يُعَدّ الانخراط بالمجتمعات الجديدة في بلدان اللجوء تحدياً كبيراً أمام كثيرين. ويبدو أنّ اللاجئين من فئة الشباب في ألمانيا نجحوا في ذلك، وقد التحق عدد كبير منهم بسوق العمل وبالجامعات.
جاءت التقارير الصادرة عن المكاتب الاتحادية الألمانية، من بينها مكتب الإحصاء الاتحادي لتؤكد ما قام به اللاجئون الشباب، منذ وصول مئات الآلاف منهم في عام 2015 إلى البلاد، من خطوات عملية لمعادلة شهادتهم. ففي ألمانيا، يتوجّب على من أنهى تعليمه في بلد آخر ويريد متابعة دراسته أو العمل فيها، أن يحصل على اعتراف بشهاداته وبمؤهلاته، وذلك في ظل الإجراءات المعقدة، على الرغم من حاجة الشركات الألمانية إلى عمّال مهرة من الأجانب لسد النقص.
وكشف مكتب الإحصاء الاتحادي في ألمانيا عن ارتفاع بنسبة 20 في المائة في معاملات إجراءات الاعتراف الكلي الخاصة بالشهادات الأجنبية التي تمّت معادلتها في عام 2018 بالمقارنة بعام 2017، وهو ما يمكن عدّه أداة لدمج الموظفين، من أطباء وممرّضين ومدرّسين ومهندسين إلى جانب أصحاب الشهادات التقنية الذين من الممكن رفع تأهيلهم في الشركات، وفق ما أشارت إليه صحيفة "برلينر تسايتونغ" الألمانية. أما إذاعة "دويتشه فيله" الألمانية فقد بيّنت أنّ عدد الشهادات المعدّلة بلغ نحو 36 ألفاً و400 شهادة، من بينها نحو 4800 شهادة لسوريين احتلوا الصدارة ليتبعهم آخرون من أميركا الجنوبية وأفريقيا. ولفتت إلى أنّ نسبة 61 في المائة من تلك الشهادات كانت في القطاعات الطبية والصحية عموماً، فيما زادت معادلات الشهادات المهنية بنسبة 72 في المائة بالمقارنة بعام 2017. في الإطار نفسه، كشف تقرير نشرته الدائرة الألمانية للتبادل الأكاديمي بالتعاون مع المركز الألماني للبحوث في التعليم العالي أنّ السوريين يشكّلون بالفعل سادس أكبر مجموعة من الأجانب في الجامعات الألمانية وقد ارتفع عددهم بنسبة 228 في المائة بين عامَي 2015 و2018.
وقد بيّن تقرير صدر أخيراً عن منظمة الإغاثة الكاثوليكية أنّ المهاجرين بدأوا يحققون نتائج أفضل في سوق العمل، موضحاً أنّ عدد العاملين من بين اللاجئين تضاعف منذ عام 2017 ليصل إلى 312 ألفاً في إبريل/ نيسان 2019، الأمر الذي خفّف على الدولة حجم النفقات الاجتماعية، حتى أنّ مفوّضة شؤون الاندماج في الحكومة الاتحادية أنيته فيلدمان ماوس رأت في ذلك نجاحاً مؤكداً، إذ إنّ ما تحقق كان أفضل من توقعات خبراء سوق العمل، بحسب ما ذكرته صحيفة "راينيشه بوست" الألمانية أخيراً. يُذكر أنّ تقريراً للمنظمة نفسها صدر في عام 2017 حول تأثير الهجرة على الواقع المالي، رأى أنّ هؤلاء اللاجئين سوف يمثّلون عبئاً إضافياً في حال عدم الاستفادة من قدراتهم في سوق العمل.
الأرقام المستجدّة لم تأتِ من فراغ إنّما نتيجة جهود ومثابرة من قبل الشباب اللاجئين بهدف تحقيق أحلامهم وتأمين مستقبلهم في ألمانيا، بعدما حالت الظروف السياسية والحروب في بلدانهم دون بلوغ مبتغاهم وإرضاء طموحاتهم وإبراز طاقاتهم. هذا لسان حال عماد، وهو لاجئ سوري شاب فضّل عدم الكشف عن شهرته لـ"العربي الجديد"، وقد نال أخيراً شهادة ماجستير في المعلوماتية من جامعة شتوتغارت الألمانية. ويقول إنّ "إجازتي الجامعية في سورية ومهاراتي باللغة الإنكليزية بالإضافة إلى المستوى المطلوب في اللغة الألمانية الذي حصلت عليه نتيجة متابعتي دورات لغة عند وصولي إلى البلاد، كلّ ذلك ساهم في نيلي شهادتي قبل شهرَين. وقد حصل بالتالي على وظيفة في إحدى شركات برمجة الكومبيوتر، وأنا ممتنّ لكلّ ما قدمته لي ألمانيا منذ وصولي إلى البلاد في عام 2015". واليوم، يتهيّأ عماد لترتيب شقته الجديدة وتحقيق أمنية والدته بالزواج وتكوين أسرة.
