كأنها تهذي!!..لا أعرف ما الذي جعلها تتذكّر أبي وتلعن أمي هكذا. لا، لم أكن أشبهها تمامًا – كما يقول زوج عمتي وهو يداعب خصلات شعري الطويل- تلك المرأة البدينة جدًا والمقوّسة الظهر، تخطّت الستين وما زال وجهها يحمل علامات لسحر جمال قديم.
يقولون إنه لا أحد بإمكانه أن يقف أمامها ؛ إذ تبدو كزعيمة تقودهم بعيونها الحادة اللامعة، تتكلم بصوت عال وكأنها تخطب:
"أنا مش هاستني العيد ..أنا لازم أروح أزور أخويا الخميس الجاي..ده جاني مرتين في الحلم جعان وعطشان".
حاولت أن أقاطعها، لكنها لم تلتفت إليّ فقد كانت مشغولة بتحريك يدها في كل اتجاه، وكأن يدها ضرورية لشرح ما تريده.
لم أجرؤ على مصارحتها برفضي لتلك الرغبة المفاجئة، فقد كنت على العكس منها، أكره رائحة القبور العفنة، فربما كانت هي السبب في تلك الرعشة المزمنة التي تسكن مفاصلي، وتلك التجاعيد التي تزحف إلى روحي، كما أنني منذ الصباح وأنا أشعر بخفوت في دقات القلب، ونزف بطيء في العروق لا يتوقف.
فشل زوج عمتي هو الآخر في أن يوقف عمتي التي ظلّت تتحدّث ببهجة خفية عن الاستعدادات التي لا بدّ منها، وعن الشيخ يوسف الذي سيجيء معنا لقراءة القرآن.
"زيارة القبور كلها مواعظ".
تخيلتُها للحظة وهي توزِّع "الرحمة" التي ستشتريها من أجل هؤلاء الصبية المتسكعين باستمرار أمام مقابر العائلة الفخمة التي يرقد فيها أبي -الآن- بجوار موتى برجوازيين أحسدهم كثيرًا.
قلتُ لنفسي من المؤكّد إنهم لم يرتكبوا سوى خطايا عظيمة تليق بهم وبفخامة المكان.
قرّرت الهرب أخيرًا من هذه العمّة المتسلطة وزوجها المريض إلى مشهد آخر، يمكنني القيام فيه بدورأكثر فاعلية.
بداية سأتلصّص من ثقب الباب الضيق، الذي صار أمامي بالضبط، على ذلك المُغسّل الذي أتي به أخوتي، من دون أن أحاول بالطبع أن أفتح الباب أو أن أخرج صوتًا واحدًا يدلّ على وجودي، وأنا أتابع تلك الطقوس الفقيرة التي تسبق دفنه، وهو أمامهم جثّة باردة لا تحمل صخبًا من أي نوع.
أردت أن أعترض على هذه الطقوس الفقيرة والتابوت الخشبي الذي ينتظره والملاءة التي لفّوا بها عريه.
الملاعين أخوتي أحكموا غلق الأبواب جيدًا وتركوني بمفردي. منعوني أكثر من مرّة من الدخول عليه واحتضان جسده النحيل.
كنت أنتوي أن أكلمه - لآخر مرة - عن أشيائي البسيطة، عن حكايتي مثلًا مع الولد الوحيد الذي يبتهج جسدي بمجرد أن أراه. وكيف أنني أضع صورته بين كتبي من دون أن تهتم أمي بأن تسألني عنها أبدًا. تلك الأم التي تكره كلّ شيء في البيت بحجّة أن أبي ترك رائحته عليه، حتّى لو كان التراب العتيق الذي تكنسه باشمئزاز. الاشمئزازنفسه الذي تعطيني به ظهرها حين تلمح في عيني رغبة في حضنها البارد، ودائمًا ما تهرب مني قبل منتصف الحلم بقليل.
وأنا ما زلت في مكاني أقاوم رغبتي الملحة في قطع يدي المغُسل الأعمى، أو أن أفقأ عينيه المتوحشتين، وأكسر التابوت الخشبي الرخيص، وأمزّق تلك الملاءة التي يخيفني بياضها.
كلّهم يؤكدون أنّهم أغلقوا عليه باب القبر جيدًا. ومع ذلك، يتحرّك في غرفتي بخفّة الأشباح. وحينما أعود أجده راقدًا في فرشتي بدلًا منيّ.
