صَوَّرَ لنا حزبُ البعث العربي الاشتراكي موضوعَ الهجرة على أنه شيء خطير، بل وكارثي، وسمّاه هجرة الأدمغة. وخلال الخطابات التي كان البعثيون "يكيلونها" لنا نحن الجماهير الغلبانة، اعتادوا التحدثَ عن شيء أخطر من الهجرة، وألعن، وأدق رقبة، اسمه نزيف الأدمغة، وهذا يذكّرنا، تلقائياً، بمصطلح طبي هو النزيف الدماغي الذي يؤدي إلى خثرة، أو جلطة دماغية، تَطرح الإنسان أرضاً، إذ تصيبه بمرض الـ فالج لا تعالج.
لا يمكن تحويل الإنسان الطبيعي إلى إنسان قومي، بسهولة وبساطة، وإنما يحتاج الأمر إلى شغل و"تربية". ومن أجل هذا اخترع واضعو المناهج التربوية كِتاباً عجيباً أطلقوا عليه اسم التربية القومية الاشتراكية، يحتوي على إبداعات إنشائية خاصة بالدكتور إسكندر لوقا تبنّاها حافظ الأسد زاعماً أنها خطاباته التاريخية، وعلى مقومات الوحدة العربية، وأسس التكامل الاقتصادي العربي. وفيه سباب على الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والرجعية، وبحث مستفيض عن هجرة الأدمغة، التي ترتكز إلى عنصرين بالغي الأهمية، أولهما جذب المجتمعات الإمبريالية للإخوة العربان ذوي الأدمغة الثقيلة، وثانيهما دَفْعُ المجتمعات العربية المتخلّفة أبناءها إلى الهجرة، أو إجبارهم على الفرار، مثلما كانت المضادات الجوية السورية تُجبر الطائرات الصهيونية المعادية على الفرار، من دون أن تصيبها بأذى، والحمد لله.
اقرأ أيضًا: عسكر ومثقف أعزل ووحيد
لا توجد في منهاج التربية القومية الاشتراكية، ولا حتى في المؤلفات الأدبية والفكرية والثقافية، أية إشارة إلى أن قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي لقطرنا الصامد، تسمح، أو تدفع، أو توفر بيئة تشجع أولي العقول النيّرة والعبقريات العلمية على الهجرة، فهذا كان يحصل، فقط، في الدول العربية الرجعية، إضافة إلى العراق الذي يجثم على صدره نوع آخر من البعث، ألا وهو البعث اليميني العفن.
هذا على الصعيد الرسمي، بيد أن الحكايات الشفاهية تتداول أخباراً عن سوريين أوفد بعضُهُم إلى الدول الاشتراكية، وبعضهم الآخر إلى الدول الإمبريالية، وعادوا بشهادات علمية كل واحدة أكبر من ملاءة السرير، في الهندسة الإلكترونية، والفيزياء الذرية، والكيمياء التطبيقية، وزراعة الغابات والصحاري، وفلسفة ابن رشد. لكنهم، وبمجرد ما وصلوا إلى أرض الوطن، أصبحوا أعضاء بارزين في "الشركة الأهلية لِلَّفّ والدوران المساهمة المغفلة". وقبل أن يجوعوا، مثل أهل مضايا وبقين ودير الزور والزبداني، رأفت بحالهم مديريةُ الشؤون الاجتماعية والعمل، ووظفتهم في المؤسسة العامة للأحذية. أجل، والله إنه لا يوجد في هذا الكلام مزاح أو دعابة، وأنا، حتى الآن، لا أعرف لماذا كانوا يعيّنونهم في هذه المؤسسة بالذات.
اقرأ أيضًا: غونتر غراس إذ يربك دولة
كنا، نحن المثقفين اليساريين الأكثر قرباً من الماركسية، نشترك مع حزب البعث العربي الاشتراكي في النظرة إلى هجرة المثقفين على أنها عمل معيب، يصل، برأي المتشددين منّا، إلى مستوى الخيانة الوطنية. وكنا، جميعاً، نترنّم بمقطع من قصيدة توفيق زَيَّاد يقول فيه: هنا على صدوركم باقون كالجدار. والمُخَاطَبون بكلمة "صدوركم"، بلا شك، هم القوى الظلامية والرجعية والرأسمالية الطفيلية الذين يسعون إلى تهجيرنا لكي يخلو لهم الجو ويتخلصوا منا ومن مواقفنا المبدئية الثابتة.
إن النظرة إلى أبناء الوطن ذوي الأدمغة المهاجرة لتختلف وتتباين بين مؤيد لها ورافض. فواحد يتأمل المهاجرَ حينما يأتي لزيارة موطنه الأصلي مرة كل عدة سنوات، ويرى آثار النعمة على وجهه، ويراه وهو يساعد أهله وأصدقاءه من ماله الوفير، ويطرب لحديثه عن الرقي والحضارة والحريات التي يتمتع بها المجتمع الذي يعيش فيه، فيقول في نفسه ليتني هاجرت مثله، وليته يبقى هناك، فحرام أن يأتي إلى هنا ويعيش في كل هذا القهر والتخلّف. وآخر يحاكمه من منطق أنه خان خبز وطنه وملحه ووضع إمكاناته الجبارة في خدمة مجتمع آخر.