أمّا صديقه أسامة الذي فضّل كذلك عدم الكشف عن اسم شهرته لـ"العربي الجديد"، فيحمل شهادة في الهندسة المدنية من سورية، وقد تسجّل لشهادة ماجستير قبل عامَين ونصف العام ليقدّم أخيراً رسالته باللغة الإنكليزية، "فأنا لم أكن ملزماً بمستوى اللغة الألمانية الخاص بالطلاب الجامعيين للاعتراف بمؤهلاتي المهنية الأجنبية. واليوم، حصلت على فرصة عمل في شركة المياه التابعة لولاية بادن فورتمبرغ". ويخبر أسامة عن صديقه طارق وهو "طبيب كان يمارس المهنة في سورية قبل الحرب، ولجأ إلى ألمانيا مع آخرين في عام 2015". يضيف أنّ "طارق تمكّن من النجاح في اختبار الكفاءة الذي يصنَّف من أصعب الامتحانات نظراً إلى اشتماله على مصطلحات طبية باللغة الألمانية، واليوم هو طبيب مساعد في أحد مستشفيات مدينة بريمرهافن".
أفاد تقرير أعدّته غرفة التجارة والصناعة الألمانية ونُشر في أغسطس/ آب الماضي، بأنّ 16 في المائة من الشركات الألمانية تعمد إلى تدريب اللاجئين بعدما كان الأمر مقتصراً على سبعة في المائة فقط قبل عامَين. وأوضحت غرفة التجارة والصناعة أنّ ثمّة 1.3 مليون لاجئ متدرّب في ألمانيا حالياً، يعملون بمعظمهم في مجال البناء والنقل والمطاعم ويظهرون تجاوباً كبيراً في التدريب على الرغم من النقص في إتقانهم اللغة الألمانية، فيما القطاعات الاقتصادية تواجه صعوبة في سدّ أماكن التدريب الشاغرة كلها إلى جانب حاجة كبيرة إلى اليد العاملة.
نزار لاجئ سوري آخر، يمثّل نموذجاً من الشباب الذين استطاعوا الانخراط في المجتمع والاندماج مبكراً. يقول نزار الذي فضّل عدم الكشف عن شهرته لـ"العربي الجديد": "وصلت إلى ألمانيا في صيف عام 2015 خلال واحدة من موجات لجوء على خلفية سياسة الترحيب التي كانت تعتمدها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل". يضيف: "وقد مكّنتني شهادتي الجامعية في اللغة الإنكليزية من تدبّر أمري والاندماج أسرع من غيري في المجتمع، خصوصاً أنّني كنت عازماً على تعلم اللغة الألمانية. وبالفعل رحت أتعلّمها قبل الموافقة على طلب لجوئي، وقد أنهيت في أربعة أشهر المرحلة الأولى مستفيداً كذلك من منحة على خلفية برنامج توأمة ما بين المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين وجامعة بريمن والهيئة الألمانية للتبادل العلمي (داد). وفي مرحلة لاحقة، تمكّنت من الحصول عل مقعد طالب في اختصاص العلوم الاجتماعية، وأنا اليوم في صدد التحضير لخوض امتحاناتي قبل المباشرة بكتابة رسالة الإجازة". في موازاة ذلك، يسعى نزار إلى الحصول على فرصة عمل بدوام كامل، علماً أنّه يعمل حالياً بدوام جزئي في جمعية تعنى بتقديم الخدمات الاجتماعية، "وذلك لأتمكّن من لمّ شمل خطيبتي الموجودة في سورية، فالقانون المعدّل يسمح لي بذلك نتيجة ما حقّقته حتى اليوم".
في السياق، صرّحت الباحثة الاجتماعية الألمانية في مجال الهجرة كلوديا ديهل، في حديث صحافي، بأنّ الطلاب المهاجرين، ومنهم من هو حاصل على حقّ اللجوء، لا يعرفون حقيقة نظام التعلم المزدوج ويختارون عادة اختصاصات من قبيل الطب والقانون والاقتصاد. وأخيراً، بعد تعاطي إدارات الجامعات مع التنوّع المتزايد في جنسيات الطلاب، بات ثمّة تركيز على ما يعرف بمكاتب الاستشارة والتوجيه الأكاديميَين للوقوف على مشاكل الطلاب وإرشادهم لتحسين قدراتهم التعلمية والتخفيف من حال الارتباك لديهم فتكون دراستهم أكثر تنظيماً. وعن فشل الطلاب المهاجرين في الجامعات، شرحت ديهل أنّ الخلفية الاجتماعية لهؤلاء بالإضافة إلى اللغة والعقبات المالية من أكثر الأسباب وضوحاً لمغادرة هؤلاء مقاعد الدراسة.
تجدر الإشارة إلى أنّ الاعتراف بالشهادات الجامعية الأجنبية في ألمانيا، خصوصاً من البلدان العربية، يواجه عقبات عدّة من بينها تصديقها ودعمها بالمستندات المطلوبة وترجمتها إلى الألمانية، بالإضافة إلى إفادة عن مستويات اللغة في معاهد معترف بها. ومن المفترض أن يُقدّم كل ذلك قبل ثمانية أسابيع من بدء فصل دراسي، ليتمكّن الطالب من الحصول على قبول جامعي. يُذكر أنّ 3800 طالب لاجئ التحقوا بالفصل الشتوي لعام 2018-2019 بحسب بيانات مؤتمر رؤساء الجامعات، فيما شارك 5300 آخرون في نشاطات توجيهية تحضيرية للانخراط في الجامعة.