09 نوفمبر 2024
في النأي الإيراني التام عن القدس
يسقط تسعة شبان لبنانيين يوم الأربعاء الماضي، (9 أغسطس/ آب الجاري)، ينتمون إلى حزب الله، في البادية السورية قريباً من مثلث الحدود مع العراق والأردن. ينعاهم الحزب الإلهي وينشر صورهم. في كل صورة مجسم ذهبي اللون لقبة الصخرة المشرّفة يتقدّم الشاب صاحب الصورة. والإيحاء أن القتلى سقطوا محبّةً في المسجد الأقصى والقدس. .. ها هي طريق أخرى إلى القدس، يرسمها من أرسلوا هؤلاء إلى الموت، إنها طريق البادية السورية، والقتال هناك من أجل تمكين الحشد الشعبي العراقي ومليشيات إيران من التدفق بسلاسة إلى سورية للقتال إلى جانب نظام دمشق. وفي تلك البادية التي يجتمع فيها الرمل مع الصهد، تطفو صورة تتخيلها وتبثها دعاية الحزب للقدس، لكنها صورة لا يراها أحد من المقاتلين على الرمال.
وتحفل هذه الأدبيات بالقدس، وعلى غرار بقية الأحزاب الإسلامية، ينتج حزب الله أناشيد جهادية ودعوية وهادفة، تتخذ من القدس عنواناً لها. ويحفل "يوتيوب" بهذه الأناشيد التي تجمع بين الرتابة والصراخ، ومنها "يا قدس حزب الله قادمون"، وقد دأب قادة في الحزب على التلفع بالوشاح الفلسطيني في المناسبات، أسوةً بالمرجع المرشد في طهران، آية الله علي خامئني.
وقد تزامنت صولات حزب الله في البادية السورية مع اشتعال معركة الأقصى، واستباحته من الاحتلال ومستوطنيه، إلا أن هذا التزامن لم ينعكس بأي اهتزاز لا للبوصلة العسكرية لحزب الله، وصولاته وجولاته نصرة للنظام ضد شعبه. وفي واقع الحال، يستنسخ حزب الله تجربة أنظمة عربية تهتف للقدس، من دون أن تقدم شيئاً لها. ويعتنق الحزب فكرة أن الجمهور يولي اهتماماً بالأناشيد والتصريحات والخطابات، وما شاكلها من نشاطاتٍ شفوية لفظية ومموسقة،
بأكثر مما يولي اهتمامه لمعاينة الممارسات والسياسات الفعلية المتبعة. وهذا سرّ الاهتمام الفائق بتوجيه خطاباتٍ دوريةٍ يأتي فيها الخطيب دائماً على ذكر إسرائيل والاحتلال، فيما الاحتكاكات مع الإسرائيليين متوقفة تماماً منذ أحد عشر عاماً، وفيما قوات الحزب لا تحارب إلا السوريين في وطنهم، وما تيسّر من شعوبٍ عربية أخرى في العراق واليمن. وتنسج النسخة اليمنية للحزب، أنصار الله (الحوثيون) على المنوال ذاته، فالحرب على اليمنيين وعلى النسيج الاجتماعي وعلى الشرعية هناك، تتم تحت يافظة: الموت لإسرائيل، وعلى وقع نشيد "القدس تجمعنا" مع أن الجامع الوحيد الذي يجمع الانقلابيين هو العداء لحق اليمنيين في تقرير مصيرهم، والولاء التام لإيران، وتمكينها من التمدّد وبسط النفوذ على أرض سبأ وبلقيس، أما القدس فهي كلية البراءة من دماء اليمنيين، ومن هذه المخططات التوسعية لاختراق العالم العربي ولمحاولات جعل المنطقة العربية امتداداً للإمبراطورية الإسلامية الإيرانية، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير المدن العربية على رؤوس ساكنتها، وكما يحدث بالفعل في سورية واليمن والعراق.
