح أنهم أكثر مما نتصور، لكنني بعد قليل مررت على تقرير كابوسي يقول إن حالة الغناء الجماعي التي اشتهرت بها بلكونات المدن الإيطالية تراجعت كثيراً في الأيام الماضية، بل وتكاد تكون توقفت مع الارتفاع الجنوني لأعداد الوفيات وتضاؤل قدرة المستشفيات على المقاومة. لم أخبر أسرتي بأي شيء عن ذلك التقرير، ولا بتقارير مماثلة تتحدث عن استعداد نيويورك للسيناريو الإيطالي مع انكشاف وهم الإمبراطورية التي يزعم ترامب وأنصاره أنها كانت عظيمة من قبل وأنهم أعادوا أمجادها أخيراً، بل قررت أن أبدأ أنا أيضاً في تعلم كلمات الأغنية.
سنأخذ حذرنا ونقاوم، ومطرح ما ترسي سندقّ لها ونحن نصفق في السابعة من مساء كل يوم، ونسأل الله اللطف والسلامة.
...
(إلى محمد المخزنجي)