كلّ هذا والعمة "المخرفة" ما زالت بجواري تثرثر عن ضرورة زيارته يوم الخميس.
يقولون إنه لا أحد بإمكانه أن يقف أمامها ؛ إذ تبدو كزعيمة تقودهم بعيونها الحادة اللامعة، تتكلم بصوت عال وكأنها تخطب:
"أنا مش هاستني العيد ..أنا لازم أروح أزور أخويا الخميس الجاي..ده جاني مرتين في الحلم جعان وعطشان".
حاولت أن أقاطعها، لكنها لم تلتفت إليّ فقد كانت مشغولة بتحريك يدها في كل اتجاه، وكأن يدها ضرورية لشرح ما تريده.
لم أجرؤ على مصارحتها برفضي لتلك الرغبة المفاجئة، فقد كنت على العكس منها، أكره رائحة القبور العفنة، فربما كانت هي السبب في تلك الرعشة المزمنة التي تسكن مفاصلي، وتلك التجاعيد التي تزحف إلى روحي، كما أنني منذ الصباح وأنا أشعر بخفوت في دقات القلب، ونزف بطيء في العروق لا يتوقف.
فشل زوج عمتي هو الآخر في أن يوقف عمتي التي ظلّت تتحدّث ببهجة خفية عن الاستعدادات التي لا بدّ منها، وعن الشيخ يوسف الذي سيجيء معنا لقراءة القرآن.
"زيارة القبور كلها مواعظ".
تخيلتُها للحظة وهي توزِّع "الرحمة" التي ستشتريها من أجل هؤلاء الصبية المتسكعين باستمرار أمام مقابر العائلة الفخمة التي يرقد فيها أبي -الآن- بجوار موتى برجوازيين أحسدهم كثيرًا.
قلتُ لنفسي من المؤكّد إنهم لم يرتكبوا سوى خطايا عظيمة تليق بهم وبفخامة المكان.
قرّرت الهرب أخيرًا من هذه العمّة المتسلطة وزوجها المريض إلى مشهد آخر، يمكنني القيام فيه بدورأكثر فاعلية.
بداية سأتلصّص من ثقب الباب الضيق، الذي صار أمامي بالضبط، على ذلك المُغسّل الذي أتي به أخوتي، من دون أن أحاول بالطبع أن أفتح الباب أو أن أخرج صوتًا واحدًا يدلّ على وجودي، وأنا أتابع تلك الطقوس الفقيرة التي تسبق دفنه، وهو أمامهم جثّة باردة لا تحمل صخبًا من أي نوع.
أردت أن أعترض على هذه الطقوس الفقيرة والتابوت الخشبي الذي ينتظره والملاءة التي لفّوا بها عريه.
الملاعين أخوتي أحكموا غلق الأبواب جيدًا وتركوني بمفردي. منعوني أكثر من مرّة من الدخول عليه واحتضان جسده النحيل.
كنت أنتوي أن أكلمه - لآخر مرة - عن أشيائي البسيطة، عن حكايتي مثلًا مع الولد الوحيد الذي يبتهج جسدي بمجرد أن أراه. وكيف أنني أضع صورته بين كتبي من دون أن تهتم أمي بأن تسألني عنها أبدًا. تلك الأم التي تكره كلّ شيء في البيت بحجّة أن أبي ترك رائحته عليه، حتّى لو كان التراب العتيق الذي تكنسه باشمئزاز. الاشمئزازنفسه الذي تعطيني به ظهرها حين تلمح في عيني رغبة في حضنها البارد، ودائمًا ما تهرب مني قبل منتصف الحلم بقليل.
وأنا ما زلت في مكاني أقاوم رغبتي الملحة في قطع يدي المغُسل الأعمى، أو أن أفقأ عينيه المتوحشتين، وأكسر التابوت الخشبي الرخيص، وأمزّق تلك الملاءة التي يخيفني بياضها.
كلّهم يؤكدون أنّهم أغلقوا عليه باب القبر جيدًا. ومع ذلك، يتحرّك في غرفتي بخفّة الأشباح. وحينما أعود أجده راقدًا في فرشتي بدلًا منيّ.
كلّ هذا والعمة "المخرفة" ما زالت بجواري تثرثر عن ضرورة زيارته يوم الخميس.