03 نوفمبر 2024
كرة القدم تحقق ما فشل فيه السياسيون
على الرغم من عدم تمكّن الفريق الوطني التونسي لكرة القدم من تسجيل أي هدف ضد منافسه الفريق الليبي الذي صمد في الدفاع عن شباكه صمودا استثنائيا، إلا أن ذلك لم يقلل من فرحة التونسيين بترشحهم إلى دورة كأس العالم في روسيا. فما أن أطلق الحكم صفارة نهاية المقابلة، حتى عمت الجميع رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا سعادة استثنائية، وامتلأت الشوارع بالشباب في حركة صاخبةٍ وهتافاتٍ لم تتوقف إلا في وقت متأخر من الليل.
قد يرى بعضهم في هذا الحدث أمرا عاديا، تمارسه جماهير الرياضة في كل الدول، عندما ينتصر رياضيوها. لكن، مع الاعتراف بذلك، لما حصل في تونس طعم خاص. التونسيون في حاجة ملحة للانتصار، حتى لو رمزيا، فهم تعبوا من الضغط اليومي، أرهقتهم الزيادات المتتالية في الأسعار في مقابل انهيار قيمة الدينار. أتعبتهم الحوارات التلفزيونية التي يقاس نجاحها بمدى قدرة المشاركين فيها على رفع أصواتهم، وتبادل الاتهامات فيما بينهم، وإظهار علامات التوتر على وجوه المتصارعين من أجل البقاء، والتسابق من أجل إقناع المواطنين بأن كل شيء في تونس معطّل، وأن جميع الطرق مسدودة، وأن كل النوافذ والأبواب باتت مغلقة، وأن كل ما يقوله الماسكون بالسلطة التنفيذية كذب وبهتان.
هناك من يعمل على دفع التونسيين، عن وعي وسبق إصرار، نحو حالة من الإحباط الجماعي، واليأس من التغيير، بحجة أن البلاد في حاجة إلى "مستبد عادل"، وأن الديمقراطية طريق مسدود، لا يؤدي بأصحابه إلا إلى الفوضى، والفوضى لن تؤدي إلا إلى التهلكة. ونتيجة ذلك، يشعر بعضهم بأن الوفاء للوطن قد تراجع منسوبه، على الرغم من ارتفاع سقف الحريات، وكأن الشعور الوطني قد أصيب بانتكاسة حادة، أو أنه سقط بالضربة القاضية.
في هذا السياق المعقد، توجه أصابع الاتهام إلى السياسيين وأحزابهم وشللهم وشعاراتهم و"مواعظهم"، لأن السياسة إنجاز أو لا تكون، ومن يعد الناس ثم يخلف وعده يتهم بالكذب، ويقع التشكيك في مصداقيته، ويتحول إلى مسؤولٍ عن الانخفاض الحاد في درجات إيمان المواطن بقيمة العمل السياسي وجدواه. وعندما يسحب الجمهور ثقته من اللاعبين داخل المربع الذهبي للسياسة، لا يتساقط الأشخاص فقط، وإنما يؤثر ذلك مباشرةً على المعبد كله، ويصبح الجميع مسكونين بهواجس الخوف والفشل واليأس.
أعادت الثورة التونسيين إلى السياسة، بعد أن طردهم منها زين العابدين بن علي، ليحتكرها بمفرده، ويوزّع أجزاء بسيطة منها على حوارييه، ومن يرضى عنهم. وبدل أن يعمل السياسيون الجدد الذين أفرزتهم الأحداث المتلاحقة بعد الثورة، انشغلوا بالصراع على الحكم، وعجزوا عن خدمة الناس، وتوفير البدائل الناجعة لمعالجة مشكلاتهم، والارتفاع بمستوياتهم المادية والمعنوية، عندها أحست الأغلبية بالمأزق وبالخطر، وبدأوا يشعرون بعدم الاطمئنان على حاضرهم ومستقبلهم.
في هذه الأجواء، جاء الترشح إلى روسيا ليعيد الأمل في قدرة الشعب التونسي على إثبات وجوده من جديد، على الرغم من تعثرات النخبة وخدعة رجال السياسة. نسي التونسيون، في غمرة الفرح، كل المؤشرات السلبية التي يمطرهم بها الإعلام يوميا، والتفتوا إلى فريقهم الوطني، يأملون أن يتولى القيادة الرمزية للجماهير المتعطشة لإثبات الذات، ونفي المستحيل، وتأكيد القدرة على مواجهة التحديات.
تعانق التونسيون من جديد، وتخلوا مرة أخرى عن التمييز بين مكوناتهم وأصولهم وانتماءاتهم. ذابوا من دون تخطيط منهم في كيانٍ لا يزال صامدا، على الرغم من الأوجاع وتوالي الضربات وتعدّد المخاطر. إنه كيان الوطن الجامع. وهكذا استفاق ذلك الشعور الفياض، بحب تونس والإيمان بها. فما حدث هذه الأيام ذكّر الجميع بالوحدة الوطنية التي سرت في النفوس والعقول والمشاعر، بعد أن رحل بن علي، وأحسّ الجميع بأنهم مسؤولون عن حماية البلاد، والدفاع عنها، وعن مكاسبها وثرواتها المادية والرمزية. الوطنية لا تموت، لكنها مثل النار التي تخمد قليلا تحت الرماد، لكنها سرعان ما يعود لهيبها من جديد.
