تكشف مداولات القضية التي تنظرها حالياً محكمة بروكلين الفيدرالية بنيويورك، الكيفية التي يحتال بها المتداولون أو وسطاء تنفيذ الصفقات في سوق الصرف الأجنبي، لتحقيق أرباح ضخمة لمصارفهم وكذلك الحصول على عمولات كبيرة من هذه الصفقات لأنفسهم.
وحسب وكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية، فقد كشفت مداولات المحكمة وفي الجلسة التي عقدت يوم الجمعة، كيف تمكن رئيس وحدة الصرف الأجنبي في مصرف "إتش إس بي سي" البريطاني، مارك جونسون، في عام 2011 من حصد ملايين الدولارات في ثوان من خلال شفرة سرية مكونة من أربع كلمات فقط.
وحقق الوسيط جونسون من خلال هذه الشفرة 8 ملايين دولار لمصرفه في ثوان كما حصل مع زملائه على عمولات ضخمة. وحسب محامية الاتهام كارول سيبرلي، فإن مسؤول وحدة الصرف الأجنبي في "إتش أس بي سي"، مارك جونسون تمكن من تحقيق هذه الأرباح الضخمة من تنفيذ صفقة تحويل مالي بمبلغ 3.5 مليارات دولار إلى الجنيه الإسترليني.
وتشير وقائع المحكمة التي نشرتها معظم الصحف الأميركية، إلى أن الوسيط، مارك جونسون، طلبت منه شركة "كيرن انيرجي بي إل سي" للطاقة في ديسمبر/كانون الثاني من العام 2011 تحويل مبلغ 3.5 مليارات دولار إلى الجنيه الإسترليني.
لكن الوسيط جونسون قبل تنفيذ الصفقة أبلغ زملاءه في لندن وهونغ كونغ عبر شفرة قال لهم فيها "الساعة توقفت ـ The watch is off"، وهي كلمات رمزية تعني لهم أنه سينفذ صفقة تحويل ضخمة من الدولار إلى الإسترليني، وهو ما جعل زملاءه في قاعة التداول في الصرف الأجنبي بمصرف "إتش أس بي سي"، القيام بشراء الجنيه الإسترليني قبل الصفقة لرفع سعره.
وهو ما يعني عملياً أن المصرف كسب من صفقة التحويل، إذ إنه اشترى الإسترليني بسعر منخفض وباعه بسعر أعلى إلى الزبون، وهي في هذه الحالة شركة كيرن النفطية، ليحقق هذا الربح الكبير له ولمصرفه في ثوانٍ معدودة.
وبهذه الأسلوب وغيره من أساليب خرق عقود الثقة المالية والاحتيال، والذي يستخدمه الوسطاء وكبار المتعاملين في سوق الصرف العالمي، يتمكن الوسطاء من الاحتيال على الزبائن وتحقيق أرباح ضخمة لشركاتهم المالية ولهم في شكل عمولات يحصلون عليها من البنك أو الشركة المالية التي يعملون لحسابها.
وحسب رواية ممثل الاتهام، بمحكمة بروكلين الفدرالية التي تنظر في القضية، واستمعت إلى شريط مسجل بهذه الشفرة، فإن الوسيط مارك جونسون كان في نيويورك وقت تنفيذ الصفقة، فيما كان زميله الذي يرأس وحدة الصرف الأجنبي في لندن، ستيورات سكوت، ثم تحادث هاتفياً أيضاً مع متعاملين آخرين في هونغ كونغ.
ويرى كثير من تجار الصرف والوسطاء في سوق "وول ستريت"، أن هذه المعلومات الداخلية التي تخرق الثقة تعد من الممارسات اليومية في السوق.
وحسب إحصاءات بنك التسويات الدولية في بازل بسويسرا، فإن حجم سوق الصرف الأجنبي في العالم يقدر بنحو 5.1 ترليونات دولار يومياً في عام 2016. ويقول بنك التسويات الدولية، في تقرير عن سوق الصرف، إن حجم السوق تقلص بنسبة 5.5% في العام الماضي 2016 من حجمه في عام 2015 البالغ 5.4 ترليونات دولار.
ويرى بنك التسويات أن تقلص السوق حدث كنتيجة مباشرة للتحقيقات المكثفة التي أجرتها جهات الرقابة الإشرافية والقانونية في أميركا وأوروبا خلال الأعوام الماضية، وكشفت عن عمليات الاحتيال وتبادل "المعلومات الداخلية" التي يمارسها الوسطاء والمتداولون، وتكون نتيجتها خسارة الزبائن من شركات ودول في عمليات التحويل المالي الضخم من عملة إلى أخرى.
