31 أكتوبر 2024
قوة الضعف في مواجهة ضعف القوة
أحد تعريفات الإرهاب التي يفضّلها كثيرون أنه وسيلة المقاومة الوحيدة المتاحة أمام الضعيف، لهذا يشيطن القوي أي فعلٍ عنيف يلجأ إليه الضعيف، حتى ولو كان صاحب حق، لهذا تسمي سلطات الاحتلال الإسرائيلي عملية قذف الحجارة باتجاه جنودها ومستوطنيها إرهابا، حتى ولو كان هذا الفعل صادرا عن طفل فلسطيني في عمر السادسة.
وعلى الرغم من تغليظ عقوبتهم، إلا أن "راجمي" الحجارة، صغاراً أو كباراً، لا يكفون عن ممارسة هذا الفعل، لأنه السبيل الوحيد المتاح لدى من يمارسه للتعبير عن رفض الاحتلال ومقاومته.
ومثلما اهتدى الضعيف هنا إلى طريقة ما لمقاومةٍ خشنةٍ إلى حد ما، اهتدى الفلسطينيون، خصوصا من يقيم منهم في الشتات، إلى طريقة مقاومةٍ ناعمة، هي تعبير آخر عن "قوة الضعف"، وهي المقاطعة، وهي حركةٌ بدأت النمو بشكل كبير، على الرغم من أن "ثقافتها"، في فلسطين وخارجها، لم تأخذ حجمها المطلوب من الالتزام والانتشار.
يروي الكاتب العبري ب. ميخائيل، في مقالة له في "هآرتس" (19 مارس/آذار2017) هذه الواقعة: كنت في فبراير/ شباط 2011 في زيارة في جنوب أفريقيا. وقد وصلت إلى هناك مع مراسلين من أرجاء العالم، حيث تم استدعاؤنا لرؤية مشروع عن الصحة والتعليم والزراعة، وكان مشروعا لافتا. وُجد في الحافلة التي نقلتنا من مكان إلى آخر مرشدٌ من جنوب أفريقيا، أبيض في الأربعين من عمره. وقد شهد بأم عينيه الفصل العنصري وانتهاءه أيضا، أي أنه كان هناك ما يمكننا التحدث عنه. كان المرشد حازما وباردا ومتهكما. وفي الساعات الكثيرة التي قضيناها في الحافلة تحدثنا عن أمور كثيرة، مثل الأساطير الدينية الكاذبة التي أوجدها الأفارقة لتبرير التفوق العرقي على الأولاد السود. نعم، نعم، هكذا بالضبط. وتحدّثنا أيضا عن جهاز التعليم في أفريقيا الذي كانت له "إدارة هوية أفريقية"، جندت الله وأقواله من أجل احتياجاتها العنصرية. في تلك اللحظة، وجهت سؤالاً أثار فضولي جدا. سألته: قل لي، ما الذي كسركم؟ ما الذي جعلكم تتراجعون وتنهون الأبارتهايد، وتؤيدون أحزاب فريدريك دي كلارك ونلسون مانديلا، وتُحدثون التحوّل الذي يصعب تصديقه، من نظام قمعي أبيض إلى ديمقراطية كاملة؟ وأجاب بلا تردّد "المقاطعة هي التي حرّرتنا. ...هل السبب هو النقص في الوقود والسلاح وعدم وجود الاستثمارات؟ طلبت منه التوضيح.
لا، أجابني، لم تكن هذه هي المشكلة. فدائما كان هناك أشخاصٌ جيدون قاموا ببيعنا الوقود
والسلاح وكل ما نريد.. قال ذلك، وهو يعرف من أين جئت "المقاطعة الثانية هي التي حسمت الأمر"، قال. وسألته ماذا كانت المقاطعة الثانية؟ فأجاب: المقاطعة الثقافية، الرياضية، السياحية، الفنية، الأكاديمية. الدول التي طلبت فجأة عدم منح تأشيرات الدخول، الجامعات التي أغلقت بواباتها بشكل فجائي، الفنانون الذين لم يصلوا، المسابقات التي أغلقت في وجه رياضيينا، الألعاب الأولمبية التي تم إخراجنا منها. كل ذلك هو الذي عمل على ليّ ذراعنا... أو فتح أعيننا... وهذا كان متعلقا بمن نتحدّث معه. ببساطة، مللنا من أن نكون منبوذين. مللنا من أن نكون كلمةً نابية دوليا، وملّ الناس من أن نكون شياطين العالم. كنا نريد أن نصبح طبيعيين. ودي كلارك ومانديلا اقترحا علينا الطريق، وبدورنا وافقنا".