كذلك الحال بالنسبة إلينا نحن المثقفين، فمِنَّا مَنْ يحسد مثقفاً سوريّاً مغترباً مثل رفيق شامي على ما أعطته إياه الأوساط الثقافية والإعلامية في ألمانيا من اهتمام، وشهرة، ويُذهل من عدد الجوائز التي حصل عليها، واللغات التي ترجمت أعماله إليها، ومنّا مَن يهاجمه، ويقلّل من شأنه، ويكيل له الاتهامات بلا حساب.
في الوقت ذاته لا يسعنا إلا أن نرثي لحال أدبائنا ومثقفينا الذين آثروا البقاء في الوطن، فأمضوا نصف أعمارهم في السجون، كما حصل مع غسان الجباعي، أو توقفوا عن الكتابة مُرغمين، مثلما حصل مع عبد الكريم أبازيد الذي مات منذ أيام قليلة، مختنقاً من غياب أكسجين الحرية في الشام.
اقرأ أيضًا: عسكر ومثقف أعزل ووحيد
لا توجد في منهاج التربية القومية الاشتراكية، ولا حتى في المؤلفات الأدبية والفكرية والثقافية، أية إشارة إلى أن قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي لقطرنا الصامد، تسمح، أو تدفع، أو توفر بيئة تشجع أولي العقول النيّرة والعبقريات العلمية على الهجرة، فهذا كان يحصل، فقط، في الدول العربية الرجعية، إضافة إلى العراق الذي يجثم على صدره نوع آخر من البعث، ألا وهو البعث اليميني العفن.
هذا على الصعيد الرسمي، بيد أن الحكايات الشفاهية تتداول أخباراً عن سوريين أوفد بعضُهُم إلى الدول الاشتراكية، وبعضهم الآخر إلى الدول الإمبريالية، وعادوا بشهادات علمية كل واحدة أكبر من ملاءة السرير، في الهندسة الإلكترونية، والفيزياء الذرية، والكيمياء التطبيقية، وزراعة الغابات والصحاري، وفلسفة ابن رشد. لكنهم، وبمجرد ما وصلوا إلى أرض الوطن، أصبحوا أعضاء بارزين في "الشركة الأهلية لِلَّفّ والدوران المساهمة المغفلة". وقبل أن يجوعوا، مثل أهل مضايا وبقين ودير الزور والزبداني، رأفت بحالهم مديريةُ الشؤون الاجتماعية والعمل، ووظفتهم في المؤسسة العامة للأحذية. أجل، والله إنه لا يوجد في هذا الكلام مزاح أو دعابة، وأنا، حتى الآن، لا أعرف لماذا كانوا يعيّنونهم في هذه المؤسسة بالذات.
اقرأ أيضًا: غونتر غراس إذ يربك دولة
كنا، نحن المثقفين اليساريين الأكثر قرباً من الماركسية، نشترك مع حزب البعث العربي الاشتراكي في النظرة إلى هجرة المثقفين على أنها عمل معيب، يصل، برأي المتشددين منّا، إلى مستوى الخيانة الوطنية. وكنا، جميعاً، نترنّم بمقطع من قصيدة توفيق زَيَّاد يقول فيه: هنا على صدوركم باقون كالجدار. والمُخَاطَبون بكلمة "صدوركم"، بلا شك، هم القوى الظلامية والرجعية والرأسمالية الطفيلية الذين يسعون إلى تهجيرنا لكي يخلو لهم الجو ويتخلصوا منا ومن مواقفنا المبدئية الثابتة.
كذلك الحال بالنسبة إلينا نحن المثقفين، فمِنَّا مَنْ يحسد مثقفاً سوريّاً مغترباً مثل رفيق شامي على ما أعطته إياه الأوساط الثقافية والإعلامية في ألمانيا من اهتمام، وشهرة، ويُذهل من عدد الجوائز التي حصل عليها، واللغات التي ترجمت أعماله إليها، ومنّا مَن يهاجمه، ويقلّل من شأنه، ويكيل له الاتهامات بلا حساب.
في الوقت ذاته لا يسعنا إلا أن نرثي لحال أدبائنا ومثقفينا الذين آثروا البقاء في الوطن، فأمضوا نصف أعمارهم في السجون، كما حصل مع غسان الجباعي، أو توقفوا عن الكتابة مُرغمين، مثلما حصل مع عبد الكريم أبازيد الذي مات منذ أيام قليلة، مختنقاً من غياب أكسجين الحرية في الشام.