تعود الأزمات التي تعيشها "حركة التحرير الوطني الفلسطيني - فتح" في سياق مشروع إلى طبيعة الحركة نفسها، وإن كان أعمقها يعود إلى التحولات التي عاشتها بعد تحولها إلى مشروع السلطة، أي بعد اتفاقية أوسلو.
امتازت "فتح" بغياب الأيديولوجيا وهو ما أتاح لها أن تتحول إلى حركة جماهيرية بخلاف الأحزاب العقائدية من اليسار والإسلاميين، ولكن هذه الصفة - التي طالما اعتبرها منظروها عنصر قوة - هي بالذات نقطة ضعف الحركة، فما دامت تعمل بلا أيديولوجيا فهي بجمهور عريض، ولكن من دون ضوابط فكرية وبوصلة إلى حدٍ ما، يمكن إقامة مساءلات وتقويمات من خلالها المساءلة.
وهذا ما جعل الهدف الوطني يتبدّل خلال الطريق ولا يتعيّن منذ البداية، ففي "الميثاق القومي الفلسطيني" (1964) دعت منظمة التحرير إلى استعادة فلسطين كاملة، وعادت بعد أربع سنوات فطرحت شعار "الدولة الفلسطينية الديمقراطية" التي يتعايش فيها العرب واليهود، وسيظهر بعد ذلك شعار "السلطة الوطنية" الذي سيتلوه شعار "الدولة الفلسطينية المستقلة" عام 1983، الذي سينفتح على "الآخر الإسرائيلي" بقبول الاتصالات مع ما سمي وقتها بـ"القوى اليهودية التقدمية" وصولاً إلى مؤتمر الجزائر عام 1988 الذي قبل بدولة فلسطينية مستقلة حدودها الرابع من حزيران 1967، والاعتراف بدولة إسرائيل.
جاءت اتفاقية أوسلو بما يشبه القمار لمرة واحدة، فكما قال محمود عباس في حينه إن هذا الاتفاق سيأخذنا إما للجنة وإما للجحيم. ومن الواضح أننا لم نذهب إلى الجنة، فعلى الصعيد الاقتصادي اليوم، أصبحت السوق الإسرائيلية هي السوق الخارجية الرئيسية للاقتصاد الفلسطيني في ما يتعلق بالصادرات (نحو 70% من مجمل الصادرات) وبالواردات (نحو 90% من مجمل الواردات) وتراجع الناتج القومي والمحلي الإجمالي ونصيب الفرد من كليهما.
وأوكلت بـ"السلطة الوطنية الفلسطينية" مهمة ضبط الأمن وفق "الاتفاقيات الموقعة" وهو ما وضعها على النقيض من سلاح المقاومة، ومع أنها أنجزت تقدماً على صعيد ضبط الأمن الداخلي والفلتان، إلا أنها لم تفرق بين سلاح الفلتان وسلاح المقاومة، وإن كان هذا الاصطدام بدأ مع حركة حماس، فهو اليوم مع كوادر فتح وأبناء المخيمات ممن ما زالوا يحملون بنادقهم.
لقد سيطرت فتح على المنظمة واحتفظت للفصائل الأخرى بتمثيل لا يضر، ولكنها في حالة السلطة تماهت معها تماماً حتى أصبح من المستحيل فصل الجسمين عن بعضهما بعضاً. وهو ما أضرّ بحركة فتح وألحق بها أخطاء السلطة الإدارية والسياسية الجسيمة.
لقد وصل مشروع "الدولة" إلى طريق مسدود؛ فيما بقيت السلطة محافظة على اتفاق أوسلو من جانب واحد، وإسرائيل تصنع الحقائق على الأرض كل يوم، من استيطان واغتيال واعتقال للشعب الفلسطيني، وهذا الجمود من جانب السلطة يشير إلى حجم تقلّص الإرادة الوطنية، فالخيارات القادمة، بالضرورة، يجب ألا تستثني خيار المواجهة العنيفة وهو ما صرح باستحالة حدوثه الرئيس محمود عبّاس في أكثر من مناسبة. لكن بأي أدوات يمكن الضغط على إسرائيل وتحقيق أي نوع من التقدم في "المسار السلمي"؟
إن رفع شعار "المقاومة الشعبية" لم يكن جاداً، فلم يجر تنظيم حركة مجتمعية صلبة لإدارة الاشتباكات الأهلية مع الاحتلال، وتم الاكتفاء بنماذج لاقت استحسان "الرأي العام العالمي" مثل نموذجي "بعلين" و"نعلين".
والتعويل الأخير اليوم، من قبل السلطة، هو على الانضمام إلى مزيد من المنظمات والمعاهدات الدولية، وحيث تتعامل السلطة مع "المجتمع الدولي" بحسن نية مفرط، متجاهلة تاريخاً طويلاً من الانحياز للأقوى في سلوك هذا "المجتمع"، وبالتالي فالمسألة ليست مسألة قوانين، بل مسألة قوة تفرض شروطها وإرادتها.
(باحث فلسطيني / طولكرم)