-1-
ثلاثاء غائم، السكون والظلام يلفّان ميناء الجزائر.
صوت عمر الزّاهي آتيا من بعيد يشق هذا السكون "سلّي همومك في هذي العشيّة، ما تدري ما ياتيك الصباح"، أمواج البحر تهزّ القارب كدوح، داخله لففتُ سيجارتي وضعت شفتيّ عليها وأشعلتها، إنّها حبيبتي، جذبتُ روحها إلى صدري مرّة واحدة فزاد إشتعالها، حبستُها داخله لثوان، بدأ صدري يضيق ورأسي يتمدّد ويتّسع، إغرورقت عيناي قليلا فأطلقتُ صراحها، ومع إنتهاء اللفافة، كنتُ قد أفرغتُ كلّ ما في صدري واستحال رأسي صالوناً واسعاً يتبادل فيه أناس أعرفهم وآخرون لم أرهم قط الأحاديث والنكات، ضحكتُ معهم طويلا، تكوّرتُ كدودة وبكيت ثمّ نمت.
خيوط الفجر الأولى سَحَبت معها هدير السفن العائدة من رحلة الصيد، بإمكاني أن أسمع بعض تهاليل الصباح وبعض التحايا التي يتبادلها الصيادون، أغانيهم التي يغنونها للبحر، صوت صناديق السمك وهي تُسحب على الرصيف وأبواق السيارات البعيدة، غير بعيد من قاربي يهمس أحد البحّارة لصاحبه وهما يستعدان للإبحار: يوم صيد رائع هذا يا الباجي، البحر هادئ والسماء صافية، بإمكانك أن ترى أوروبا من هنا . . . يرد الباجي: نحن بحاجة إلى رؤية قاع البحر أكثر من أوربا يا صديقي.
حاولت أن أفركَ عينيّ لكنّ يداي كانتا عالقتين في شبكة الصيد الكبيرة التي نمتُ فوقها، ماذا أفعل الآن؟ كي أخلّص يداي أحتاج إلى عينين مفتوحتين، وكي أفتح عيني يجب أن أفركهما!
مضت نصف ساعة ربّما وأنا كسمكة أسيرة، فكّرتُ في السمكة المسكينة، كيف ستفرك عينيها إن احتاجت لذلك؟ وأنا أفكّر كانت عيناي تتفتّحان ببطء كجرو صغير.
-2-
أعتقد أنّ ظنّ أمّي فيّ قد خاب للمرّة الألف، طالما تبادلنا نفس الحوار، لم يعتذر قط أحدنا عن دوره:
- أين بتّ البارحة يا ولدي؟
- في القارب يا أمّي
- واضح من عينيك المنتفختين كعيني سمكة ميّتة
تصمتُ ثمّ تردف:
- يا ولدي، وفّر ملح دموعك يا ولدي...
-3-
أربعاء جميل وصاف . . . غريب تقلّب الجوّ!
مزاجي معتدل كشمس هذا الصباح.
في المساء، وأنا أنتظر المترو في محطّة تافورة، فكّرت في كل شيء، ولم أفكّر في شيء محدّد، تحوّل رأسي فجأة وهو يدفع سيل الأفكار إلى شرطيّ مرور في قلب مدينة كبيرة، لا يحترم سائقوها قوانين المرور ولا هذا الشرطيّ الذي يدور حول نفسه ويصفّر في كلّ الإتجاهات، قفز وبشكل مفاجئ صوت ما يدفعني إلى أن أرم بنفسي أمام عربة المترو، كنتُ أسمعه واضحا ومصمّما، كأنّه كان يتأمّل معي حياتي وقرّر في النهاية أن لا فائدة من أن أواصلها.
عندما بدأت الأرض ترتجّ تحت قدميّ معلنة قدوم المترو، أغرقني خوفي وشعرتُ أنّي أتصبب عرقا وأنّ العرق ربّما بلغ سروالي الدّاخلي حتّى صار ثقيلا، لا وقت لي لتأمّل مظهره، خفت أن يدفعني هذا الصوت اللعين إلى أن أرم بنفسي حقا، لقد كنتُ منهكا إلى الحدّ الذي قد يغلبني فيه أيّ صوت، فما بالك بهذا الصوت الواثق، ظننته في البدء شيئا من أثر الدماء السّاخنة التي صعدت إلى رأسي سريعا بعد أن توقفت من رحلة مشي طويلة من القصبة إلى تافورة، كلما كان يقترب المترو كانت حدّة الصوت وإصراره تسحقان إرادتي، لقد حاول أيضا إقناعي ببعض الجمل، وكردّ فعل ازدادت يداي تشبثا بلوحة اتجاهات المترو المثبّثة على الحائط وراء ظهري وإزداد ظهري ومؤخرتي إلتصاقا به، الحمد لله أنّ هناك ظهر ومؤخرة وحيطان ! هممتُ بالاستدارة نحوه وإغماض عينيّ والانشغال بتقبيله وشكره أو شكره فقط والهروب من محطّة الميترو، لكنّي أحجمت لأنّ الناس ستعتقد ربّما أنّي أتبوّل على الحائط أو أنّي أقدّس الحيطان أو أنّي مجنون، ببساطة كان هذا الصوت يدفعني إلى الإنتحار أو الجنون.
الآن فقط أحسستُ بصعوبة تخطّي بضع لحظات، وأنّي أمام صوت غريب ولد في ثوان ويطلب منّي طلبا غير واقعي تماما، وينبغي عليّ الآن أن أحشد ما تبقى من إرادتي وأن أنتصر عليه في ثوان أيضا، وإن فشلت فسيدفعني تحت عربة الميترو لتسحقني بينما يُطلق من الرصيف ضحكات السخرية والهزء وهو يراني أتحوّل إلى لحم مفروم، حينها ستكون روحي قد تبخّرت ولن أستطيع أن أبصق عليه مثلا أو ألعن أمّه، هذا هو التحدي الكبير أمامي الآن، أن أعيش الثواني القليلة القادمة، أنا الذي ملكت ساعات بل أياما طويلة أنفقها كما اتّفق.