وسوق الصرف الأجنبي، في الواقع سوق شرعي ومهم جداً، في تيسير عمليات المتاجرة في السلع والخدمات بين دول العالم والشركات، لأن من دونه ستكون هناك صعوبة في تنفيذ الصفقات الضخمة وتسويتها. وهو بالتالي ليس سوق احتيال في حد ذاته، ولكن سلوكيات بعض الوسطاء والمتداولين هي التي تخلق عمليات الاحتيال في السوق.
وما يشجع على عمليات الاحتيال في سوق الصرف العالمي أن المتاجرة فيه تتم بنسبة عالية من الأموال المقترضة مقارنة بالأموال التي يملكها المضارب. وهذه الأموال المقترضة المستخدمة في المضاربة بسوق الصرف غير مسجلة على أساس أنها ديون.
ويقدر بنك التسويات الدولية أن هناك ديوناً غير محسوبة في النظام المصرفي يتم استخدامها في المضاربة تقدر بمبالغ تراوح بين 13 إلى 14 ترليون دولار. وهذه القروض لا تظهر في الجداول المالية للبنوك والشركات المالية المضاربة في سوق الصرف.
كذلك يشجع عمليات الاحتيال في سوق الصرف أنه سوق لا تحكمه إجراءات مركزية واحدة في العالم، كما أن المتاجرة فيه تتم بنسبة قروض عالية مقارنة بالأموال الفعلية التي يملكها المضارب أو المتداول، فعادة ما يعتقد المتداول أنه سيحقق مكاسب سريعة.
ولشرح هذه النقطة، من الناحية العملية يمنح الوسيط المالي، عادة مصرف استثماري أو شركة مالية، المتداول، الذي يقوم عملياً بالمضاربة لصالحه قرضاً بنسبة 1:50 أو 1: 100 أو واحد إلى 200، وذلك حسب العملة المتداول بها. في حال واحد إلى 100، فإن المتداول يحتاج إلى وضع 1000 دولار فقط، لكي يتاجر أو يضارب بـ 100 ألف دولار.
وعادة ما يضع الوسيط من بنك او شركة مالية هذه المبالغ إلكترونياً في حساب المتداول يومياً ثم يسحب المبلغ في نهاية اليوم. وبنيت هذه النسبة على أساس أن حركة التغير في سعر العملات اليومي لا يفوق واحداً في المائة في الغالب الأعم، إلا في الحالات النادرة التي تتحوط لها المصارف.
وهذه النسبة العالية من المضاربة بالاقتراض تغري المتداولين على المغامرة أملاً في تحقيق الكسب السريع وأن يصبحوا في أيام مليونيرات. وهو شيء طبيعي ويحدث يومياً وسط المتداولين في سوق الصرف الأجنبي، أن يتحول المتداول في ساعات أو يوم من شخص لا يملك سوى آلاف الدولارات إلى مليونير نسبة لحجم السوق الضخم وكمية الأموال الضخمة التي يتم اقتراضها بهدف المضاربة.
ويستفيد الوسطاء من مصارف وشركات مالية في تحقيق أرباحهم من التجار والدول التي لا تملك الخبرات الكافية في تجارة النقد لتحقيق سعر صرف مجزٍ من تحويلاتها المالية وتلجأ للوسطاء.
فعادة ما ينفذ الوسطاء في المصارف هذه الصفقات بشراء عملة التحويل من مصارفهم وإطلاع المتداولين قبل عملية الشراء، أنهم سينفذون صفقة ضخمة عبر شفرات معينة يستخدمونها فيما بينهم، وبهذه الطريقة يربح البنك من عمليات التحويل، كما يستفيد المتداول أو المضارب من العمولة التي يحصل عليها من البنك.
بهذه الطريقة تتم عمليات الاحتيال في سوق الصرف الذي لا تحكمه إجراءات مركزية واحدة وتتم المتاجرة فيه إلكترونياً، أي أن الأموال تحول من حساب بعملة ما مثل الدولار إلى حساب آخر بالإسترليني إلكترونياً وفي ثوان معدودة.
وتكشف التحقيقات التي أجريت خلال الأعوام الماضية، حول أساليب الاحتيال في سوق الصرف، أن الطريقة والمواصفات التي تعين بها المصارف الاستثمارية موظفي التداول والمتاجرة، والذين يضاربون لصالحها في أوراق الصرف والفائدة والسلع، هي ذات المواصفات التي تصنع منه مجرماً، إذ إن المصارف تريد شخصاً عنيداً مقامراً يتعدى الإشارات الحمراء ولا يلتزم بمعايير مهنية أو أخلاقية سوى معيار تحقيق أكبر نسبة من الإرباح للبنك.