وليس للقدس في الدعاية الايرانية أناشيد ومجسمات وهتافات فقط، بل هناك فيلق يتبع الحرس الثوري، ويحمل اسم "فيلق القدس"، وهو بمثابة جيش مدرّب على حروب المدن والجبال، وقوام عديده نحو مائة ألف جندي، ويعتبر ذراع العمليات الخارجية للحرس الثوري، ذلك أن هذا الحرس لا يأبه بحدود، أو بسيادة دول، أو بحقوق الشعوب. ولا يجد أي غضاضةٍ في أن تكون له عمليات خارج الحدود الإيرانية. على أنه لا مكان للقدس، والأرض المحتلة عموماً، في أجندة "فيلق القدس"، وليس من شأن هذا الفيلق أن يتلهى بمعارك جانبية غير استراتيجية، مثل القدس المحتلة. وقد لوحظ أن هذا الفيلق، بقادته العسكريين وبمرجعيته الدينية والسياسية، قد أشاح أنظاره عن معركة القدس في الشهرين الماضيين، وأبدى صموداً لافتاً في إدارة الظهر لهذه المعركة، وصمّ الآذان عنها بصورة شبه كلية. وتفسير ذلك أنه ما دامت فرص التمدّد الإيراني هناك شبه معدومة، وما دامت الحرب الجهادية الطائفية غير ممكنة هناك، كما هي مستعرة في سورية والعراق، للدفاع عن المراقد والمقدسات والأضرحة، إذن لن يخون الذكاء رجالاً، مثل قاسم سليماني وحسن نصر الله، ولن يبدّدوا طاقاتهم في تلك المعركة الجانبية
الخاسرة، وسوف يتم الاكتفاء، كما هي العادة، بقصف إعلامي وإطلاق أناشيد وتصريحات، ما قد يأخذ بألباب جانبٍ من جمهور يصدق كل ما يسمع نصرة للقدس والمقدسات. وعلى هذا الجمهور أن ينتظر حلول يوم قدس إيراني جديد في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان (حسب الموعد السنوي الثابت منذ العام 1991)، كي يسمع رأي المراجع في ما يجري في القدس. علماً أن هذا اليوم الذي يُعقد في طهران يجمع شركاء إيران من قادة مليشياتٍ وأحزاب، وحيث تجري فيه الإشادة بثورة إيران وقياداتها الدينية، وأياديها البيضاء على الشعوب الإسلامية. وتبدو القدس مجرد خلفية للمشهد، فالغرض هو تسويق الأجندة الإيرانية، ودعوة الشعوب إلى أن تتخلى عن حقها في تقرير مصيرها، وأن تسلم قيادها لإيران، ولزعامتها الملهمة التي تنوب عن كل الشعوب الإسلامية، وتنطق باسمها.. شاءت هذه الشعوب أم لم تشأ.
وهكذا، بالانضباط الإيراني في معركة القدس، والنأي التام بالنفس عنها، يتضّح، مرة أخرى، مدى حدود الدعاية، ومدى انفصالها الكلي عن الواقع، بما يتعلق بالقدس والأراضي العربية المحتلة. والرسائل الإيرانية بهذا الخصوص، للغرب ولأميركا بالذات، أن طهران ليست في وارد إزعاج إسرائيل، وأن اقتراب بعض المليشيات من الحدود مع جبهة الجولان المحتل يُراد به تحسين أوراق التفاوض مع واشنطن، لا الاشتباك مع إسرائيل، وذلك للحفاظ على الاتفاق النووي، ولحمل واشنطن على الاستمرار في سياستها القائمة على غض النظر عن التمدّد الإيراني، علماً أن طهران تركّز جهودها على محاربة الإرهاب فحسب (وحيث يقتضي ذلك شن الحرب على كل مكونات ومشتملات البيئات السنيّة)! حتى لو كانت مليشيات إيران تمارس الإرهاب على طريقتها داخل إيران وخارجها.
ومن حق الفلسطينيين، ومعهم أنصار العدل والحرية في كل مكان، إزاء هذا الاستعمال المتمادي لاسم القدس في الأدبيات، وفي الغزوات الإيرانية، أن يجهروا بالرفض الحازم: ليس باسمنا.. ليس باسم القدس.
