04 نوفمبر 2024
كيمياء السعادة
محمود الرحبي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
في كتابه "العاقل.. تاريخ مختصر للنوع البشري"، الذي ترجمه العُمانيان، حسين العبري، وصالح الفلاحي، يربط يوفال حاراري (وُلد في 1976) السعادة البشرية بعمليةٍ داخليةٍ في جسم الإنسان، أطلق عليها "النظام البيوكيميائي في الجسم"، عُدّت "ثورة" في فهم حالةٍ وجوديةٍ، لطالما انشغل الباحثون والعلماء بمعرفة كنهها، وهي السعادة. وهذه المادّة البيولوجية، كما يرى الباحث، لا علاقة لها بالمِلكية، أو بتحقيق الطموح من سواه؛ بل هي مادّة في الجسم، قد يمتلكها شخصٌ زاهدٌ فقير، وقد يُحرَم منها آخرُ لديه كل شيءٍ، يمكن تصوّره، ولكنْ قُدّر له أن يعيش تعيسا.. ليس نتيجة حرمانه من مادّيات الحياة، وإنما لأن منسوب هذه المادة الكيميائية قليلٌ جدّا في جسمه، ما يجعله دائما بعيدا عن الفرح والسعادة.
ولخّص الباحث مكونات هذه المادة الكيميائية، بقوله: "هو نظام معقّد من الأعصاب والخلايا العصبية، وأنواع شتى من المواد البيوكيميائية، مثل السيروتونين والدوبامين والأوكسيتوسين"، وهي موزّعة بكيفيةٍ نسبيةٍ عند البشر، لأنّ عملية التطور شكلتنا كي لا نكون شديدي التعاسة أو شديدي الفرح.
وذهب مؤلف هذا "التاريخ المختصر للنوع البشري" إلى أنّ ثمّة، مثلاً، أحاسيس مرتبطة بالجنس، جعلت وجودنا يزيد فوق كوكب الأرض؛ فلو كانت هذه الأحاسيس "زائدةً" لنسيَ الناس الطعام، وانشغلوا بالجنس، وبالتالي انقرضوا، ولو كانت ناقصةً كذلك عن الحدّ لما أقبل الناس على التزاوج، وانقرض، بالتالي، الجنس البشري (!). ولكنّ هذه الأحاسيس موزّعة في الكون بمقدارٍ يضمن هذا التوازن.
وسيظلّ الشخص الكئيب تعيسا، بحسب المؤلف، "حتى لو فاز بملايين الدولارات صباحا، وحتى لو عَقد صلحا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد الظهر، واجتمع، في المساء، مع ابنه الذي اختفى منذ سنة "سيظلّ غيرَ قادرٍ على تجربة أي درجةٍ من السعادة، تفوق النسبة الموجودة في جسمه؛ لأنّ عقله، ببساطة، غير مهيأ للابتهاج مهما حدث". كما أورد الباحث، في كتابه، أمثلة اجتماعية، إذ سعى إلى استكناه بحوثٍ ميدانيةٍ ومقارناتٍ من واقع الحياة المعاشة. ودعم نظريته العلمية بواقع سوسيولوجي حي؛ يقول في إحدى فقرات الكتاب "فكّرْ لحظةً في أسرتك وأصدقائك، أنت تعرف بعض الأشخاص الذين يحافظون نسبيا على مرحهم مهما أصابهم. وهناك آخرون دائما مستاؤون، مهما أعطاهم العالم من عطايا".
لا يمكن أن تتغير بيوكيميائيتنا، مع الفرح والعطايا، بصورة نهائية، بل "تلكزها" كل تلك الأفراح والأتراح قليلا، لحظة عابرة، ثم يعود الإنسان إلى حالته الطبيعية الثابتة. ولكنْ ثمّة نتائج يرى الباحث أنها مستقرة ومثبتة، وهي، مثلا، أن المتزوجين أكثر سعادةً، في المتوسط، من العزّاب. كما قال الباحث إنه ليس للأحداث التاريخية أي تأثيرٍ في بيوكيمياء أجسامنا. وممّا جاء في مؤلفه: "قارنْ بين فلّاح فرنسي من القرون الوسطى ومصرفي باريسي معاصر.. الفلاح يسكن في كوخٍ طيني لا يدفع عنه البرد، ويطلّ على حظيرة، في حين أن المصرفي يعيش في شقةٍ بهيجةٍ تحتوي عل شتى أنواع التكنولوجيا الحديثة، في ناطحة سحابٍ مطلة على الشانزليزيه".. ولكن ذلك كله لا يعني شيئا للباحث في مقاييس السعادة، لأنّ الأكواخ الطينية أو الشقق العالية في ناطحات السحاب لا تحدّد أمزجتنا، بل ما يحدّدها هو "السيروتونين"، "فحينما ينتهي الفلاح القروسطي من بناء كوخه الطيني، يفرز دماغه السيروتونين ليأخذه إلى درجة معينة من السعادة. وفي 2014، عندما يسدّد المصرفي الدفعة الأخيرة لامتلاك شقته البهيجة، يفرز دماغه كمية السيروتونين نفسَها".. بذلك لن يكون المصرفي أسعدَ، ولو بقدرٍ قليل، من جد جَدّه، ساكنِ الكوخ.
