يشكّل الشاعر والسياسي الفرنسي ألفونس دو لامارتين Alphonse de Lamartine، الذي عاش ما بين 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1790 و28 فبراير/ شباط 1869 أحد أهم الأضلاع الأساسية في أدب الرحالة الأوروبية، والمغامرات الناضجة غير الموجهة التي قام بها رحالة من عيار ثقيل مثل لامارتين وغوتييه وفلوبير وديدييه وغيرهم من كبار الأدباء والمفكرين والسياسيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
وهي الرحلات التي سيكون لها ما بعدها، إذ ستعتمد كخارطة طريق من قبل الإدارة الاستعمارية الفرنسية أو الإنكليزية لفهم هذا الجزء من العالم، الذي ستهزه ويلات نهاية القرن التاسع عشر وحروب القرن العشرين، وما رافق ذلك من حملات شرسة لتغيير وجه المنطقة بشكل تام، كان أحد مظاهرها الأكثر فداحة والمستمرة إلى اليوم إقامة دولة الاحتلال بعد نكبة 1948 وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، ودخول المنطقة عموماً في مساومات وفرض وصاية تحصد نتائجها اليوم في عالم عربي ممزق وبلا قرار.
هروب من فرنسا
في عام 1831 كان لا مارتين اسماً مشهوراً في فرنسا وفي أوروبا، وقد حدث كل ذلك بعد أن أصدر ديوانه الأول "التأملات" سنة 1830، ولم يكتف هذا الأرستقراطي بالحظوة الأدبية التي نالها، بل تجرأ على المجال السياسي وتقدم للانتخابات البرلمانية لكن الحظ لم يحالفه، ونتيجة للإخفاقات السياسية المتوالية، فكر في الهروب من ذلك الجو الفرنسي الخانق، وحزم حقائبه وتوجه إلى الشرق في رحلة ربما أعدّ لها من قبل أو فكر فيها على الأقل.
تتميّز رحلة لامارتين إلى الشرق التي قام بها عام 1832 بقدرتها على التدقيق في الكثير من التفاصيل، وسرد الوقائع وتدوين المشاهدات دون ادعاء بطولة ما، لكن الجامع بينه وبين الرحالة الأوروبيين الآخرين هو العودة إلى الزمن الأول أو محاولته، والبحث عن آثار المسيحية من خلال الشواهد والمدن والقرى في فلسطين، وصولاً إلى بيت المقدس.
وليس غريباً أن نجد أن لامارتين نفسه كان يحلم من خلال رحلته هذه إلى الشرق، وإلى فلسطين تحديداً، بـ "الاستحمام في بحار من الرمال والعبور في سفينة الصحراء". ولقد تيسر له ذلك تقريباً عندما سافر من بيروت رفقة قافلته إلى فلسطين على صهوات الخيول، كان هدفه الأوحد عبور تلك الطرق المقدسة من الهضاب والتلال والجبال والمنحدرات وصولاً إلى أريحا وحيفا وجبل الكرمل وانتهاء بالقدس واقتفاء أثر المسيح.
في سنة 1833 سيكمل رحلته إلى دمشق ومنها إلى إسطنبول، ثم عاد إلى فرنسا، لكنه سيقوم برحلة ثانية إلى تركيا بعد حوالي عشرين سنة، وبالضبط في سنة 1850، حيث سيستقر في إزمير، وسيباشر خطة زراعية بعد أن منحه السلطان العثماني مساحة من الأرض لتنفيذ مشروعه.
وتلك الإقامة التركية ستؤثر فيه كثيراً، قبل أن يعود مرة أخرى إلى فرنسا، حيث سيفقد كل مكتسباته المادية، وسيجد نفسه بلا دخل ولا سبل عيش، بعد أن جرد من أملاكه، ليعيش في أخريات حياته على إعانة من الدولة قبلها على مضض، هو الذي عرفت عنه نصرته للثورة الفرنسية والمساهمة بشكل فعال فيها في عام 1848. غير أن كل تضحياته تلك لم تشفع له، إذ هوجم بضراوة من قبل الثوريين لقبوله هبة للعيش من الدولة.