قبل أن يفاجئني هذا الصوت بقليل كنتُ أذرع مسافة مترين جيئة وذهابا وأنا أفكّرُ في كلام حسينة، قد لا أكون رجلا، حسب أمّي، لأنّي بكيت بالأمس كالنساء وقد لا أكون بطلا أو فارسا في عينيّ حسينة لأنّ أنفي كبير وأحمر كأنف مهرج، ولأنّ قامتي لا تؤهلني لذلك أو لأنّ هناك عدم تناغم واضح بين اسمي وقامتي! عندما تذكّرتُ هذا، إزدادت عزيمتي على الإنتصار على هذا الصوت، وفكّرتُ في أنّ هذه هي معركتي التي يجب أن أنتصر فيها، رغمَ أنّ هناك عدم تكافؤ واضح بيني وبينه، فالصوت أخذني على حين غرّة ويبدو أيضا أنّه أطول منّي بكثير، وقد رجّحتُ أنّه يلوي عنقه ليصير وجهه سماء لي، أعرفهم جيدا طويلو القامة! وأعرف جيدا أيّ ثقة يكتسبونها مع مرور الوقت وكيف يتصرفون معنا ...
أعتقد أنّ الناس في المحطّة كانوا يسترقون النظر إليّ بتعجّب، نظراتهم كالسّهام، أحسّ بها تخترق جلدي، لا أدري إن كانَ انتباههم لي بسبب توتري الظاهر وصراعي مع هذا الصوت الغريب أم لقصر قامتي، أو ربّما كانوا ينظرون إلى هذا الصوت وهو يشدّني من قفاي، رجلاي معلقتان في الهواء وهو يهدّدني.
كنتُ أعصر عيناي أكثر كلما كان يقترب المترو، فتحتهما قليلا فلمحته وهو يتلوّى زاحفا نحوي كحنش عظيم، كانت أمّي ستدهشَ من هذا الحنش العظيم الذي يجوب أسفل العاصمة، كانت ستهرب ربّما وهي تردّد: يا سيدي عبد القادر الجيلاني! . . . وكانت ستجد حكاية من حكاياتها حول الأحناش لتحكيها لي. عندما انتهى أزيز فرامله، فتحت عينيّ ولم أصدّق أني انتصرت على هذا الصوت عندما رأيت عرباته أمامي تفتح أبوابها ليتدافع إليها الناس كالديدان أو كصغار الحنش! أما أنا فقد إستدرتُ نحو الحائط وهربتُ وأنا أكرر وأضحك: يا سيدي عبد القادر الجيلاني ...
-4-
كانت أمّي ستفضل دون شكّ، على ركوب الميترو الحديث، التجوّل بحايكها المرمّى في محلات بابا عزون أو احتساء القهوة وتبادل البوقالات عند صديقتها العلجة في شارع "عنّقني" في القصبة، غير بعيد من شارع "الهُريرات" الذي وُلدتْ بإحدى منازله. كانت أمّي بسيطة جدا، مليئة بالطيبة وبالحنو، لكنّها أخطأت في شيء واحد أو ربّما في شيئين! كانت تعتقد أن الأسماء هي مفاتيح الوجود وأنّها قصيرة القامة لأنّ اسمها " الهاوْية " وخوفا من أن أرث قصر قامتها سمّتني "الشامخ" لكنّ الأرض بقيت أقرب شيء لي، وكان الآخرون ينظرون إليّ دائما من عل.
-5-
- آه، أنظر إلى اليابانيين يا الشامخ، قصار القامّة لكنهم ينظرون إلى العالم من الأعلى (يرددّ محيوز، صديقي الوحيد الذي أفوقه طولا)
- لما لا نحاول الهجرة إلى اليابان إذن يا محيوز؟
- نعم لما لا؟ رغم أن عيوننا واسعة، ولا نجيد اللغة اليابانية.
هكذا قرّرنا بعد وقت أنْ نطلب تأشيرات إلى اليابان فقوبلت بالرفض، ثمّ تجرّأنا على التسلل إلى الميناء والاختفاء في إحدى البواخر اليابانية، لكنّنا وجدنا نفسينا في قسم تحقيق لشرطة الحدود، قُبض علينا وسُخر منّا وعُنّفنا، ولم يتوقّف إثنان من عناصر الشرطة عن الضحك من حكايتنا ومنّا، كانا يتلويان ويمسكان بطنيهما من الضحك، ثم أُطلقَ سراحنا وعُدنا نحتسي الشاي المنعنع في مقهى مالاكوف دون أن نحلم باليابان.
-6-
- الحياة ليست مربّعاً يا شميمخ
- كيف يا محيوز؟
- الحياة ليست طولاً وعرضاً.
أتخلّى عن التفكير في الحياة كمربّع عندما أستلقي ليلا فوق شبكة الصيد في قارب أبي، ألفّ سيجارتي، أتذكّر حسينة التي صدّتني وأغني:
" أنا في الهوى صيّاد/ جيت نصيّد صيّدوني".
أضحك وأبكي ... أتكوّر كدودة وأنام.
في الصباح وبعد أن أعلق في الشبكة كسمكة وأتخلّص منها بعد عناء، وقبل أن نتبادل أنا وأمي حوارنا المعتاد وتشبّهني بالسمكة الميّتة، أبادرها:
صحيح أمّي، كيف تفركُ الأسماك أعينها؟
* كاتب من الجزائر