وُضعت القوانين والتشريعات التربوية في لبنان، بداية سبعينيات القرن العشرين، مع تأسيس "المركز التربوي للبحوث والإنماء" الذي أنيطت به مهمات وضع الخطط والبرامج التربوية والتعليمية، ومن أهم إنجازاته سلسلة إصدارات كتب مناهج التعليم الرسمي في لبنان.
وقد بقي النظام التربوي على حاله حتى السنوات الأخيرة التي سبقت الألفية الثالثة. شهدت تلك السنوات جهودا ودراسات كثيرة، تُوّجت بتشريعات برلمانية، دخلت حيّز التنفيذ والتطبيق حين عدّلت المناهج وأمرت بإدخال مواد الفنون والمسرح والتكنولوجيا واللغة الثالثة إلى مواد التدريس.
اقرأ أيضا:دليل الإجابة على أسئلة أبنائنا الجنسية
بعد بحثٍ مضنٍ لم نعثر على توصية خاصة بإدراج" التربية الجنسية" كمادة مستقلّة ضمن المنهاج الرسمي. ففي القرارات الرسمية نعثر ضمن نص موثّق على الجملة التالية " تعزيز الثقافة الوطنية والصحية والبيئية والفنية والريفية والرياضية". هذه الجملة جاءت ضمن أطر وأهداف مناهج التعليم اللبنانية الحالية التي تمت الموافقة على خطتها بموجب قرار مجلس الوزراء 15/94.
الثقافة الصحية
وانطلاقاً من تعبير"الثقافة الصحية" خرجت في التسعينيات، توصيات غير تشريعية بضرورة إدخال التربية الجنسية وتعزيزها في بعض المواد، وخصوصا منها العلوم والتربية المدنية، لكن الباحث في تفاصيل المنهاج التربوي اللبناني، يصطدم بالجملة التالية "نُسفت التربية الجنسية من مادة العلوم في المناهج التربوية اللبنانية". وبعد البحث والتدقيق ندرك أنها عادت بشكل خجول تحت اسم "التربية السكانية من منظور اجتماعي"، ويبدو هذا التحوّل مضحكا جدا. لكن إذا عرف السبب بطل العجب.
فلبنان بلد يتميّز بخصوصية التعدد السكاني والديني والطوائفي والاجتماعي. والتعددية سيف ذو حدّين. ففي الوقت الذي قوبل فيه موضوع "التربية الجنسية في المدارس" بتفاعل عادي جدا في المؤسسات غير الإسلامية (وهي تشكّل نصف الوطن) قوبل الموضوع باعتراض كبير وتصدٍ من قبل بعض المؤسسات الإسلامية، التي سجّلت نقاط تحفّط عليه.
وقد تم (بالتعاون والتنسيق بين صندوق الأمم المتحدة للسكان ووزارة التربية اللبنانية ومكتب الإعداد والتدريب) تأليف لجنة لإعداد منهاج "المهارات الحياتية الخاصة بالتربية على الصحة الإنجابية من منظور النوع الاجتماعي" ، تألفت من 6 أخصائيين في مجالات: المناهج الدراسية والمهارات الحياتية والصحة الإنجابية والنوع الاجتماعي وعلم النفس التربوي.
وأوكلت إليها مهمة تطوير نطاق ومضمون وتسلسل المنهاج بطريقة تشاركية. وقد صدر تعميم من وزارة التربية والتعليم العالي تحت رقم 18/م/2009 بتاريخ 26 أغسطس/آب 2009 يقضي بدمج المنهاج الخاص بـ"التربية على الصحة الإنجابية من منظور النوع الاجتماعي" في مواد: العلوم / علم الأحياء، اللغات، والتربية المدنية والتنشئة الوطنية وعلم الاجتماع. ودعمه بأنشطة تعلمية ضمن برنامج الصحة المدرسية.
هذه باختصار قصة "التربية الجنسية" في المناهج اللبنانية وكيف تمّ اللعب على اسمها لتتحول رسمياَ إلى "التربية على الصحة الإنجابية من منظور النوع الاجتماعي"، تمرر تمريرا في بعض المواد.
رفض واعتراض
قوبل موضوع التربية الجنسية بسيلٍ ضخمٍ من الأجواء السجالية وبرامج التوك شو الإعلامية، بين مؤيدٍ ومرحّب بها، كإطلالة علمية ومعرفية يحتاجها الجيل الناشئ في خضمّ الحياة المعاصرة، وبين معارض ومتوجّس، اعتبر بعض المسلمين أن الأمر تنفيذٌ لمطالب استعمارية وغربية مستشهدين بالمادة 108 من وثيقة بكين التي تطالب بإدراج تعليم الجنس الآمن safe sex في المناهج التعليمية، حيث تنص المادة على ضرورة توفير معلومات كاملة ودقيقة عن السلوك الجنسي والإنجابي المأمون بما في ذلك استخدام وسائل الوقاية المناسبة للوقاية من فيروس الإيدز.
