كيسنجر.. نظام عالمي جديد وتقسيم المقسّم
لم يتوقف الحديث، في العقد الماضي، عن إعادة النظر في الخارطة السياسية للعالم العربي، وخصوصاً بعد تنحية صدام حسين، وتمكن القوات العسكرية الأميركية من الوجود في قواعد عسكرية دائمة في مناطق عربية مختلفة. وطالما قرأنا، في وسائل الإعلام، عن خطط لتقسيم المملكة العربية السعودية وسورية والعراق وغيرها إلى دويلات، واقتطاع مناطق من هنا لإضافتها إلى هناك، وكأنّ الإقليم بات قطعة حلوى، يسهل تقسيمها بسكين مطبخ، وفقاً لمتطلبات المرحلة.
يرى هنري كيسنجر، المستشار الأمني السابق للرئيسين الأميركيين ريتشارد نيكسون، وجيرالد فورد، ووزير الخارجية الأميركي (1973 – 1977)، إنّ هناك ضرورة للعودة إلى أفكار الأمير النمساوي كليمنس فينول مترينخ (1773 – 1859) ونهجه، وهو الذي وضع أسس العمل السياسي للدول الأوروبية العظمى وقواعده، إثر هزيمة نابليون بونابرت، ورسم بالاتفاق مع القادة الأوروبيين خارطة دول القارة الأوروبية، وتشمل اتفاقية فيينا تلك عدم العبث بحدود هذه الخارطة، من دون موافقة باقي دول المنظومة، ويعتبر الأمير النمساوي أفضل من طبّق مبدأ المكيافيلية "الغاية تبرّر الوسيلة".
وقصد كيسنجر بحديثه، الأوضاع المتفجرة في أوكرانيا، والخلاف الحدودي والأصولي مع روسيا الواقعة في أوراسيا "آسيا وأوروبا"، من دون أن تجد مكانها الطبيعي في القارتين، بعد أن ضمّت شبه جزيرة القرم، وخاضت حروباً عديدة مع دول القفقاس، وها هي، الآن، تعاني من صراع سياسي مع المنظومة الأوروبية، أدّى أخيراً إلى اتخاذ حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية، ما أسفر كذلك عن إمكانية إغلاق الأجواء الروسية أمام حركة الطيران الأوروبي حال المضيّ في تنفيذ هذه العقوبات.
ويرى كيسنجر أنّ الولايات المتحدة هي المعنية، حالياً، بتقمّص دور الأمير مترينخ، ولعب دور العرّاب العالمي، إذا أمكن استخدام هذا المصطلح "Global balancier"، وفقاً لمبادئ المكيافيلية ومحاولة إرضاء الأطراف كافة، بعيدًا عن المثالية الأميركية، والتي قدمت الفوضى العارمة ودوامة عنف مستمرة، حتى اللحظة في منطقة الشرق الأوسط، وفشل الحملات العسكرية الفجّة في أفغانستان والعراق، من دون تحقيق الحدّ الأدنى من الأهداف الأميركية المرجوّة، وعدم وضوح الرؤية السياسية بديلاً عن الديمقراطية الموعودة.
أميركا هي التي أوجدت تنظيم القاعدة لمحاربة روسيا، وأعلنت الحروب ضدّ الإرهاب والتطرّف من دون تحديد معنى الإرهاب، ومباركة إطاحة أنظمة عربية باسم الديمقراطية، والتردّد في مواجهة أنظمة استبدادية دموية أخرى، ما أسفر عن ظهور تنظيماتٍ وحركاتٍ متطرفة، تسعى إلى تحقيق توازن الرعب في المنطقة، والاستفادة من الفوضى العقيمة غير الخلاقة في الشرق الأوسط. وتسعى رؤية كسينجر الأخيرة إلى وضع أسس جديدة لنظام عالمي جديد، يأخذ في الحسبان حالة عدم الاستقرار التي يشهدها العالم، في العقدين الأخيرين، وذلك في دراسته الجديدة المنشورة في مواقع إعلامية كثيرة بعنوان “New World Order”.
