لا تَستكثروا على العراقيين ثورتهم
إذا كان لدى المصري، أو التونسي، أو اليمني، أو السوري، أو الليبي، سببٌ واحد، أو مائة سبب للثورة، فإن لدى العراقي ألف سبب وسبب، فمنذ أن نجحت المجاميع المسلحة في العراق في احتلال مدينة الموصل، وما تبعها من عمليات سيطرة على مدن عراقية أخرى، وأصداء ما جرى يتردد في الكون الشاسع، حتى وصل الأمر إلى أن تحرك الولايات المتحدة الأميركية حاملة طائراتٍ إلى الخليج العربي، استعداداً منها لأي تحرك عسكري قادم، في وقت انبرت المرجعية الشيعية في النجف، بشأن ما جرى في تلك المناطق، إلى إعلان فتوى الجهاد الكفائي، حيث توافد آلاف العراقيين إلى مراكز تطوع خاصة، أقيمت في مدن في الجنوب وفي بغداد.
لسنا، هنا، بصدد استعراض ما جرى في أسبوع مضى، ولكن، ما يستدعي الانتباه إليه، في هذه المرحلة، أن هناك عملية تشويه متعمد لما جرى ويجري في العراق، بدأ منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة المسلحة في الموصل، وما زال، يعتمد على قلب الحقائق، وعلى محاولة استمالة السذج إلى مطحنة عراقية مقبلة، لا تبقي ولا تذر.
يذكر الماضي القريب أن العراقيين السنة، ومنذ أن دخلت القوات الأميركية إلى بغداد في ربيع 2003، كانوا أول من تصدّوا لها، ولم تلتحق بهم بقية طوائف الشعب العراقي، حتى من التحق فيما بعد من ميلشيات شيعية، إنما كان لأسبابٍ ودواعٍ لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بمفهوم المقاومة، بقدر ما كانت عمليات لتحقيق مكاسب، بعضها سياسي وآخر عسكري.
العراقيون السنة، وهنا نصف فقط، من دون أن ننجر إلى لعبة المصطلحات الطائفية، تعرضوا لأبشع أنواع القتل والتدمير والتشريد، طوال عقد من عمر الاحتلال الأميركي، من دون أن نعني، هنا، بأن العراقيين الشيعة لم يتعرضوا لمثله، غير أن الفرق في أن ما تعرض له السنة كان يجري على أيدي الحكومات التي تعاقبت على العراق بعد الاحتلال، فيما كان الشيعة يتعرضون لعمليات قتل وتصفية على يد مجاميع إرهابية، تنتمي إلى السنة، كالقاعدة مثلاً، وكانت موضع إدانة من السنة قبل الشيعة.
انتفض السنة العراقيون، وكانت ساحات اعتصامهم، عاماً كاملاً في مدنهم الست، خير شاهد على سلمية تحركهم. لم تسجل أية حالة اعتداء، أو تصرف مشبوه، فبماذا قابلهم نوري المالكي، رئيس الحكومة؟ نفذ بحقهم عدة مجازر، من أبرزها مجزرة الحويجة، والتي قتل فيها نحو 70 معتصماً، وأصيب عشرات، وقتل معتصمين عديدين في الفلوجة، طارد النشطاء واعتقلهم، وأكثر من هذا، وصل الأمر إلى حد قطع الرواتب عن كل من ثبت اشتراكه بهذه الاعتصامات، قبل أن تتقدم قواته إلى الأنبار، وتعتقل النائب أحمد العلواني، وتحرق خيم الاعتصام، لتدخل الأنبار مرحلة الثورة المسلحة، وهي مستمرة منذ مطلع العام الجاري.
ليس من السهولة أن نسرد، هنا، ما كان يتعرض له سنة العراق، من عمليات تصفية وقتل وتشريد وظلم، على يد الحكومات العراقية، وتحديداً حكومة إبراهيم الجعفري، وبعدها حكومتي المالكي الأولى والثانية، حيث عاش هذا المكون المهم والرئيسي، مواطنين درجة ثانية، ولربما ثالثة، وعملت هذه الحكومات على إقصائهم من مجالات الحياة، ناهيك عن عمليات قتل استهدفتهم، ولعل الجميع يذكر عمليات الاعتقال بحق عشرات من الشباب السنة، ومن ثم العثور على جثثهم في مزابل بغداد، وتفيد التقديرات بأن السجون الحكومية تعج بأكثر من 400 الف معتقل عراقي، السنة فيهم أكثر من 90%.
تطول قائمة الظلم الذي تعرض له السنة، من دون أن يعني ذلك أن بقية طوائف العراقيين كانت ترفل بالعز وأثواب الغار، فالشيعة العراقيون، أيضاً، كان لهم نصيب من ظلم الحكومة، غير أنه ظل في أغلبه ظلماً اجتماعياً، ناتجاً من سوء إدارة، وفساد أغلب مرافق الدولة العراقية التي تشكلت عقب 2003. اليوم، هناك حالة من الثورة المسلحة تجتاح أغلب المدن والمناطق السنية في العراق، يسعى العراقيون الذين نجحوا في إشعالها إلى أن تكون ثورة خلاص للكل، وليس للسنة وحسب، ما دفع تيارات عديدة مسلحة فجرت الثورة إلى التأكيد، في أكثر من بيان، على أنها ثورة عراقيين.
في مقابل ذلك، يعمل إعلام الحكومة العراقية، ومعه إعلام عربي، أقل ما يقال عنه إنه متواطئ في شيطنة الثورة العراقية، بإلباسها لبوس الجماعات التكفيرية، وفي مقدمتها دولة العراق والشام الإسلامية، "داعش". وهنا لا بد من القول، والتأكيد والتذكير، لكل باحث عن الحقيقة، إن ما يجري في العراق نتاج حالة ظلم طويلة، ومن يشارك في هذه الثورة هي الفصائل العراقية المسلحة التي شاركت في مقاومة المحتل الأميركي، وأيضا تنظيم الدولة الإسلامية، بمعنى أن "داعش" مشارك في هذه الثورة، وله نصيب منها، غير أنه ليس الوحيد، وقوة هذا التنظيم تتفاوت من منطقة الى أخرى. وبالتالي، ليس من مصلحة العراق والعراقيين، ولا دول المنطقة أيضاً، أن تنسب الثورة العراقية إلى هذا التنظيم. كل من يعمل على "دعشنة" الثورة العراقية مشارك بذبح العراقيين من المذاهب والطوائف والأديان كافة، فالذي تخلص من تنظيم القاعدة، لم يكن قوات المارينز، ولا قوات حكومة المنطقة الخضراء، بل العشائر العراقية التي ترفض التطرف، وتدينه، قبل أن يأتي من يعلمهم ذلك.