وفي مؤتمر إسلامي جامع طالب بعضٌ آخر بطرح التربية الجنسية في جوٍ من الأخلاق والفضيلة والحياء. وطالبوا بحذف عدة جمل من كتاب العلوم للصف السابع، تصف كيفية تلقيح بويضة المرأة من قبل الرجل لتصبح جنينا، ليتمّ استبدالها بعبارة تخلو من ذكر أسماء الأعضاء التناسلية.
وفي السياق نفسِهِ، "لاحظ المؤتمرون تضخم المعلومات المتعلقة بمواضيع منع الحمل وإيقاف الإخصاب وإيقاف الإباضة والعلوق والموجهة لطلاب لم يتجاوزوا الثالثة عشرة من العمر بما لا يتناسب مع هذه الأعمار والمستوى الإدراكي .. وعليه يوصي المؤتمر بإعادة النظر في هذه الموضوعات ووسائل الإيضاح العائدة لها والعناية بأساليب طرحها بطريقة لا تخدش حس الطلبة في هذا العمر.
الرفض والتحفظ والسجالات الدائمة المرافقة للموضوع، جعلت المسؤولين يتعاملون بطريقة "إلتفافية" معه، ففي حفل إطلاق "منهاج المهارات الحياتية والصحة الإنجابية" عام 2009، تم عرض فيلم وثائقي "بطريقة الرسوم المتحركة" لمقاربة تعرف الأولاد على فيروس نقص المناعة المكتسبة الأيدز.لماذا عبر الرسوم المتحركة؟ هروبا من تهمة الطرح المباشر للموضوع الحسّاس.
اقرأ أيضا:احذر حمامات المدارس!
يربط بعض الخبراء والمختصين تفاعل المعرفة العلمية مع نظام القيم. فيقولون إن قيم المجتمعات الغربية تنعكس على الطلاب والمعلمين الذين يظهر انفتاحهم على تعليم التربية الجنسية منذ الصغر في المدرسة. ويقابل هذا الانفتاح تشدّد من مسؤولي المؤسسات التربوية الدينية.
حذف الموضوع من كتاب العلوم، علماً أن تدريسه يتم بشكل اختياري بحسب وضع المدرسة الخاصة والمنطقة التي تنتمي إليها، لكنه بقي محذوفاً في المدارس الرسمية كافة. ثمة نموذج قديم أكثر شيوعا، عن صفحة واحدة في كتاب العلوم بعنوان "كيف يأتي الأولاد" (Comment viennent les bébés) في كتاب الصف الخامس، هذا الدرس الوحيد في الكتاب كان سببا كافياً من قبل مدارس كثيرة لعدم اعتماده، بحجّة أنه طرح الفكرة بشكل معلن ومباشر. وهناك مدارس استعملت أسلوبا آخر: اشترت الكتب وانتزعت تلك الصفحة بـ "ذكاء"وأعادت الكتب للتلامذة بكل براءة.
آراء الأهل
حينما قمنا بسؤال مسؤولة الإرشاد الصحي في إحدى الثانويات الرسمية بلبنان عمّا آلت إليه التربية الجنسية في المدارس فضحكت وقالت "لقد نسيها الجميع"، وتساءلتْ أي تربية جنسية سنقدم للطلبة وهم لا يتحمّلون أساسا دروس العلوم المتعلقة بموضوع الرجل والمرأة، ويعتبرونها مدعاة للسخرية والاستهزاء. فقد كان بعض أولياء التلاميذ يأتون للاعتراض على (أشياء معيبة ومخزية تقال للطلاب) كما ينقل الأهل الصورة بعد كلام أبنائهم.
معلمة الفلسفة بدورها قالت إنها بعد شرحها للنظريات الفلسفية المتعلقة بالجنس أو الخلق، ذهب بعض الطلبة ليشكوها للإدارة بحجة أنها تطرح مواضيع "إباحية" تخدش الذوق العام، ولا يجوز أن تتحدّث بها، وتكرّر أمر مجيء بعض الأهل لتسجيل اعتراضهم على ما سمعوه من أولادهم. فالمدرسة مهمتها أن تعلّم وتدرّس وليس أن "تفسد الاخلاق" كما قال بعضهم.
مسؤولة التثقيف الصحي قالت: نقدم في السنة محاضرة أو اثنتين عن الموضوع لكن بشكل خجول وإلتفافي، رفعاً للعتب.
يمكن القول في النهاية إن التربية الجنسية في مناهج التعليم اللبناني بقيت مجرد مشروع وتوصيات نظرية، في بلد التعددية الدينية والاجتماعية، يتفاوت تطبيقها حسب تفاوت المنطقة والدين والطائفة.
