ظنّ كثر أنه آن أوان الحركات الانفصالية لكي تستفيق، وأن على أوروبا "الواحدة" أن تعود إلى واقع دويلات وإمارات القرون القديمة. واقع أفرزه صعود القوى اليمينية في مختلف أرجاء القارة القديمة، على ظهر الانتخابات الأوروبية في مايو/أيار الماضي. تحمّس "صغار" القارة العجوز، وسط موجة قومية تجلّت على هامش نهائيات كأس العالم لكرة القدم في يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين. سعى "الصغار" إلى الاصطفاف في خندق مشترك، بما يُشبه ثورة "سبارتاكوسية" على الكبار. وجدوا في استفتاء اسكتلندا في 18 سبتمبر/أيلول بداية شيء جديد، مهما كانت نتيجته.
في الوقت الذي كان فيه سكان غلاسكو وأدنبره ودندي وغيرهم في القرى والمدن الاسكتلندية، يصطفّون بهدوء أمام صناديق الاقتراع لاختيار الاستقلال عن المملكة المتحدة أو البقاء ضمن الاتحاد البريطاني، كان "قوميون" كثر يراقبونهم في أنحاء عدة من أوروبا، كما أن مقاطعة الكيبيك الكندية، الواقعة خلف المحيط الأطلسي، ترقّبت بحذر مآل الخطوة الاسكتلندية، بعد اهدار فرصتها "التاريخية" في وقت سابق. رفض غالبية الاسكتلنديين الاستقلال، وتمسّكوا ببريطانيا العظمى. لكن "القوميين" الأوروبيين، وجدوها فرصة سانحة: "إن لم نحصل على الاستقلال فسننال حكماً ذاتياً موسعاً على الاقل، مع المزيد من الاستفادة من ضرائبنا المحلّية".
أول الثائرين لم يكن سوى مقاطعة كاتالونيا الاسبانية. هناك في برشلونة، عاصمة المقاطعة، يهتمون كثيراً بتلك المسألة، مسألة الاستقلال. يرونها تعبيراً حقيقياً عما يريدونه. كما استفادت المقاطعة كثيراً من الأزمة المالية في 2008 من جهة، وصعود نجم فريقها المحلي لكرة القدم، برشلونة، محلياً وإقليمياً، من جهة أخرى، من أجل الاضاءة على فكرة الاستقلال فيها. لكن كاتالونيا ليست وحدها في أوروبا من ترغب في الاستقلال، فهناك قوميات وأشباه دويلات عدة، في مختلف أنحاء قارة الـ10.180 ملايين كيلومتر مربع، بعضها يتخطى الحدود المعروفة اليوم، وبعضها الآخر يُشكّل جزءاً من برّ دولة ما، وقلّة مستقلّون جغرافياً، كجزر متناثرة في البحار ومرتبطة سياسياً وقومياً ببلد ما.
صحيح أن الرايات القومية الانفصالية "المشهورة"، تنحصر في إقليمي كاتالونيا والباسك الاسبانيين، والمقاطعات البريطانية، اسكتلندا، وويلز، وإيرلندا الشمالية، لكن الواقع يؤكد وجود 37 كياناً موزعّين بين تخوم روسيا لجهة الشرق إلى جزر الكناري الاسبانية قبالة الشواطئ المغربية لجهة الأطلسي، وصعوداً نحو بعض القوميات المتداخلة في الدنمارك.
وتبدو حالة مدريد مستعصية في هذا الصدد، فعدا قوميات كاتالونيا والباسك والكناري، هناك غاليزيا وأراغون والأندلس. لذلك تظهر شراسة مدريد على أشدّها في التعامل مع الواقع الكاتالوني ورفض الاستفتاء المزمع إجراؤه من طرف واحد في 9 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، كي لا تُصاب باقي الأقاليم بالعدوى. علماً أن الأندلس قد لا تُطالب بالاستقلال اطلاقاً، لوقوعها على البحر المتوسط، على الضفة المقابلة لافريقيا، ولا تستطيع تحمّل زحف المهاجرين الأفارقة إليها، مع ما يعنيه ذلك من ضغط اقتصادي هائل عليها، فتُفضّل البقاء تحت سلطة مدريد وحمايتها.
