كرةُ القدم الأخرى

07 يوليو 2018

البرازيلي سقراط في المكسيك.. استثناء في كرة القدم (1/6/1986/Getty)

+ الخط -
ليست كرة القدم مجرد رياضة، إنها ظاهرة كونية مركّبة، ولا مبالغة في القول إنها تمثِّل جزءا من التاريخ الاجتماعي لمعظم المجتمعات المعاصرة، بحكم أنها تعبر مختلف الانتماءات الجغرافية والدينية والاجتماعية والمهنية، لتؤسس مصدرا متفردا للهوية والانتماء.
خصصت عالمةُ الاجتماع البريطانية الراحلة، روزماري كرومبتون، صفحات من كتابها ''الطبقات والتراصف الطبقي'' (صدر في ترجمة عربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) للحديث عن كرة القدم باعتبارها شأنا سوسيولوجيا، فأبرزت التحولات الكبرى التي عرفتها ''سياسات كرة القدم'' في بعض البلدان الغربية خلال العقود المنصرمة، لا سيما في ما يتعلق برصد تزايد اهتمام الطبقة الوسطى بها، وتحولها إلى عنصر جذب اقتصادي ومالي، إلى درجة أن اللاعبين باتوا يشكلون طبقة اجتماعية شبه مستقلة بذاتها.
إننا إزاء اقتصاد كرة القدم، يدر على المشتغلين في قطاعاته أرباحا طائلة، خصوصا فيما له صلة بالبث التلفزي، وسوق انتقالات اللاعبين والمدربين وأجورهم، والإعلانات، وغيرها. وكان لدخول أندية كبرى أسواق البورصة العالمية، في الأعوام الأخيرة، أثره في تحول هذه الأندية إلى إمبراطوريات مالية، عابرة للحدود والقارات.
انتبهت أنظمة كثيرة إلى فعالية كرة القدم، ودورها في التعبئة السياسية والقومية، وتغذية الروح الوطنية، خصوصا في فترات الاحتقان الاجتماعي والسياسي، فيمكن أن يُحدث التأهل إلى 
نهائيات كأس العالم، مثلا، حالة فرح عارمة تمتد إلى مختلف فئات المجتمع، ويتحول، بالتالي، إلى مغذٍ لشرعية النظام القائم، خصوصا في ظل إعلامٍ موجهٍ بطريقة مدروسة.
وعلى الرغم من التوظيف السياسي لكرة القدم، لا نعدم حالاتٍ وُظفت فيها هذه الرياضة وسيلة للتمرد على المواضعات الاجتماعية والسياسية القائمة. يتعلق الأمر بكرة قدم أخرى، لم يتردّد بعضهم في تسميتها كرة القدم الرومانسية أو الثورية أو الاشتراكية، فأصبحت جزءا من الذاكرة الكروية الشعبية، من خلال لاعبين تمرّدوا على هذه المواضعات، وأحدثوا الفارق في الصورة النمطية للاعب كرة القدم.
من هؤلاء اللاعب البرازيلي الراحل غارينشا (1933 -1983)، والذي يعتبره بعضهم أفضل مراوغ في التاريخ، وشكَّل، إلى جانب بيليه وآخرين، الجيل الذي أفلح في تخطي تبعات الهزيمة الدراماتيكية أمام الأوروغواي في نهاية كأس العالم لسنة 1950 على أرضية ملعب ماراكانا في ريو دي جانيرو. عاش حياة بوهيمية، وعانى، في أواخر أيامه، من الفقر والعزلة، وكان لنهايته المأساوية أثر بالغ في تحوله إلى أسطورة كروية شعبية في البرازيل. لاعبٌ آخر يكاد يشبه غارينشا في حياته ومصيره، إنه الإيرلندي الراحل، ونجم فريق مانشستر يونايتد في الستينيات وبداية السبعينيات، جورج بيست (1946 -2005)، والذي عاش حياة لا تقل بوهيميةً وإثارةً وصخبا.
في السياق نفسه، اختار لاعبون آخرون واجهة أخرى للخروج عن المألوف والمتعارف عليه، فكان أن وقف بعضهم في مواجهة الأنظمة العسكرية التي حكمت بلدانهم. من هؤلاء اللاعب التشيلي السابق، كارلوس كاسيلي، الذي أصبح جزءا من الذاكرة الكروية الشعبية في بلاده، ليس فقط باعتباره من أفضل اللاعبين في تاريخ بلاده، ولكن لقصته الشهيرة والمؤلمة مع دكتاتور تشيلي السابق، الجنرال بينوشيه. لم يُخف كاسيلي تأييده حكومة الوحدة الشعبية التي قادها الرئيس الراحل سلفادور أليندي بين عامي 1970 و1973، وحين قاد بينوشيه انقلابه في 11 سبتمبر/ أيلول 1973، لم يتردد نظامه في التضييق على الشخصيات العامة التي عرفت بقربها من اليسار التشيلي، فتم اختطاف والدة كاسيلي وتعذيبها، قبل أن يُطلق سراحها. وأياما قليلة قبل سفر منتخب تشيلي إلى ألمانيا الغربية للمشاركة في مونديال 1974، نظم بينوشيه حفل استقبال على شرف اللاعبين. وفي اللحظة التي مد فيها الجنرال يده لمصافحة كاسيلي، رفض الأخير مصافحته، في تحدٍّ دال لسلطة الجنرال وجبروته. وعلى الرغم من أن كاسيلي دفع ثمن ذلك غاليا طوال فترة حكم بينوشيه، إلا أن ما قام به جعله يحظى بتقدير مواطنيه وحبهم.
