في انتظار الموجة الثانية للربيع العربي
لم يغب الربيع العربي حتى يعود، ولكن، من باب البحث عن صيغة ما للتعبير المجازي، نقول إن الربيع العربي الذي بدا أنه غاب أو غُيّب، سيعود قريباً جداً، ولكن، هذه المرة، سيكون أشد مضاء وأكثر تنظيماً. هذه ليست نبوءة، لكنها قراءة استشرافية مبنية على حقائق قائمة الآن، ومنها، أن أعداء الربيع العربي تحديدا، بدأوا حملة مقاومة شرسة له بالأساليب نفسها التي كانت سبباً لاندلاعه، من حيث مصادرة الحريات، والتضييق على الخلق في أرزاقهم، وعودة القبضة الأمنية، وتنمّر الأجهزة، والمنع من السفر، والتهديد بسحب الجنسيات، وما إلى ذلك من أساليب غذت الثورة في نفوس شباب الربيع العربي، وحثتهم على الخروج إلى الشوارع.
إضافة إلى هذا، تلمح نَفَساً ثأرياً في التعامل مع كل من شارك في الربيع، وتنكيلاً في غير ساحة عربية بالشباب، من مشعلي الثورة ووقودها. وتربي هذه الممارسات الثأرية في النفوس مزيداً من الغضب والحقد الأسود على الأنظمة القمعية، وتراكم رغبات دفينة متطلعة إلى تغيير حقيقي، يتجاوز أخطاء الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي.
وإلى هذا وذاك، لم يشهد أي بلد عربي، تقريباً، أي تغيير حقيقي، يلبي طموح من ثاروا، ما يعني بالضرورة أن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورات لم تزل موجودة، وهي الوقود الأساس لها، إذ لم يلتقط سدنة النظام العربي الرسمي الرسالة التي حملها الربيع، ولم يكد يستفيد أحد من عبره الكبرى، وبدا أن هناك نوعاً من التحايل في كيفية إبداء التفاعل مع تطلعات الثوار، عبر إجراء إصلاحات تجميلية لا تصل ولو إلى الحد الأدنى من طموح الثوار.
وبالطبع، لا ننسى، هنا، ما قامت به قوى الثورة المضادة من جهد جبار لإفراغ الربيع من أي محتوى، بل إن هذه القوى لم تُبق أياً من الأساليب الذكية لشيطنة الربيع إلا واستخدمته، ووضعه في صورة الشر المستطير الذي خلف قتلى ودماراً وخراباً في البلاد التي شهدت ثورات الربيع. وهذه حيلة باتت مستهلكة، واستهدفت بعض ضعاف النفوس من السطحيين، حين قالت لهم: انظروا ماذا فعل الربيع في بلد كذا وكذا. والحقيقة أن ما فعل الأفاعيل في بلاد الثورات ليس الربيع، بل من قاوم الربيع، وقصف عمر تطلعات ثواره، فأجهز على النبتة الغضة، قبل أن تستوي على سوقها!
وإن ننسى فلا ننسى السبب الاقتصادي للثورات، فالجوع وضيق العيش أحد مغذيات التغيير، ووقود ضروري للثورة، ولا يخفى، هنا، أن البلاد التي قمعت الثورات، واستأسدت فيها الثورة المضادة، تعيش حالاً اقتصادياً بائساً أشد مضاء وسوءاً مما كان عليه الأمر في مرحلة ما قبل ثورات الربيع، ما يؤكد أن الثورات الملتبسة التي لبست ثياب الثورة الحقيقية، وهي في الواقع ثورة مضادة، لم تنجح في الضحك على ذقون الجماهير، بعد أن تحولت حياتهم الاقتصادية إلى الأسوأ، والأكثر بؤساً من قبل، وهذا سبب آخر من أسباب تهيئة الفرصة لهبوب الموجة الثانية من موجات الربيع العربي.
