ليلة 17 على 18 نوفمبر، أستيقظ في مخيم بروخِم بمنطقة رانتس، لاهثاً من نفاد الأكسجين.
إنه كابوس: السجناء الأربعمئة وستون (الذين هم نحن النزلاء)، يحتشدون دون ماء ودون طعام في الساحة المعشوشبة، حيث يتم تكديس مظاريف رفض اللجوء في كومة كبيرة، ويجري توزيعها علينا بالدور. فيما رقائق الثلج تهمي على أجسادنا وتغطي رؤوسنا، وفيما الأطفال يصرخون ويبكون، لأنهم استشعروا خطورة الموقف، ورأوا دموع الأمهات اللواتي يخفن من الرمي في الشارع، حيث لا جمعية خيرية تؤويك ولا من يحزنون، لا في أنتويربن القريبة ولا في بروكسل.
وكان المكتئب فَنْسْ، مع خمس عربات من الشرطة وبعض المُساعِدات (هَنَّا، إفلين، كارلا ومديرة المخيم)، يستعجلون من يستلم ملف الرفض (ذا الثلاث ورقات)، بالخروج تحت التهديد. ثم في خضم المشهد الصادم، تهبط علينا فجأة من السماء القريبة جثث مشوهة لموتى غامضين قليلي الحجم (لكن من الأفضل ألا تتخيّل سبب افتقارهم إلى أحشاء)، ومن بينها جثة الطفل اللبناني دانيال الذي قُتلَ وزرعوا له شجرة باسمه جوار جنينة الأطفال أمام "بلوك دي".
وفي خضم تلك المعاناة التي لا اسم لها، أعطت الطبيعة صوتًا للرعد القاصف، وأعطت صوراً أُخرى دون أن تطلب أي شيء مقابل ذلك، سواء منا نحن لاجئي الله أو منه نفسه (نظرة طويلة على هدوء الآلهة).
أستيقظ، وهذا كل ما تذكرته، وأخرج لأتنزه كمجنون في زمهرير الليل الفلامنكي المعتم والقاسي، كقسوة أهل هذا الجانب الثريّ من البلاد.
أخرج لا ألوي على شيء سوى الفرار من وطأة الكابوس. أخترق السياج من الفتحة السرّية، ويكون حلَّ الفجر، وأعبر عن رقعة تدريب الخيل على القفز وحديقة تعليم الكلاب، ثم أعبر سبعة أحصنة تنام وهي واقفة أو يقضم بعضها العشب، دون أن يهتم للجو المتجمّد.
أمرّ عن فيلا البنت الشابة بمعمارها الناعم، وأتذكر يوم مررت ذات نهار وكان (الروبوت) يجز العشب في الحديقة الأمامية، فلما فاجأني المنظر، واقتربت من الروبوت، غذ هذا الحديد الإلكتروني خطاه وابتعد عن الفضول!
ثم أسير أكثر في حقول الفجر السوداء، فأرى مزرعة الزوجين المليئة بحيوانات الكنغر واللاما والإوز كبير الحجم مميّز الصوت.
إننا في منطقة يسكنها تجّار الخيول. ويقال إن عبادة الإله الدموي "يهوه"، لا تندر بينهم.
ربما.
فثمة مشهد يومي لا يني يتكرر، يحدث أمام بوابة الخروج من المخيم (بغض النظر عن حالة الطقس)، إذ تقف مجموعة من شخصين إلى أربعة، أغلبها من الصبايا المفعمات حيوية، وأمامهن عربة صغيرة تحتوي على مطبوعات وكتيبات للتبشير.
يدعون اللاجئين لأمكنة تخصهم ولا أعرف ماذا يفعلون معهم بعد ذلك، رغم أني وقفت مع زملاء أمامهم وتجاذبنا الحديث ثم سخرنا منهم وأعلن بعضنا أنه لا يؤمن بالمرّة.
حقيقة يا ولد، أقول لنفسي، إننا جئنا منطقة أشكناز بلجيكا.
ربّك يُستُر!
* شاعر فلسطيني مقيم مؤقتاً في بلجيكا