ويكاد يكون اللاعب البرازيلي الراحل سقراطس (1954 -2011) حالة نادرة في تاريخ كرة القدم. كان طبيبا، ومثقفا، ومناضلا في حزب العمال البرازيلي، ومعارضا للحكم العسكري في بلاده، ومحبا لتشي غيفارا وكاسترو وجون لينون. وفوق هذا وذاك، كان من أفضل لاعبي خط الوسط في تاريخ كرة القدم، بفضل لعبه الأنيق، وطريقته الساحرة في مداعبة الكرة وتمريرها بشكلٍ جمع بين السهل الممتنع. ويكفي هذا اللاعب أنه كان أحد الأعمدة الأساسية لواحدة من أفضل تشكيلات كرة القدم على مر التاريخ، إن لم تكن أفضلها.
كان سقراطس يؤمن أن كرة القدم إذا لم تكن عامل تغيير اجتماعي وسياسي فلا طائل منها، واعتبر أن انتشارها في مختلف أنحاء البلاد يساعد على ترسيخ الاندماج الوطني، وتعزيز الهوية الوطنية البرازيلية، بمختلف روافدها العرقية والثقافية والاجتماعية.
كان له دور حاسم في تأسيس حركة ''ديمقراطية كورينثيانز''، وهي حركة اجتماعية هدفت إلى دمقرطة هياكل نادي كورينثيانز، وإنهاء استبداد الجهاز المُسيِّر، وفتح المجال أمام اللاعبين 
للمشاركة في تدبير شؤون النادي. وسرعان ما انتقل تأثير الحركة إلى أندية أخرى، وأسهم في إحداث تغييرات لاحقة في هياكل الكرة البرازيلية. ولا يزال اليسار البرازيلي يحفظ لسقراطس دوره في ربط كرة القدم بتطلعات مواطنيه نحو الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية خلال فترة الحكم العسكري في البرازيل. حين سُئل إبّان إقامته القصيرة في نادي فيورنتينا الإيطالي، منتصف الثمانينيات، عما يفعله خارج التزاماته الكروية، أجاب بأنه منكبٌّ على قراءة أعمال الفيلسوف الماركسي الراحل أنطونيو غرامشي، وتاريخ الحركة العمالية الإيطالية.
عربيا، يكاد يكون المصري محمد أبو تريكة اللاعب الوحيد الذي خرج عن الصورة النمطية للاعبين العرب. كان موقفه المتضامن مع غزة في مواجهة الحصار الإسرائيلي سابقةً، فبعد تسجيله هدفا في مرمى المنتخب السوداني في نهائيات كأس أفريقيا في غانا سنة 2008، كشف عن قميص كتبت عليه عبارة: ''تعاطفا مع غزة''. وحين كُرم في الجزائر قبل سنتين أوصى بأن يدفن معه القميص، ما جعله يحظى بتقدير شعبي لافت في معظم البلاد العربية. كما أن رفضه الانضمام لجوقة تأييد الانقلاب العسكري في مصر جرَّ عليه نقمة نظام السيسي الذي لم يتردّد في وضع اسمه على قوائم الإرهاب، ما أثار استنكارا وشجبا واسعين داخل مصر وخارجها.
اختفى هذا الصنف من اللاعبين، فلا نكاد نسمع رأيا أو موقفا لهذا النجم أو ذاك في بؤر التوتر التي تتوزع في العالم. تراهم يتراكضون في الملاعب، من أجل زيادة ثرواتهم الخيالية التي تكاد تفوق، في بعض الأحيان، موازنات بلدان بحالها. ولذلك لم يكن مستغربا أن يرد، مثلا، اسم الأرجنتيني ليونيل ميسي في وثائق بنما قبل سنتين. أصبح اقتصاد كرة القدم خاضعا لتحالف قوى السياسة والنفوذ والرأسمال والإعلام، وتحوّل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) إلى إمبراطورية اقتصادية، تضبط إيقاع التجاذب بين هاته القوى المؤثرة، وتتحكّم في التطور التقني والفني للعبة، لا سيما بعد تراجع ''العقائد'' الكروية التقليدية التي قامت على الفرجة والإمتاع.