من اسبانيا، تبدأ الرحلة إلى فرنسا. في بلاد نابوليون والثورة الخالدة، تبدو مقاطعات أوسيتانيا وسافوا وكورسيكا وأوست والألزاس وبروتاني، كقوميات أشبه بمشاريع دويلات لاحقاً، ولا تجمعهم حالياً أكثر من ثنائية فرنسية تنحصر بين يمين متطرف ويسار أقرب إلى اليمين. في ايطاليا، التي عُرفت بتعدّد إماراتها العائلية في قرون ما قبل عهد موحّد البلاد، جيوزيبي غاريبالدي، تخوُّف من انشقاق ما لسردينيا وفينيتو وتيرول الجنوبية وفريول، بينما تخشى النمسا، التي دمجها ابنها أدولف هتلر بوحدة "الأنشلوس" مع ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وجوارها، من استقلال منطقة كارنتن. وبالنسبة إلى اليونان الاغريقية، تبدو مشكلتها عادية بعض الشيء، ويُمكن معالجتها بالتضامن والتكافل مع بلغاريا، في مسألة الأقلية المقدونية فيهما.
أما بالنسبة إلى المجريين، الذين يحملون تراثاً قومياً هائلاً في شرق أوروبا، كرّسه لهم ملهمهم أتيلا الهوني في القرون الغابرة، فإن تواجدهم كمجموعة اثنية في سلوفاكيا قد يفتح الأبواب على مصراعيها يوماً ما على استقلال ما. وليس بعيداً عن مجريي سلوفاكيا، تنتظر مورافيا التاريخية، فرصة ظرفية لاستقلال يعيدها إلى واجهة الضوء، أما سيليسيا ولاوسيتز فمقتنعتان بوجودهما على الحدود بين ألمانيا وبولندا. في ألمانيا، لا تبدو الحالة صعبة، فمقاطعة بافاريا غير مستعدة للانفصال عن بروسيا أو ألمانيا الأم، لضرورات اقتصادية جمّة. وعلى طول الخط من هولندا وبلجيكا إلى الدنمارك وبحر الشمال، تجد مجموعات الفلاندر وفريسلاند وأوست فريسلاند ونوردفراشلونو وشليسفيغ وصولاً إلى جزر آلاند، نفسها معنية بنسب متفاوتة في أي استقلال أو انفصال، تماماً كحال ويلز واسكتلندا ووكورنوول في المملكة المتحدة.
هذا بالنسبة إلى أوروبا، أما بالنسبة إلى روسيا، فإن وجود بعض المتحدرين من جذور روسية في لاتفيا وأوكرانيا، يسمح لها في رسم خريطة مبنية على واقع سياسي واقتصادي أكثر مما يمنح الأولوية لواقع قومي.
ما الذي قد يؤدي إلى استقلال أو بقاء أي مقاطعة او اقليم أو جزيرة من البلد الأم؟ الاقتصاد. في اسكتلندا، شمال المملكة المتحدة، بحر من نفط. في كاتالونيا الاسبانية حركة مصارف وشركات تجارية ضخمة وسياحة استثنائية. في الباسك، أيضاً سياحة لا تُقدّر بثمن بين بلباو وبامبلونا. في الأندلس، آثار عربية عدة. في الألزاس الفرنسية، يتمتع قاطنها بثاني أعلى دخل فردي في المقاطعات الفرنسية. في الفلاندر البلجيكية بحر ومرفأ، قريب من حوض أمستردام الهولندي، وقادر على رفد الداخل بمداخيل عالية.
ربما لم تسعَ أوروبا إلى الوحدة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا لاقتناعها بأن قوتها بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، تكمن في وحدتها الاقتصادية، وإزالة العوائق المقيّدة لحركة الاستثمار والتنقّل فيها. احتاجت أوروبا إلى عقود كثيرة لتخطي عقبة الاختلافات بين جميع مكوّناتها، واستفادت من ظروف جيوبوليتيكية لتطوير تقدمها التشريعي والسياسي والمالي، غير أن الأزمة المالية 2008، وتدفّق المهاجرين من مختلف أنحاء العالم، فضلاً عن تعميم أزمة أوكرانيا على كل دول الاتحاد، كما أزمة اليونان المالية، أدّت إلى ظهور بعض المطالبات، المغلّفة بلباس قومي، انطلاقاً من عبارة "لماذا ندفع الضرائب بالنيابة عمن لا يستطيع دفعها؟"، لإيقاظ قوميات وإمارات نائمة منذ ما قبل عهود الرايخ والحروب الباردة.