كاريكاتير السلطة.. فقط في مصر
منذ ظهوره في القرن السابع عشر، تمتع فن الكاريكاتير بخاصيتين أساسيتين، ميزتاه عن باقي الفنون الأخرى، احتواؤه على جرعات عالية من السخرية، والحس النقدي الشديد، سواء كان هذا النقد اجتماعياً، أو سياسياً موجهاً ضد السلطات وأنظمة الحكم. فالكاريكاتير فن معارض بالدرجة الأولى، ينحاز للمظلومين، وينصر الفقراء والمهمشين والضعفاء. لم يخرج فن الكاريكاتير في مصر عن هذا الإطار، حتى في ظل وجود أعتى الأنظمة الديكتاتورية، لكنه اقتصر في تلك العهود على السخرية من الحكومات وشخص رئيس الوزراء، من دون مهاجمة الملك، أو رئيس الجمهورية، باعتبارهما خطاً أحمر، سواء كان ذلك في العهد الملكي أو بعد يوليو 1952. بالإضافة إلى تناول الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالنقد، مثل رسومات الراحل صلاح جاهين في الفترة الناصرية، بالإضافة إلى الثنائي الشهير، أحمد رجب ومصطفى حسين، وأعمالهما المشتركة عن رؤساء الوزراء في عهد مبارك.
وبعد ثورة يناير، شهد هذا الفن نقلة كبيرة عبر رسومات الفنانين الشباب في ميدان التحرير، ومن خلال "رابطة فناني الثورة" خصوصاً، بعدما أطلقت الثورة طاقات إبداعية للسخرية من كل شيء.
وبالطبع، لا نحتاج إلى الحديث عن فن الكاريكاتير في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، فقد كان له إسهام كبير في السخرية منه، ومن أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، في إطار الحرية الإعلامية غير المسبوقة التي شهدها عهده، واستهدفته بالأساس للتسفيه منه، والحط من شأنه.
لكن، بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، وصعود السيسي إلى سدة الحكم، يجتمع مع رجال الصحافة والإعلام، أضعاف اجتماعاته برجال السياسة، كان طبيعياً أن يسعى النظام، بكل قوة، إلى السيطرة المطلقة على الإعلام، إلى درجة أن الصحف وبرامج الفضائيات تحولت إلى نسخة كربونية مكررة من بعضها، وهو ما تفضل بشرحه اللواء عباس كامل، في المكالمة المسربة له مع العقيد أحمد علي، بصورة نموذجية.
أنتج هذا الوضع الجديد تطورات كبيرة على فن الكاريكاتير، أدت إلى تواريه عن الأنظار، في بلد يشتهر بالنكتة والدعابة، ويشتهر مواطنوه بالسخرية من كل شيء، حتى من أنفسهم. وظهر، لأول مرة، ما يمكن أن نسميه "كاريكاتير السلطة". وهو يتميز بأنه يخلو من أي مواصفات للكاريكاتير، فلا توجد أي جرعة فكاهة على الإطلاق، كما أنه لا يحتوي على أي نقد للسلطة، بل بالعكس، يمدح السلطة، ويساندها في كل ما تقوم به، ويلقي باللوم على المعارضة، خصوصاً الإخوان المسلمين، ويحملهم مسؤولية كل الكوارث التي تحدث بعد الانقلاب وما أكثرها. كما اختفت أي رسومات ترصد الفساد السياسي للنظام، أو النخب الحاكمة، أو حتى تحمل نقداً من أي نوع.
الثنائي أحمد رجب ومصطفى حسين نجما السنوات الماضية في الكاريكاتير قادا هذا التحول، في رسوماتهما الأخيرة قبل رحيلهما، وعادت رسومات الأخير لتصور مصر باعتبارها سيدة قبيحة الشكل، وهي تتغزل في السيسي، وترجوه الترشح لرئاسة الجمهورية. كما ظهرت رسومات أخرى تصور السيسي مثل الجبل الذي لا تهزه الريح "الأميركية"، وشبهته رسمة أخرى بغاندي. وتوارى فنانو الكاريكاتير الآخرون، ولجأوا إلى شبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، لنشر رسوماتهم النقدية التي ترفض الصحف نشرها، وتنشر بدلاً منها بالكاد رسومات تهاجم جهاز الكفتة لعلاج الإيدز، لكنها تسخر من اللواء عبدالعاطي فقط، ولا تسخر ممن تبناه ودعمه ومنحه رتبة اللواء، ونظم له مؤتمراً صحفياً "عالمياً" للإعلان عن الجهاز.