ينقسم المنخرطون في عملية "شيطنة" الربيع العربي إلى أربع فئات، وربما أكثر: أولهم المتضررون من التغيير، المرتبطون بالوضع القائم، فهم يشعرون بأنهم مهددون في مصالحهم، ويمكن أن يفقدوا امتيازات شخصية بحتة، في حال مضى قطار الربيع إلى مبتغاه، وهو ماض على كل الأحوال، ولا سبيل إلى إيقافه إلا بالركوب في إحدى عرباته، والمتضررون من التغيير على أنواع، أيضا، فمنهم من يعتقد أنه سيهدد مكتسباتهم التي حازوها في ظل ظروف معينة واستثنائية، وبعضهم يحسب أن ريح الربيع ستأتي بأشخاص غامضين، سيتنكرون لـ"حقوقهم المكتسبة"، كأقليات دينية أو عرقية أو كفئات لبلابية تعربشت على أكتاف الأنظمة، فأضحت كالعلق الذي يتغذى على أجسام الكائنات.
ثانيهم من تعشش في رأسه عقلية المؤامرة، فهو يعتقد أن ثورات الربيع صناعة أميركية أو إسرائيلية، أو غربية، ولا ينفع مع هؤلاء نقاش أو جدل منطقي، لأنهم يعتقدون أن كل شيء "مصنوع" خارج الحدود، ولا يفيد مع هؤلاء أن تأتيهم بتلال من الحقائق، أو التصريحات التي صدرت وتصدر عن قادة غربيين، عن خطر الربيع على مصالحهم. وليس المراد هنا تفنيد ما لا يمكن تفنيده من اعتقاد استقر في وعي هذه الفئة من مشيطني الربيع، ولكن، يُكتفي بما قاله اثنان، توماس فريدمان، عندما قال، قبل أشهر، إن إسرائيل تواجه أكبر تآكل في محيطها الاستراتيجي منذ قيامها. فقد تخلت عنها حليفتها القديمة تركيا، وعدوتها اللدود إيران تطور قنبلة نووية. والدولتان الأقوى على حدودها، سورية ومصر، تهزهما الثورات. والدولتان الأضعف، غزة ولبنان، تحكمهما حماس وحزب الله! الثاني نعوم تشومسكي الذي يعتبر من أكثر المفكرين إثارة للجدل، فقد أبدى تفاؤلاً حذراً بالربيع العربي الذي يراه "نموذجاً تقليدياً لحركات شعبية قوية، لا سيما في تونس ومصر"، وليس مؤامرة غربية على أنظمة ديكتاتورية خدمت الغرب نحو نصف قرن.
ثالث من يشيطون الثورات العربية هم من يعتقدون أن العدو اللدود لهم وللأمة هم الإسلاميون، وخطرهم أشد من خطر إسرائيل، إذ يعمد أولئك إلى تصوير الإسلاميين بأنهم يريدون إعادة البلاد والعباد إلى ما قبل ألف وأربعمائة سنة. وهؤلاء لهم ثارات معينة مع الإسلاميين، أو يشعرون بتهديد لمصالحهم، وحتى وجودهم، لأن لديهم صورة نمطية عن هذه الفئة التي صنعتها جملة من العناصر، وربما أضافت أخطاء الإسلاميين تشوهات إضافية لصورتهم عند هؤلاء.
الفئة الرابعة التي تخشى الربيع وأزهاره، هم الذين ينفرون من التغيير، من حيث المبدأ، من باب (اللي بتعرفه أحسن من اللي بتعرفوش).
وعلى الرغم من الإخفاقات المرحلية التي سُجلت في دول الربيع العربي، وعلى الرغم من محاولات التشويه والشيطنة، إلا أن ما حدث هو الصورة الأكثر طهراً ونظافة في القرنين الأخيرين في حياة العرب، وسيعلم أصحاب الشيطنة صدق ذلك، ولو بعد حين.
وعلى الرغم من كل ما سلف، ثمة فرصة ذهبية لدى الأنظمة العربية التي تمتلك ولو حداً أدنى من الفهم الاستشرافي، واستباق الخطر، لما يمكن أن نسميه "إجهاض" الموجة الثانية من موجات الربيع العربي، بشيء من الحنكة والذكاء. والحقيقة أن أمام الأنظمة التي خرجت قوية من تحت غبار الربيع، فرصة ذهبية لإعادة "تدوير" الربيع لمصلحتها، بحيث تأخذ بيدها إجراء ما يلزم في بنية أنظمتها من تغييرات، بإرادتها ووفق "المقاسات" التي ترغبها، بعقل بارد ومن دون ضغط من جماهير هادرة في الشوارع والميادين، وفي هذا فائدة عظيمة لها في البعد الاستراتيجي، حيث تضمن لها هذه التغييرات ديمومة استقرارها، ويمكنها "بيعها" لدى جماهيرها باعتبارها منتجاً ذاتياً، ناهيك عن أنها توفر لها مدى غير منظور من الهدوء والاستقرار، وتمنحها شيئاً من "الشرعية" التي تآكلت على مر الزمن.