انتهى حديث الكاتب، وهو حديثٌ أكثر من مهم، خصوصا في زمنٍ تراجعت فيه قضية فلسطين، إنْ لم تكن قد اختفت فعلا، على الصعيد الرسمي العربي والعقل الجمعي الدولي أيضا، فثمّة مباهاة وحديث علني عن "تطبيع" عربي رسمي، وتعاون وثيق وأحلاف عربية عبرية، وتبادل معلومات، تبلغ أحيانا حد تجنيد أجهزة كاملة للعمل في خدمة المشروع الصهيوني، سواء في بلاد العرب أو العجم، ما يعني أن "المقاطعة الأولى" في طريقها إلى أن تكون جزءا من الماضي، في حين أن المقاطعة الثانية هي ما حقق انتصار السود، وتهاوي نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي.
لا يكفي أن نمتدح ريما خلف، وتقارير "إسكوا"، ونحتفل بانتصاراتٍ قد تكون على الورق أكثر منها على الأرض. ثمّة ما يمكن فعله نحن الشعب، بعد أن أصبحت المقاومة إرهابا، يحاكم عليها مرتكبها، ولم يبق أمامنا إلا أن نفعل مقاومتنا الناعمة، أو الإنسانية، وهي مقاومةٌ لا يجرؤ أحد على معاقبتنا عليها، فمن حقنا أن نقاطع كيان العدو، وكل من لا يقاطعه، بكل السبل السلمية المشروعة، والقانونية جدا.
جاء في الأثر النبوي الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا. لا تقاطعوا أي لا يقاطع بعضكم بعضا، والتقاطع ضد التواصل، وفي روايةٍ لا تقاطعوا ولا تدابروا، وقيل إن المقاطعة ترك الحقوق الواجبة بين الناس، عامة أو خاصة. ولكن، إذا وقع خلافٌ بين طرفين، جاز لأحد الأطراف مقاطعة الطرف الآخر، كأحد أساليب الدفاع عن النفس بالوسائل التي يراها متاحةً له بحسب قوته، ومن أقدم ما عرف من أساليب المقاطعة، مقاطعة قريش بني هاشم في جميع التعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ومن أشهر حوادث المقاطعة في التاريخ الحديث ما فعله السيـاسي الهندي، المهاتما غاندي،
وكانت ضد الاستعمار البريطاني، حين حضّ المواطنين الهنود على صنع ملابسهم بأنفسهم بالاستعانة بالمغزل اليدوي، وكان يقول "كلوا مما تنتجون، والبسوا مما تصنعون، وقاطعوا بضائع العدو". ومنها مقاطعة اليابان المنتجات الأميركية، ورفض سيطرة الولايات المتحدة، البلد المنتصر، على مقدّرات اليابان الاقتصادية. وتم تحجيم الاستيراد من الخارج، وتشجيع الاستثمار والإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي الياباني، ووصلت حدود هذه المقاطعة إلى مستوىً جعل المنتج الياباني يفرض نفسـه عالميا، حتى في الأسواق الأميركية نفسها. منها أيضا ما وقع في عام 1945 وهو تاريخ بدء المقاطعة العربية إسرائيل رسميا، عندما اتخذت جامعة الدول العربية قراراتٍ وتوصياتٍ بضرورة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، واعتبرته عملا دفاعيا مشروعا، وإحدى الوسائل التي يستخدمها العرب ضد الاعتداءات الواقعة عليهم من إسرائيل، ووقايةً للأمن القومي العربي.