وتحفل هذه الأدبيات بالقدس، وعلى غرار بقية الأحزاب الإسلامية، ينتج حزب الله أناشيد جهادية ودعوية وهادفة، تتخذ من القدس عنواناً لها. ويحفل "يوتيوب" بهذه الأناشيد التي تجمع بين الرتابة والصراخ، ومنها "يا قدس حزب الله قادمون"، وقد دأب قادة في الحزب على التلفع بالوشاح الفلسطيني في المناسبات، أسوةً بالمرجع المرشد في طهران، آية الله علي خامئني.
وقد تزامنت صولات حزب الله في البادية السورية مع اشتعال معركة الأقصى، واستباحته من الاحتلال ومستوطنيه، إلا أن هذا التزامن لم ينعكس بأي اهتزاز لا للبوصلة العسكرية لحزب الله، وصولاته وجولاته نصرة للنظام ضد شعبه. وفي واقع الحال، يستنسخ حزب الله تجربة أنظمة عربية تهتف للقدس، من دون أن تقدم شيئاً لها. ويعتنق الحزب فكرة أن الجمهور يولي اهتماماً بالأناشيد والتصريحات والخطابات، وما شاكلها من نشاطاتٍ شفوية لفظية ومموسقة،
وليس للقدس في الدعاية الايرانية أناشيد ومجسمات وهتافات فقط، بل هناك فيلق يتبع الحرس الثوري، ويحمل اسم "فيلق القدس"، وهو بمثابة جيش مدرّب على حروب المدن والجبال، وقوام عديده نحو مائة ألف جندي، ويعتبر ذراع العمليات الخارجية للحرس الثوري، ذلك أن هذا الحرس لا يأبه بحدود، أو بسيادة دول، أو بحقوق الشعوب. ولا يجد أي غضاضةٍ في أن تكون له عمليات خارج الحدود الإيرانية. على أنه لا مكان للقدس، والأرض المحتلة عموماً، في أجندة "فيلق القدس"، وليس من شأن هذا الفيلق أن يتلهى بمعارك جانبية غير استراتيجية، مثل القدس المحتلة. وقد لوحظ أن هذا الفيلق، بقادته العسكريين وبمرجعيته الدينية والسياسية، قد أشاح أنظاره عن معركة القدس في الشهرين الماضيين، وأبدى صموداً لافتاً في إدارة الظهر لهذه المعركة، وصمّ الآذان عنها بصورة شبه كلية. وتفسير ذلك أنه ما دامت فرص التمدّد الإيراني هناك شبه معدومة، وما دامت الحرب الجهادية الطائفية غير ممكنة هناك، كما هي مستعرة في سورية والعراق، للدفاع عن المراقد والمقدسات والأضرحة، إذن لن يخون الذكاء رجالاً، مثل قاسم سليماني وحسن نصر الله، ولن يبدّدوا طاقاتهم في تلك المعركة الجانبية
وهكذا، بالانضباط الإيراني في معركة القدس، والنأي التام بالنفس عنها، يتضّح، مرة أخرى، مدى حدود الدعاية، ومدى انفصالها الكلي عن الواقع، بما يتعلق بالقدس والأراضي العربية المحتلة. والرسائل الإيرانية بهذا الخصوص، للغرب ولأميركا بالذات، أن طهران ليست في وارد إزعاج إسرائيل، وأن اقتراب بعض المليشيات من الحدود مع جبهة الجولان المحتل يُراد به تحسين أوراق التفاوض مع واشنطن، لا الاشتباك مع إسرائيل، وذلك للحفاظ على الاتفاق النووي، ولحمل واشنطن على الاستمرار في سياستها القائمة على غض النظر عن التمدّد الإيراني، علماً أن طهران تركّز جهودها على محاربة الإرهاب فحسب (وحيث يقتضي ذلك شن الحرب على كل مكونات ومشتملات البيئات السنيّة)! حتى لو كانت مليشيات إيران تمارس الإرهاب على طريقتها داخل إيران وخارجها.
ومن حق الفلسطينيين، ومعهم أنصار العدل والحرية في كل مكان، إزاء هذا الاستعمال المتمادي لاسم القدس في الأدبيات، وفي الغزوات الإيرانية، أن يجهروا بالرفض الحازم: ليس باسمنا.. ليس باسم القدس.