حتى الهجوم على رئيس الوزراء والمسؤولين، لم يعد متاحاً في عصر السيسي الذي انتقد عنواناً لإحدى الصحف المؤيدة له، على طول الخط، يهاجم أداء الحكومة في أزمة انقطاع الكهرباء المتكررة، فوصلت الرسالة إلى الإعلاميين جميعاً، ثم كفّوا عن تصور إمكانية العودة إلى معادلة عهد حسني مبارك في انتقاد الحكومة، لإعطاء انطباعٍ بأنه نظام ديمقراطي، فهذا النظام لا يريد حتى التظاهر بذلك.
أما في الأجيال الأصغر سناً، فيعتبر عمرو سليم أحد أبرز المتحولين في رسوماته الكاريكاتيرية، فمن نقد شديد وواضح لنظام مبارك، إلى رسومات وأفكار غاية في الرداءة، يرسمها في الفترة الحالية تمجد في السيسي، وتهاجم معارضيه بشراسة، وتتهمهم بتلقي أموال في مقابل الخروج للتظاهر ضده. وتنسب أزمة انقطاع الكهرباء لوجود "خلايا إخوانية نائمة" في وزارة الكهرباء. امتلأت رسومات عمرو سليم، أيضاً، بخطاب كراهية ضد التيارات الإسلامية باختلاف أطيافها. آخر تلك الرسومات كان رسماً مقززاً ومثيراً للغثيان، كرر فيه عمرو سليم ترديد أكذوبة جهاد النكاح التي نشرها الإعلام في سياق تشويهه اعتصام ميداني رابعة العدوية والنهضة، والتمهيد لفضهما بالقوة. كما كرر فيه وصف الإخوان بـ "الخرفان"، وهو خطاب عنصري بامتياز.
وعلى ذكر خطاب الكراهية، يبرز الرسام حلمي التوني في ما ينشره في صحيفة التحرير، وهي منشورات أجد صعوبة بالغة في وصفها بالكاريكاتير، أو حتى بالرسم، أو أي شيء له علاقة بالفن، فهي منشورات تحريضية خالصة، تمتلئ بخطاب عنصري فج ضد الإسلاميين.
الصحفي والمذيع عبد الرحيم علي، أسس مدرسة للكاريكاتير في جريدته التي يرأس تحريرها، أعاد فيه أمجاد مصطفى حسين في التزلف للسلطة، لكنه تجاوز ما كان يقوم به الأخير بمراحل، فهي مجرد رسوم تعبيرية، لا تتجاوز قيمتها الصورة التعبيرية التي نشرتها "الأهرام" للمخلوع مبارك، متقدماً رؤساء العالم قبل الثورة، وكانت فضيحتها مدوية.
ثاني المجالات التي أبدعت فيها جريدة عبد الرحيم علي هي عدم اقتصارها على تمجيد السلطة، بل امتدت إلى تمجيد نفسها برسوم كاريكاتيرية، في ظاهرةٍ لم نجدها في أي وسيلة إعلام حتى المصرية منها، قالت فيها إنها تمثل "صوت الحقيقة"، لكني وجدت هذا الرسم ينتمي إلى فن الكاريكاتير الحقيقي، لأنه رسم ساخر جداً في الحقيقة.
وصلت أوضاع فن الكاريكاتير إلى قمة الكوميديا التي افتقدتها بعد الانقلاب، بعدما وجدنا رسامي صحيفة "المصري اليوم" ينتفضون ويتضامنون، ليس مع ضحايا مذابح السلطة طوال الثلاث سنوات الماضية، بل من أجل رسامي مجلة "شارلي إيبدو" المقتولين، رافعين شعار "أنا شارلي" بمجموعة من الرسومات عقب الحادث مباشرة. ومساهمة مني في إيجاد أفكار لرسامي الكاريكاتير في مصر، في ظل البطالة المقنعة التي صاروا يعانون منها، أقترح عليهم إطلاق حملات للتضامن مع ضحايا الاحتباس الحراري في القارة القطبية الجنوبية، بالإضافة إلى ضحايا صيد السلطعون غير المقنن في شواطئ فنلندا، وأعدهم باقتراح المزيد من الموضوعات المهمة التي يجب أن يتناولوها في رسوماتهم "الساخرة" و"النقدية".