بداية الرحلة
يكتب ألفونس دو لامارتين وهو يستعد للقيام برحلته من بيروت إلى عكا، في أكتوبر/ تشرين الأول 1832 "امتطيت جوادي، كانت القافلة مؤلفة من ثمانية عشر جواداً مع الأمتعة تسير على التوالي، ونمت في الخان الذي يقع على مبعدة ثلاث ساعات من بيروت، بعد أن سلكنا الطريق ذاتها التي كتبت عنها عند الذهاب إلى الليدي سانهوب، وغادرت في اليوم التالي عند الساعة الثالثة صباحاً، واجتزت في الخامسة نهر تامور وتامريز القديمة، المحفوفة بزهور الغار الوردية، وتتبعنا الساحل الرملي الذي كان موجه يغسل بزبده أقدام جيادنا حتى وصلنا إلى صيدا أو صيدون القديمة التي بقيت كظل للمدينة المهدمة، وقد فقدت حتى اسمها، ولم يبق أي أثر من عظمة ماضيها".
يتميز لامارتين بصوره الأخاذة وقدرته على سبك التفاصيل ودقة الوصف، فبعد خروجه من صيدا، سيمضي في الطريق مسافة من الزمن، قبل أن يدرك القافلة الليل، وهنا ستنصب سرادقها، يصف هذه اللحظة الساحرة التي شكلت زمن نصب الخيام وجمعها في الفجر، وقد خلقت لديه تداعياً جميلاً عن معنى الحياة نفسها، حياة الأفراد وربما الشعوب أيضاً، والتي تشبه خيمة تنصب، وعندما يحين وقت الأفول تطوى وتجمع، ويغادر هؤلاء المكان، كأنهم لم يكونوا أبداً ولم يصخبوا أو يوقدوا ناراً أو يحلموا حتى.
يكتب "في الصباح، بينما يلجم العبيد الجياد، ويهزون الوتد الذي يستخدم كعمود، سقطت وانزلقت القماشات المشدودة التي كانت تغطي عائلة كاملة من المسافرين، وهوت على الأرض وتكورت في كومة صغيرة من القماش، فوضعها الجمّال تحت ذراعيه وعلقها على سرج بغلته، فلم يبق في الموضع الفارغ حيث كنا قبل قليل، والذي كان قائماً كمنزل دائم، سوى نار صغيرة مهجورة ما تزال تدخن، ولكنها سرعان ما خمدت. إنها صورة حقيقية مؤثرة، وحية عن الحياة، غالباً ما يذكرها الإنجيل، وقد صعقتني بقوة في كل مرة تجلت لناظري".
سيغادر لامارتين بعد ذلك ويصل إلى سهل صور، قبل أن يخرج منه "كان سهل صور يمتد خلفنا وبإمكان المرء أن يميز على نحو مشوش الإهاب الرملية الصفر والمذهبة التي ترسم حدوده الفاصلة بين البحر واليابسة، كنا نرى عتمة صور عند الطرف القصي لأحد النتوءات، والمصادفة وحدها التي أضاءت بلا ريب النور على أطلالها، هذا النور الذي يخاله المرء من بعيد فناراً، ولكنه كان فناراً يدل على وحدتها وهجرتها، وهو فنار لا يرشد أي مركب، ولا يضيء إلا عيوننا، ويدعونا لإلقاء نظرة رثاء على أطلالها... فيا لها من أشياء سمح لي الرب برؤيتها على أرضه، إنها بوابة سامية أدخل منها في اليوم التالي إلى أرض المعجزات، على أرض الشهادة التي ما زالت مطبوعة بالقديم وبالجديد من الصلات بين الرب والإنسان".