هكذا نجحت كرة القدم، فيما فشل فيه محترفو السياسة.
قد يرى بعضهم في هذا الحدث أمرا عاديا، تمارسه جماهير الرياضة في كل الدول، عندما ينتصر رياضيوها. لكن، مع الاعتراف بذلك، لما حصل في تونس طعم خاص. التونسيون في حاجة ملحة للانتصار، حتى لو رمزيا، فهم تعبوا من الضغط اليومي، أرهقتهم الزيادات المتتالية في الأسعار في مقابل انهيار قيمة الدينار. أتعبتهم الحوارات التلفزيونية التي يقاس نجاحها بمدى قدرة المشاركين فيها على رفع أصواتهم، وتبادل الاتهامات فيما بينهم، وإظهار علامات التوتر على وجوه المتصارعين من أجل البقاء، والتسابق من أجل إقناع المواطنين بأن كل شيء في تونس معطّل، وأن جميع الطرق مسدودة، وأن كل النوافذ والأبواب باتت مغلقة، وأن كل ما يقوله الماسكون بالسلطة التنفيذية كذب وبهتان.
هناك من يعمل على دفع التونسيين، عن وعي وسبق إصرار، نحو حالة من الإحباط الجماعي، واليأس من التغيير، بحجة أن البلاد في حاجة إلى "مستبد عادل"، وأن الديمقراطية طريق مسدود، لا يؤدي بأصحابه إلا إلى الفوضى، والفوضى لن تؤدي إلا إلى التهلكة. ونتيجة ذلك، يشعر بعضهم بأن الوفاء للوطن قد تراجع منسوبه، على الرغم من ارتفاع سقف الحريات، وكأن الشعور الوطني قد أصيب بانتكاسة حادة، أو أنه سقط بالضربة القاضية.
في هذا السياق المعقد، توجه أصابع الاتهام إلى السياسيين وأحزابهم وشللهم وشعاراتهم و"مواعظهم"، لأن السياسة إنجاز أو لا تكون، ومن يعد الناس ثم يخلف وعده يتهم بالكذب، ويقع التشكيك في مصداقيته، ويتحول إلى مسؤولٍ عن الانخفاض الحاد في درجات إيمان المواطن بقيمة العمل السياسي وجدواه. وعندما يسحب الجمهور ثقته من اللاعبين داخل المربع الذهبي للسياسة، لا يتساقط الأشخاص فقط، وإنما يؤثر ذلك مباشرةً على المعبد كله، ويصبح الجميع مسكونين بهواجس الخوف والفشل واليأس.
أعادت الثورة التونسيين إلى السياسة، بعد أن طردهم منها زين العابدين بن علي، ليحتكرها بمفرده، ويوزّع أجزاء بسيطة منها على حوارييه، ومن يرضى عنهم. وبدل أن يعمل السياسيون الجدد الذين أفرزتهم الأحداث المتلاحقة بعد الثورة، انشغلوا بالصراع على الحكم، وعجزوا عن خدمة الناس، وتوفير البدائل الناجعة لمعالجة مشكلاتهم، والارتفاع بمستوياتهم المادية والمعنوية، عندها أحست الأغلبية بالمأزق وبالخطر، وبدأوا يشعرون بعدم الاطمئنان على حاضرهم ومستقبلهم.
في هذه الأجواء، جاء الترشح إلى روسيا ليعيد الأمل في قدرة الشعب التونسي على إثبات وجوده من جديد، على الرغم من تعثرات النخبة وخدعة رجال السياسة. نسي التونسيون، في غمرة الفرح، كل المؤشرات السلبية التي يمطرهم بها الإعلام يوميا، والتفتوا إلى فريقهم الوطني، يأملون أن يتولى القيادة الرمزية للجماهير المتعطشة لإثبات الذات، ونفي المستحيل، وتأكيد القدرة على مواجهة التحديات.
تعانق التونسيون من جديد، وتخلوا مرة أخرى عن التمييز بين مكوناتهم وأصولهم وانتماءاتهم. ذابوا من دون تخطيط منهم في كيانٍ لا يزال صامدا، على الرغم من الأوجاع وتوالي الضربات وتعدّد المخاطر. إنه كيان الوطن الجامع. وهكذا استفاق ذلك الشعور الفياض، بحب تونس والإيمان بها. فما حدث هذه الأيام ذكّر الجميع بالوحدة الوطنية التي سرت في النفوس والعقول والمشاعر، بعد أن رحل بن علي، وأحسّ الجميع بأنهم مسؤولون عن حماية البلاد، والدفاع عنها، وعن مكاسبها وثرواتها المادية والرمزية. الوطنية لا تموت، لكنها مثل النار التي تخمد قليلا تحت الرماد، لكنها سرعان ما يعود لهيبها من جديد.
هكذا نجحت كرة القدم، فيما فشل فيه محترفو السياسة.