أخيراً وبعد تعذّر تعميم القرار الأول بسبب اعتراض القضاء ومضي أكثر من ثلاثة أسابيع في وضع صياغة مختلفة له، صدر الإثنين قرار ترامب الثاني بمنع دخول مواطني عدد من الدول الشرق أوسطية إلى أميركا.
الجديد في قرار ترامب ثلاث نقاط: أنه شمل ستة بلدان بعد حذف العراق من اللائحة. ثانياً، أنه خلافاً للمرة الأولى غاب الرئيس ترامب عن تقديمه وناب عنه الثلاثي المعني بالموضوع(وزير الخارجية ركس تيلرسون، الذي ظهر لأول مرة في مسألة لها علاقة بالسياسة الخارجية، المدعي العام أي وزير العدل جيف سيشينز ووزير الأمن الأداخلي الجنرال جون كالي). وثالثاً، أنه استثنى صراحة حملة الإقامة - البطاقة الخضراء – والتأشيرات السابقة من المنع.
لكن لا توجد ضمانة لترجمة هذه الاستثناءات بحذافيرها. فالمدعي العام المنوطة به مسائل الهجرة، كرر اليوم بأن القرار الأول "كان قانونياً"، برغم نقضه من جانب المحكمة. الأمر الذي يستبطن أن تنفيذ مضمونه في ظل القرار الجديد أمر وارد ولو بصورة الاستنساب؛ على اعتبار أنه ليس فيه خروج على القانون. الأمر الذي أثار توقعات بأن القرار الجديد الذي يدخل التنفيذ بعد عشرة أيام، في 16 الجاري، محكوم بإثارة نزاعات قانونية تضعه كالأول في يد القضاء قريباً؛ ولو أن الإدارة شددت بلسان الوزراء الثلاثة على أنه "قانوني وجاء لتلبية حاجة أمنية" داخلية. فتقديمه في إطار هذه الحيثية وبمثل هذا الإخراج الوزاري، أراد به البيت الأبيض إحاطة قراره بطابع الإجماع داخل الإدارة، وبما يمنحه من التحصين ما يكفي لعدم وصمه بالعنصرية.
وبعد عرض القرار بهذه الصورة بدا، على الأقل بحكم التوقيت، أنه رمى إلى تحقيق غاية ثانية لا تقل أهمية وخطورة: حرف الأنظار عن آخر خبطات الرئيس ترامب التي أذهلت واشنطن والتي اتهم فيها الرئيس أوباما بـ "التنصت " على اتصالاته ولقاءاته خلال الحملة الانتخابية.
تهمة التنصت بدت صدقيتها أشبه بصدقية الحديث عن سقوط المطر من سماء زرقاء. لا دليل يدعمها. ليس في واشنطن من صدّقها سوى المحيطين به وبعض أنصاره الذين ارتبكوا في تسويغها وتسويقها. حتى الجمهوريون جهدوا لحجب الضيق من تفجير هذه القنبلة التي لا تستقيم مع تراتب الإجراءت المعمول بها في مثل هذه الحالات.
وحتى يجري التنصت تلبية لرغبة الرئيس (أوباما)، فعلى هذا الأخير الطلب من وزارة العدل الحصول على إذن من القاضي المختص يسمح لمكتب التحقيقات الفدرالي "إف بي آي"، المضي بالعملية. وهذا لم يحصل. والدليل أن مدير "إف بي آي" سارع إلى نفي التهمة. إلاّ إذا كان هذا الأخير قد كسر القانون وقام بالتنصت خلافاً للأصول. وفي هذه الحالة، يمكن للرئيس ترامب أن يكشف عن المخالفة من خلال معلوماته الاستخبارية – وفريقه في البيت الأبيض يزعم أن في حوزته معلومات لا يعرف بها أحد –. ولا حاجة له بالتالي لإحالة القضية إلى الكونغرس للتحقيق فيها. إلا إذا كان المراد إشغال الكونغرس بقضية جديدة لحجب ملف التدخل الروسي في الانتخابات وما رافقه من اتصالات بين لفيف الرئيس والسفير الروسي في واشنطن قبل الاستحقاق الرئاسي واستطراداً وضع المطالبات بالتحقيق فيه على الرف ولغاية أن يبتلعها النسيان.
خبطات ترامب ما فتئت تتوالى منذ دخل حلبة الانتخابات. وإذا كان حصولها أثناء الحملة مفهوما ومحمولا كخطاب انتخابي، إلا أن الاستمرار في هذا النهج بعد توليه سدة الرئاسة، بات عبئاً ليس فقط على رئاسته، بل على مؤسسة الرئاسة بذاتها. وهذا ما طبع معظم الردود على قنبلته بخصوص أوباما.
جريدة وول ستريت جورنال المحافظة والمفترض أنها محسوبة على خط ترامب، أعربت عن المخاوف مما قد تلحقه هذه الممارسة "بالمؤسسات الرسمية والثقة بالحكومة" في الداخل والخارج. فهناك حالة من القلق المتزايد من سياسة تفريخ الأزمات وإدارة الأمور، في وقت "تتعاظم فيه الأزمات الخارجية من كوريا الشمالية إلى العراق" وغيرهما، كما حذر الجنرال المتقاعد مايكل هايدن. كلامه يعكس الشعور المتنامي بالورطة في واشنطن. "رئاسة التويتر" لخبطت المشهد السياسي الأميركي وإلى حين. وقرار المنع بنسختيه الأولى والثانية، ليس سوى أحد تعبيرات هذا الوضع.