مثل هذه المبادرات "الرسمية" ضرورية في هذا الوقت بالذات، لكي لا تفاجأ هذه الأنظمة، مرة أخرى، بخروج طائر الفينيق من تحت الرماد، فالفشل أو "التفشيل" المرحلي الذي أصيبت به ثورات الربيع لم تدفنه، بل بدا أنه في حالة كمون، أو أنه يعيد ترتيب أوراقه وأولوياته، وخير لهذه الأنظمة أن تقطع على الربيع "صحوته" المفاجئة، بالاستجابة الطوعية لبعض مطالبه، أو جلها، لتكتسب عمراً مديداً واستقراراً مطلوباً.
إن إعادة تدوير مخرجات الربيع العربي، وإخراجها بصورة أخرى، تجعل عودة الربيع بشكله المعروف ملتبسة، وفي وسع من نجا منه أن يصنع ربيعه بنفسه، وعلى مقاسه، ووفق ما تقتضي مصالحه. وهذا يبعد شبح أي مفاجآت مستقبلية، خصوصاً أن بعض الأنظمة شاخت واهترأت، وأصبحت بحاجة إلى عملية تلميع أو تجديد لكي تستمر.
ربيع الأنظمة بطبعته المصنوعة بخبرات رجال الأمن والاقتصاد والاستراتيجيا، ضمان لإجهاض أي ربيع شعبي، لا يبقي ولا يذر، سواء جاء اليوم أو غدا، طال غيابه أم لم يطل.
وفي انتظار الموجة الثانية من موجات الربيع العربي، نرقب عن كثب الفضائح التي ملأت الآفاق لرموز الثورة المضادة، عبر التسريبات التي تترى بين حين وحين، وتكشف للعلن سر الجهود والأموال التي استثمرت لإجهاض الربيع. وهنا، سبب آخر لشحذ همم الشباب، وتيقنهم أن الخلاص لن يكون بالاستكانة، والاستسلام لظلام السجون، والقمع، وتكميم الأفواه، بل للإعداد على مهل لإطلاق هذه الموجة، قريباً أم بعيداً، لا أحد يعلم بالتحديد. لكن، المؤكد أن الربيع يأتي مرة في العام، وربيع العرب ليس "بيضة ديك"، أو طفرة جينية يتيمة، فالثورات ليست قلي بيض، بل هي عملية معقدة وعميقة، ومستمرة، وتأتي على مرتحل وموجات.
الوقائع التي خلفها الربيع لا يمكن أن تمحوها انتكاسته، وحتى هذه الانتكاسة دليل على صحة مساره، فلو استقبله مناهضوه بالترحاب والاحتفال، لغدونا في شك عميق من صحته، أما حينما نرى ذلك الاستنفار الكوني والتضامن العالمي لإفشاله وإظهاره بصورة شيطانية، فهذا يعني صوابيته وخطورته على البنى القائمة. بالإضافة إلى أن مسألة في غاية الأهمية، هي أن اتفاق الأضداد والمتنافرين ومختلفي التابعية والانتماء وتلاقيهم على محاربته، تعني أنه بداية خلق جديد. وفي هذا يقول ابن خلدون في مقدمته: "وإذا تبدلت الأحوال جملةً، فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث". ونحسب أن الأحوال، فعلاً، تبدلت في مجملها إبّان ذروة الربيع العربي، وأفرزت ظاهرة غير مسبوقة، حيث أصبح للجماهير كلمة، ولوقفتها معنى، وقد كانت مجرد آحاد لها قيمة عددية بلا وزن نوعي، أما اليوم فشأنها مختلف، حيث غابت العبارات الانهزامية الشهيرة، مثل: وأنا مالي، أو: ماذا أستطيع أن أعمل، أو حط راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس، وسوى ذلك من مفاهيم انهزامية، استوطنت العقل الجمعي، فشلت قدرة الجماعة على العمل، وهذه بذرة "خطرة"، لو يدرك من يحاول أن يطفئ الجمرة بمحاولة سحقها بقدمه.