اقرأ أيضا: التربية الجنسية في المناهج العربية... تخبط وعشوائية
وقد بقي النظام التربوي على حاله حتى السنوات الأخيرة التي سبقت الألفية الثالثة. شهدت تلك السنوات جهودا ودراسات كثيرة، تُوّجت بتشريعات برلمانية، دخلت حيّز التنفيذ والتطبيق حين عدّلت المناهج وأمرت بإدخال مواد الفنون والمسرح والتكنولوجيا واللغة الثالثة إلى مواد التدريس.
اقرأ أيضا:دليل الإجابة على أسئلة أبنائنا الجنسية
بعد بحثٍ مضنٍ لم نعثر على توصية خاصة بإدراج" التربية الجنسية" كمادة مستقلّة ضمن المنهاج الرسمي. ففي القرارات الرسمية نعثر ضمن نص موثّق على الجملة التالية " تعزيز الثقافة الوطنية والصحية والبيئية والفنية والريفية والرياضية". هذه الجملة جاءت ضمن أطر وأهداف مناهج التعليم اللبنانية الحالية التي تمت الموافقة على خطتها بموجب قرار مجلس الوزراء 15/94.
الثقافة الصحية
وانطلاقاً من تعبير"الثقافة الصحية" خرجت في التسعينيات، توصيات غير تشريعية بضرورة إدخال التربية الجنسية وتعزيزها في بعض المواد، وخصوصا منها العلوم والتربية المدنية، لكن الباحث في تفاصيل المنهاج التربوي اللبناني، يصطدم بالجملة التالية "نُسفت التربية الجنسية من مادة العلوم في المناهج التربوية اللبنانية". وبعد البحث والتدقيق ندرك أنها عادت بشكل خجول تحت اسم "التربية السكانية من منظور اجتماعي"، ويبدو هذا التحوّل مضحكا جدا. لكن إذا عرف السبب بطل العجب.
فلبنان بلد يتميّز بخصوصية التعدد السكاني والديني والطوائفي والاجتماعي. والتعددية سيف ذو حدّين. ففي الوقت الذي قوبل فيه موضوع "التربية الجنسية في المدارس" بتفاعل عادي جدا في المؤسسات غير الإسلامية (وهي تشكّل نصف الوطن) قوبل الموضوع باعتراض كبير وتصدٍ من قبل بعض المؤسسات الإسلامية، التي سجّلت نقاط تحفّط عليه.
وقد تم (بالتعاون والتنسيق بين صندوق الأمم المتحدة للسكان ووزارة التربية اللبنانية ومكتب الإعداد والتدريب) تأليف لجنة لإعداد منهاج "المهارات الحياتية الخاصة بالتربية على الصحة الإنجابية من منظور النوع الاجتماعي" ، تألفت من 6 أخصائيين في مجالات: المناهج الدراسية والمهارات الحياتية والصحة الإنجابية والنوع الاجتماعي وعلم النفس التربوي.
وأوكلت إليها مهمة تطوير نطاق ومضمون وتسلسل المنهاج بطريقة تشاركية. وقد صدر تعميم من وزارة التربية والتعليم العالي تحت رقم 18/م/2009 بتاريخ 26 أغسطس/آب 2009 يقضي بدمج المنهاج الخاص بـ"التربية على الصحة الإنجابية من منظور النوع الاجتماعي" في مواد: العلوم / علم الأحياء، اللغات، والتربية المدنية والتنشئة الوطنية وعلم الاجتماع. ودعمه بأنشطة تعلمية ضمن برنامج الصحة المدرسية.
هذه باختصار قصة "التربية الجنسية" في المناهج اللبنانية وكيف تمّ اللعب على اسمها لتتحول رسمياَ إلى "التربية على الصحة الإنجابية من منظور النوع الاجتماعي"، تمرر تمريرا في بعض المواد.
رفض واعتراض
قوبل موضوع التربية الجنسية بسيلٍ ضخمٍ من الأجواء السجالية وبرامج التوك شو الإعلامية، بين مؤيدٍ ومرحّب بها، كإطلالة علمية ومعرفية يحتاجها الجيل الناشئ في خضمّ الحياة المعاصرة، وبين معارض ومتوجّس، اعتبر بعض المسلمين أن الأمر تنفيذٌ لمطالب استعمارية وغربية مستشهدين بالمادة 108 من وثيقة بكين التي تطالب بإدراج تعليم الجنس الآمن safe sex في المناهج التعليمية، حيث تنص المادة على ضرورة توفير معلومات كاملة ودقيقة عن السلوك الجنسي والإنجابي المأمون بما في ذلك استخدام وسائل الوقاية المناسبة للوقاية من فيروس الإيدز.