مشقة السير
يضع لامارتين قارئه ضمن أجواء الرحلة، وهي رحلة لم تكن ميسرة وسهلة على ظهور جياد. لقد كان الأمر يتطلب الكثير من الصبر والجلد، فالسفر كما يقال في المأثور "قطعة من الجحيم".
يكتب "كانت جيادنا المرهقة بعد مسيرة ثلاث عشرة ساعة تضع ببطء أقدامها المحفورة بالحدوات على الصخور الحادة واللامعة التي تشكل وحدها الطريق نحو سورية، وهي عبارة عن تدرجات غير منتظمة من الحجر، لا يمكن لأحد من أوروبا التجرؤ على السير عليها بأية دابة مهما كانت.أما نحن، فكنا مثقلين بالفتور، ومندهشين من عظمة المشهد والذكريات المتسارعة بالنهار.
كنا نسير بصمت على الأقدام، ممسكين بجيادنا من اللجام، نلقي تارة نظرة على هذا البحر الذي سيكون علينا اجتيازه لرؤية أنهارنا وجبالنا، وتارة على القمة السوداء الطويلة والخالية، فوق تعرجات جبل الكرمل الذي بدأ يرتسم عند الحدود الأخيرة للأفق".
نقد للرحالة السابقين
تنطوي رحلة لامارتين على توجيه النقد واللوم إلى الرحالة الفرنسيين الأسبقين الذين أوغلوا في كثير من المبالغات، واعتبرهم من وجهة نظره منحازين وغير أمناء في نقل الوقائع والحقائق، وذلك من خلال التجني، ليس على البشر وحدهم، بل أيضاً على الجغرافيا، وذمها بشكل لا يصدق، وكأن هذه المنطقة من فلسطين لا شيء فيها غير الرمم والمندرس من الديار.
يقول "وفي اليوم الثاني عشر استأنفنا مسيرنا من أول ضياء للنهار، واجتزنا أولاً رابية مزروعة بأشجار الزيتون وبعض أشجار البلوط الأخضر المنتشرة في مجموعات أو أدغال تقضمها أسنان الماعز والجمال. وبينما كنا على سفح الرابية تجلت أمامنا الأرض المقدسة، أرض كنعان بأكملها، وكان انفعالنا عظيماً ممتعاً وعميقاً.
لم تكن تلك الأرض العارية الصخرية الجدباء ولا تلك المجموعة من الجبال المنخفضة الجرداء التي قدموها لنا بوصفها الأرض الموعودة استناداً إلى قول بعض الكتاب المنحازين أو بعض الرحالة المتعجلين للوصول أو الكتابة، والذيم لم يروا من البقاع الواسعة المنتشرة لاثنتي عشرة قبيلة سوى ممر الصخور الواقع بين شمسين، والذي يقود من يافا إلى مدينة بيت المقدس، ولأني كنت مخدوعاً بهم فإني لم أتوقع رؤية شيء سوى ما وصفوه في رحلاتهم.
أي بلد بلا امتداد أو أفق، بلا وديان أو سهول، بلا أشجار ولا ماء، أي أرض تطغى عليها الكثبان الرمادية أو البيضاء، حيث يختبئ العربي اللص في عتمة المسالك لسلب المارة، وكان هذا ربما حال الطريق من مدينة القدس إلى يافا، ولكن هذه هي يهوذا كما رأيناها في اليوم الأول من أعلى الروابي التي تحل بسهل عكا وكما وجدناها من الجانب الآخر لروابي زابولون أو الناصرة، ومن أسفل جبل حرمون أو جبل الشيخ أو من جبل الكرمل وكما طفنا بها، بامتدادها وتنوعها، بدءاً من المرتفعات التي تشرف على صور وصيدا حتى بحيرة طبرية، ومن جبل طابور حتى جبال السامرة ونابلس، ومن هنا حتى جبال صهيون".