ومن ذلك كله، انتهى الكاتب إلى خلاصةٍ مهمة، مفادها بأن "السعادة تبدأ من الداخل"، لذلك، المال والحالة الاجتماعية والعمليات التجميلية والمنازل الجميلة والمناصب القيادية.. لا شيء من ذلك سيجلب السعادة التي تأتي، وفق الباحث، من داخلك، أي من كمية السيروتونونين والدوبامين والأوكسيتوسين. ويستشهد مؤلف هذا البحث المثير برواية ألدوس هكسلي "عالم جديد شجاع"، التي يبدو عالمها وحشيا لأغلب القراء، لكنّ الكل سعداء طوال الوقت (طوال زمن الرواية). وفي هذا السياق، ذهب الكاتب إلى أنّ نظرة هكسلي إلى المستقبل أكثر واقعيةً من نظرة جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984".
وذهب مؤلف هذا "التاريخ المختصر للنوع البشري" إلى أنّ ثمّة، مثلاً، أحاسيس مرتبطة بالجنس، جعلت وجودنا يزيد فوق كوكب الأرض؛ فلو كانت هذه الأحاسيس "زائدةً" لنسيَ الناس الطعام، وانشغلوا بالجنس، وبالتالي انقرضوا، ولو كانت ناقصةً كذلك عن الحدّ لما أقبل الناس على التزاوج، وانقرض، بالتالي، الجنس البشري (!). ولكنّ هذه الأحاسيس موزّعة في الكون بمقدارٍ يضمن هذا التوازن.
وسيظلّ الشخص الكئيب تعيسا، بحسب المؤلف، "حتى لو فاز بملايين الدولارات صباحا، وحتى لو عَقد صلحا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد الظهر، واجتمع، في المساء، مع ابنه الذي اختفى منذ سنة "سيظلّ غيرَ قادرٍ على تجربة أي درجةٍ من السعادة، تفوق النسبة الموجودة في جسمه؛ لأنّ عقله، ببساطة، غير مهيأ للابتهاج مهما حدث". كما أورد الباحث، في كتابه، أمثلة اجتماعية، إذ سعى إلى استكناه بحوثٍ ميدانيةٍ ومقارناتٍ من واقع الحياة المعاشة. ودعم نظريته العلمية بواقع سوسيولوجي حي؛ يقول في إحدى فقرات الكتاب "فكّرْ لحظةً في أسرتك وأصدقائك، أنت تعرف بعض الأشخاص الذين يحافظون نسبيا على مرحهم مهما أصابهم. وهناك آخرون دائما مستاؤون، مهما أعطاهم العالم من عطايا".
لا يمكن أن تتغير بيوكيميائيتنا، مع الفرح والعطايا، بصورة نهائية، بل "تلكزها" كل تلك الأفراح والأتراح قليلا، لحظة عابرة، ثم يعود الإنسان إلى حالته الطبيعية الثابتة. ولكنْ ثمّة نتائج يرى الباحث أنها مستقرة ومثبتة، وهي، مثلا، أن المتزوجين أكثر سعادةً، في المتوسط، من العزّاب. كما قال الباحث إنه ليس للأحداث التاريخية أي تأثيرٍ في بيوكيمياء أجسامنا. وممّا جاء في مؤلفه: "قارنْ بين فلّاح فرنسي من القرون الوسطى ومصرفي باريسي معاصر.. الفلاح يسكن في كوخٍ طيني لا يدفع عنه البرد، ويطلّ على حظيرة، في حين أن المصرفي يعيش في شقةٍ بهيجةٍ تحتوي عل شتى أنواع التكنولوجيا الحديثة، في ناطحة سحابٍ مطلة على الشانزليزيه".. ولكن ذلك كله لا يعني شيئا للباحث في مقاييس السعادة، لأنّ الأكواخ الطينية أو الشقق العالية في ناطحات السحاب لا تحدّد أمزجتنا، بل ما يحدّدها هو "السيروتونين"، "فحينما ينتهي الفلاح القروسطي من بناء كوخه الطيني، يفرز دماغه السيروتونين ليأخذه إلى درجة معينة من السعادة. وفي 2014، عندما يسدّد المصرفي الدفعة الأخيرة لامتلاك شقته البهيجة، يفرز دماغه كمية السيروتونين نفسَها".. بذلك لن يكون المصرفي أسعدَ، ولو بقدرٍ قليل، من جد جَدّه، ساكنِ الكوخ.
ومن ذلك كله، انتهى الكاتب إلى خلاصةٍ مهمة، مفادها بأن "السعادة تبدأ من الداخل"، لذلك، المال والحالة الاجتماعية والعمليات التجميلية والمنازل الجميلة والمناصب القيادية.. لا شيء من ذلك سيجلب السعادة التي تأتي، وفق الباحث، من داخلك، أي من كمية السيروتونونين والدوبامين والأوكسيتوسين. ويستشهد مؤلف هذا البحث المثير برواية ألدوس هكسلي "عالم جديد شجاع"، التي يبدو عالمها وحشيا لأغلب القراء، لكنّ الكل سعداء طوال الوقت (طوال زمن الرواية). وفي هذا السياق، ذهب الكاتب إلى أنّ نظرة هكسلي إلى المستقبل أكثر واقعيةً من نظرة جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984".
محمود الرحبي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
محمود الرحبي
مقالات أخرى
28 أكتوبر 2024
21 أكتوبر 2024
14 أكتوبر 2024