وفي مؤتمر إسلامي جامع طالب بعضٌ آخر بطرح التربية الجنسية في جوٍ من الأخلاق والفضيلة والحياء. وطالبوا بحذف عدة جمل من كتاب العلوم للصف السابع، تصف كيفية تلقيح بويضة المرأة من قبل الرجل لتصبح جنينا، ليتمّ استبدالها بعبارة تخلو من ذكر أسماء الأعضاء التناسلية.
وفي السياق نفسِهِ، "لاحظ المؤتمرون تضخم المعلومات المتعلقة بمواضيع منع الحمل وإيقاف الإخصاب وإيقاف الإباضة والعلوق والموجهة لطلاب لم يتجاوزوا الثالثة عشرة من العمر بما لا يتناسب مع هذه الأعمار والمستوى الإدراكي .. وعليه يوصي المؤتمر بإعادة النظر في هذه الموضوعات ووسائل الإيضاح العائدة لها والعناية بأساليب طرحها بطريقة لا تخدش حس الطلبة في هذا العمر.
الرفض والتحفظ والسجالات الدائمة المرافقة للموضوع، جعلت المسؤولين يتعاملون بطريقة "إلتفافية" معه، ففي حفل إطلاق "منهاج المهارات الحياتية والصحة الإنجابية" عام 2009، تم عرض فيلم وثائقي "بطريقة الرسوم المتحركة" لمقاربة تعرف الأولاد على فيروس نقص المناعة المكتسبة الأيدز.لماذا عبر الرسوم المتحركة؟ هروبا من تهمة الطرح المباشر للموضوع الحسّاس.
اقرأ أيضا:احذر حمامات المدارس!
يربط بعض الخبراء والمختصين تفاعل المعرفة العلمية مع نظام القيم. فيقولون إن قيم المجتمعات الغربية تنعكس على الطلاب والمعلمين الذين يظهر انفتاحهم على تعليم التربية الجنسية منذ الصغر في المدرسة. ويقابل هذا الانفتاح تشدّد من مسؤولي المؤسسات التربوية الدينية.
حذف الموضوع من كتاب العلوم، علماً أن تدريسه يتم بشكل اختياري بحسب وضع المدرسة الخاصة والمنطقة التي تنتمي إليها، لكنه بقي محذوفاً في المدارس الرسمية كافة. ثمة نموذج قديم أكثر شيوعا، عن صفحة واحدة في كتاب العلوم بعنوان "كيف يأتي الأولاد" (Comment viennent les bébés) في كتاب الصف الخامس، هذا الدرس الوحيد في الكتاب كان سببا كافياً من قبل مدارس كثيرة لعدم اعتماده، بحجّة أنه طرح الفكرة بشكل معلن ومباشر. وهناك مدارس استعملت أسلوبا آخر: اشترت الكتب وانتزعت تلك الصفحة بـ "ذكاء"وأعادت الكتب للتلامذة بكل براءة.
آراء الأهل
حينما قمنا بسؤال مسؤولة الإرشاد الصحي في إحدى الثانويات الرسمية بلبنان عمّا آلت إليه التربية الجنسية في المدارس فضحكت وقالت "لقد نسيها الجميع"، وتساءلتْ أي تربية جنسية سنقدم للطلبة وهم لا يتحمّلون أساسا دروس العلوم المتعلقة بموضوع الرجل والمرأة، ويعتبرونها مدعاة للسخرية والاستهزاء. فقد كان بعض أولياء التلاميذ يأتون للاعتراض على (أشياء معيبة ومخزية تقال للطلاب) كما ينقل الأهل الصورة بعد كلام أبنائهم.
معلمة الفلسفة بدورها قالت إنها بعد شرحها للنظريات الفلسفية المتعلقة بالجنس أو الخلق، ذهب بعض الطلبة ليشكوها للإدارة بحجة أنها تطرح مواضيع "إباحية" تخدش الذوق العام، ولا يجوز أن تتحدّث بها، وتكرّر أمر مجيء بعض الأهل لتسجيل اعتراضهم على ما سمعوه من أولادهم. فالمدرسة مهمتها أن تعلّم وتدرّس وليس أن "تفسد الاخلاق" كما قال بعضهم.
مسؤولة التثقيف الصحي قالت: نقدم في السنة محاضرة أو اثنتين عن الموضوع لكن بشكل خجول وإلتفافي، رفعاً للعتب.
يمكن القول في النهاية إن التربية الجنسية في مناهج التعليم اللبناني بقيت مجرد مشروع وتوصيات نظرية، في بلد التعددية الدينية والاجتماعية، يتفاوت تطبيقها حسب تفاوت المنطقة والدين والطائفة.
اقرأ أيضا: التربية الجنسية في المناهج العربية... تخبط وعشوائية