ومن أشهر حوادث المقاطعة قيام ملك السعودية فيصل رحمه الله بالمقاطعة الاقتصادية، في أعقاب حربي 1967 و1973، فبعد يومين من نشوب الأولى، أعلن حظر البترول السعودي عن بريطانيا والولايات المتحدة. وعلى إثر نشوب الحرب الثانية، تزعم حركة الحظر البترولي الذي شمل دول الخليج، فكان لهذا الحظر أثره في توجيه المعركة.
على الصعيد الشعبي، يلجأ الناس عادة إلى مقاطعة سلع وخدمات للتأثير في أسعارها، وقد عرّفتها الأمم المتحدة في ميثاقها المادة 41، ونصها: "وقف العلاقات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية، وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً. ويعرّف الاقتصاديون المقاطعة بأنها أسلوب ومجموعة من الممارسات التي تتخذها الجماعة أو البلد، في عدم التعامل اقتصادياً مع طرفٍ ما، يقصد بذلك الضرر به، لحمله على تغيير موقفٍ أو سياسة تجاه الجماعة أو البلد، فهي، بالتالي، فعل مألوف في التاريخ البشري، ومشروعٌ دوليا، وتاريخيا، وإنسانيا. ومن الصعب تجريمه وفق القانون، حتى لو تمّت شيطنته إسرائيليا وأميركيا.
قوة الضعف طريقة ناجعة للتغلب على ضعف القوة، في مواجهة جبروتٍ له نقطة ضعفه هو الآخر.
وعلى الرغم من تغليظ عقوبتهم، إلا أن "راجمي" الحجارة، صغاراً أو كباراً، لا يكفون عن ممارسة هذا الفعل، لأنه السبيل الوحيد المتاح لدى من يمارسه للتعبير عن رفض الاحتلال ومقاومته.
ومثلما اهتدى الضعيف هنا إلى طريقة ما لمقاومةٍ خشنةٍ إلى حد ما، اهتدى الفلسطينيون، خصوصا من يقيم منهم في الشتات، إلى طريقة مقاومةٍ ناعمة، هي تعبير آخر عن "قوة الضعف"، وهي المقاطعة، وهي حركةٌ بدأت النمو بشكل كبير، على الرغم من أن "ثقافتها"، في فلسطين وخارجها، لم تأخذ حجمها المطلوب من الالتزام والانتشار.
يروي الكاتب العبري ب. ميخائيل، في مقالة له في "هآرتس" (19 مارس/آذار2017) هذه الواقعة: كنت في فبراير/ شباط 2011 في زيارة في جنوب أفريقيا. وقد وصلت إلى هناك مع مراسلين من أرجاء العالم، حيث تم استدعاؤنا لرؤية مشروع عن الصحة والتعليم والزراعة، وكان مشروعا لافتا. وُجد في الحافلة التي نقلتنا من مكان إلى آخر مرشدٌ من جنوب أفريقيا، أبيض في الأربعين من عمره. وقد شهد بأم عينيه الفصل العنصري وانتهاءه أيضا، أي أنه كان هناك ما يمكننا التحدث عنه. كان المرشد حازما وباردا ومتهكما. وفي الساعات الكثيرة التي قضيناها في الحافلة تحدثنا عن أمور كثيرة، مثل الأساطير الدينية الكاذبة التي أوجدها الأفارقة لتبرير التفوق العرقي على الأولاد السود. نعم، نعم، هكذا بالضبط. وتحدّثنا أيضا عن جهاز التعليم في أفريقيا الذي كانت له "إدارة هوية أفريقية"، جندت الله وأقواله من أجل احتياجاتها العنصرية. في تلك اللحظة، وجهت سؤالاً أثار فضولي جدا. سألته: قل لي، ما الذي كسركم؟ ما الذي جعلكم تتراجعون وتنهون الأبارتهايد، وتؤيدون أحزاب فريدريك دي كلارك ونلسون مانديلا، وتُحدثون التحوّل الذي يصعب تصديقه، من نظام قمعي أبيض إلى ديمقراطية كاملة؟ وأجاب بلا تردّد "المقاطعة هي التي حرّرتنا. ...هل السبب هو النقص في الوقود والسلاح وعدم وجود الاستثمارات؟ طلبت منه التوضيح.