الرجل هو المكان الذي عاش فيه
تبدو فكرة اقتران الرجل بالمكان الذي عاشه في مسيطرة على ذهن لامارتين، وهو لا ينكر ذلك، إذ يعتبر أن المكان الذي اختاره الشخص للعيش أو للإقامة الأبدية فيه يعكس وعي الشخص وأهمية الرجل.
يقول "لطالما أحببت الطواف حول المشاهد الطبيعية التي سكنها الرجال الذين عرفتهم، وأعجبت بهم، وأحببتهم، وقدرتهم من بين الأحياء أو الأموات، ولطالما بدا لي الوطن الذي سكنه رجل عظيم وفضله على كل ما رآه على الأرض خير رفات ناطقة وأكيدة على شخصه، كما أنها مظهر مادي لعبقريته، وتجلٍ آخر لجزء من روحه، وشرح حي وحساس لحياته وأعماله وأفكاره".
ومن هنا يعبر إلى الحديث عن المسيح، الذي اختار الإقامة في فلسطين حيث عاش، وهو يعتقد أنه طبع المنطقة التي عاش فيها بطابعه الأبدي الذي لا يزول.
يكتب "إنه امتزاج الطبيعة والعبقرية والفضيلة مجتمعة في ألوهية متجسدة، وقد جئت لعبادة آثارها على الضفاف، حيث انطبعت جلها على الأمواج التي حملته، وعلى الروابي التي كان يجلس عليها، وعلى الأحجار التي كان يريح عليها جبينه. لقد رأى بعينيه الزائلتين هذا البحر، وهذه الأمواج، وهذه الروابي، وهذه الأحجار، أو لنقل إن هذا البحر، وهذه الروابي وهذه الأحجار قد رأته، لقد داس مائة مرة هذا الطريق حيث كنت أسير بوجل، وحركت قدماه هذا التراب الذي يتطاير تحت قدمي.
وفي غضون السنوات الثلاث من رسالته المقدسة كان يروح ويغدو بلا توقف من الناصرة إلى طبرية، ومن مدينة بيت المقدس إلى طبرية، وكان يتنزه في مراكب الصيادين في بحر الجليل، ويهدئ العواصف، ويصعد الأمواج ماداً يده إلى داعيته الضعيف الإيمان مثلي، هذه اليد السماوية التي أشعر بالحاجة إليها أكثر منه في خضم عواصف الأفكار والخواطر المرعبة. كان المشهد الأعظم والأكثر غموضاً في الإنجيل قد حدث كله تقريباً على هذه البحيرة وعلى ساحلها، وعلى الجبال التي تحيط بهذه البحيرة.
هذا أموس وقد قام باختيار تابعيه من بين أواخر البشر، ليشهد على أن قوة عقيدته تكمن في عقيدته بعينها، وليس من أعضائه العاجزة، هذه طبرية حيث تجلت للقديس بطرس فأسس في ثلاث كلمات التراتبية الأبدية لكنيسته، أو هذه هي كفر ناحوم، وهذا هو الجبل حيث ألقى موعظة الجبل الجميلة، وضاعف من الخبز والسمك مثلما وضعت كلماته الروح في الحياة ونشرها. وهذا هو خليج الصيد المعجزة.
وأخيراً هذا هو الإنجيل بحكمه المؤثرة، وصوره الرقيقة والعذبة التي تتجلّى لنا مثلما كانت تتجلى إلى المعلم السماوي عندما أشار بإصبعه إلى الحمل والحظيرة والراعي الطيب وزنبق الوادي. وهذا هو أخيراً البلد الذي فضّله المسيح على هذه الأرض، هذا البلد الذي اختاره ليجعل منه المشهد التمهيدي لمأساته المعجزة، هذه المأساة التي بدت له من خلالها الطبيعة التي يملك مفاتيحها بكل جاذبيتها".