كيف يمكن للولايات المتحدة استعادة دورها شرطياً عالمياً، قادراً على تقديم المكافآت ومعاقبة المارقين الدوليين في ظلّ تنامي النفوذ الروسي الواضح في البلقان والشرق الأوسط "سورية وإيران"، وظهور قوى اقتصادية عالمية جديدة، كالصين والاتحاد الأوروبي! لم يذكر كيسنجر الآليات الممكنة لاستعادة الدور الأميركي المتردّد، وفاقد المصداقية، إثر الدعم السياسي والعسكري المتواصل لإسرائيل في حروب الإبادة الجماعية لغزة ومحاصرة الشعب الفلسطيني، وقضم أراضيه من دون توقّف وتوسيع المستوطنات، والاستهانة بالقوانين الدولية، مستفيدة من الفيتو والدعم الأميركي غير المحدود، أو المشروط. ويطرح كيسنجر كذلك ضرورة تحقيق التوازن بين المثالية الأميركية والاستراتيجية العالمية لإرضاء الأطراف كافة، طارحاً بذلك مثال انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام، بعد الانفتاح على روسيا، وبذلك أبقت أميركا على ثقلها وحضورها الدولي المؤثر في تلك المنطقة.
الدور الدبلوماسي الهادئ الساعي إلى إيجاد التوازن العالمي المقترح للولايات المتحدة الأميركية وفقاً لنظرية كيسنجر يبدو صعباً للغاية، وهي التي خاضت حروباً دموية في قارات عديدة، ولم تحرّك ساكناً لدعم الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في مصر ودول أميركا اللاتينية، لكنّها لم تتوقف عن التغنّي، ليل نهار، بمبادئها الديمقراطية، وموقفها من الاحتلال الإسرائيلي واضح ومفضوح، باعتبار أن إسرائيل أكبر حاملة طائرات أميركية.
التحالف الذي أعلنته الولايات المتحدة مع دول عربية للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، أخيراً، باعتباره عميد الإرهاب في المنطقة، يدلّ على عدم فهم الأحداث والتغييرات الأصولية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. وقد تنامى تنظيم داعش، وتمكن من التحول إلى قوة عسكرية مؤثرة، وتضخّم تعداد مقاتليه إلى نحو 30 ألف مقاتل "ضعف قوام جيش دولة الكويت، وأكبر من قوام جيش دولة أوروبية، مثل بلغاريا"، عدا عن الانتماء العقائدي للمنتمين إلى داعش، ما يجعلهم أكثر جرأة واستعداداً للقتال والموت في ساحة المعركة، وخصوصاً في سورية، لأنّ شروط بقائهم ونجاح مقاومتهم أفضل منها في العراق التي ما تزال تتمتع بجيش نظامي ومقاومة كردية في الشمال. هذا التحالف يدلّ على عدم وجود إرادة، أو رغبة سياسية، بعيدة الأمد لحلّ مشكلات منطقة الشرق الأوسط، وتفضيل التدخل المرحلي المؤقّت بين حين وآخر، البديل السهل عن البحث عن الأسباب التي أدّت إلى ظهور قوّة داعش وتناميها بهذه السرعة، علماً أنّ هزيمة هذا التنظيم على الأرض من الجوّ فقط صعبة، وهو الذي يعتمد استراتيجية حرب الشوارع والأزقة والجحور، ويتقن أساليب الفرّ والكرّ والترويع وقطع الرؤوس، ورفع مستوى المواجهة العقائدية مع الغرب بإعدام الصحافيين واحداً تلو الآخر، غير عابئ بالتهديدات الأميركية والبريطانية، مع استمرار انضمام آلاف الأوروبيين إليه.
هناك ضرورة لإعادة النظر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، ووضع استراتيجية عادلة وواضحة وبعيدة المدى، لأنّ إقليم الشرق الأوسط مهيّأ لظهور تنظيمات متطرفة أخرى، حتى وإن تمّ القضاء على داعش خلال الحملة الدولية المتوقعة.
يبقى السؤال قائماً بشأن طبيعة النظام الدولي الجديد المقترح، وفق وجهة نظر كيسنجر، الهادفة إلى استنساخ خطة الأمير النمساوي كليمنس فينول مترينخ، لكن وقبل ذلك، على أميركا أن تستعيد مكانتها الدولية، وتكتسب ثقة أوروبا التي باتت تستشعر الخطر تجاه روسيا الراغبة في توسيع نفوذها في أوروبا وآسيا، كما يجب ظهور زعيم أميركي يمتلك ثقلاً سياسيًا واجتماعيًا، كما الأمير مترينخ، لتمرير قراراته ورؤيته السياسية لمكافحة الإرهاب، وربّما تقسيم المقسّم في الخارطة الجيوسياسية لإقليم الشرق الأوسط.