لا، أجابني، لم تكن هذه هي المشكلة. فدائما كان هناك أشخاصٌ جيدون قاموا ببيعنا الوقود
انتهى حديث الكاتب، وهو حديثٌ أكثر من مهم، خصوصا في زمنٍ تراجعت فيه قضية فلسطين، إنْ لم تكن قد اختفت فعلا، على الصعيد الرسمي العربي والعقل الجمعي الدولي أيضا، فثمّة مباهاة وحديث علني عن "تطبيع" عربي رسمي، وتعاون وثيق وأحلاف عربية عبرية، وتبادل معلومات، تبلغ أحيانا حد تجنيد أجهزة كاملة للعمل في خدمة المشروع الصهيوني، سواء في بلاد العرب أو العجم، ما يعني أن "المقاطعة الأولى" في طريقها إلى أن تكون جزءا من الماضي، في حين أن المقاطعة الثانية هي ما حقق انتصار السود، وتهاوي نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي.
لا يكفي أن نمتدح ريما خلف، وتقارير "إسكوا"، ونحتفل بانتصاراتٍ قد تكون على الورق أكثر منها على الأرض. ثمّة ما يمكن فعله نحن الشعب، بعد أن أصبحت المقاومة إرهابا، يحاكم عليها مرتكبها، ولم يبق أمامنا إلا أن نفعل مقاومتنا الناعمة، أو الإنسانية، وهي مقاومةٌ لا يجرؤ أحد على معاقبتنا عليها، فمن حقنا أن نقاطع كيان العدو، وكل من لا يقاطعه، بكل السبل السلمية المشروعة، والقانونية جدا.
جاء في الأثر النبوي الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا. لا تقاطعوا أي لا يقاطع بعضكم بعضا، والتقاطع ضد التواصل، وفي روايةٍ لا تقاطعوا ولا تدابروا، وقيل إن المقاطعة ترك الحقوق الواجبة بين الناس، عامة أو خاصة. ولكن، إذا وقع خلافٌ بين طرفين، جاز لأحد الأطراف مقاطعة الطرف الآخر، كأحد أساليب الدفاع عن النفس بالوسائل التي يراها متاحةً له بحسب قوته، ومن أقدم ما عرف من أساليب المقاطعة، مقاطعة قريش بني هاشم في جميع التعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ومن أشهر حوادث المقاطعة في التاريخ الحديث ما فعله السيـاسي الهندي، المهاتما غاندي،
ومن أشهر حوادث المقاطعة قيام ملك السعودية فيصل رحمه الله بالمقاطعة الاقتصادية، في أعقاب حربي 1967 و1973، فبعد يومين من نشوب الأولى، أعلن حظر البترول السعودي عن بريطانيا والولايات المتحدة. وعلى إثر نشوب الحرب الثانية، تزعم حركة الحظر البترولي الذي شمل دول الخليج، فكان لهذا الحظر أثره في توجيه المعركة.
على الصعيد الشعبي، يلجأ الناس عادة إلى مقاطعة سلع وخدمات للتأثير في أسعارها، وقد عرّفتها الأمم المتحدة في ميثاقها المادة 41، ونصها: "وقف العلاقات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية، وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً. ويعرّف الاقتصاديون المقاطعة بأنها أسلوب ومجموعة من الممارسات التي تتخذها الجماعة أو البلد، في عدم التعامل اقتصادياً مع طرفٍ ما، يقصد بذلك الضرر به، لحمله على تغيير موقفٍ أو سياسة تجاه الجماعة أو البلد، فهي، بالتالي، فعل مألوف في التاريخ البشري، ومشروعٌ دوليا، وتاريخيا، وإنسانيا. ومن الصعب تجريمه وفق القانون، حتى لو تمّت شيطنته إسرائيليا وأميركيا.
قوة الضعف طريقة ناجعة للتغلب على ضعف القوة، في مواجهة جبروتٍ له نقطة ضعفه هو الآخر.