03 سبتمبر 2024
لبنان.. اللحظة المنقلبة
سامية عيسى
يعيش لبنان لحظة منقلبة، لا تشبه أية لحظة أخرى منذ تأسيسه في أربعينيات القرن الماضي، بناء على محاصصة طائفية، يكون فيها رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا ورئيس الوزراء مسلما سنيا ورئيس مجلس النواب مسلما شيعيا، لكن الغلبة في المحاصصة كانت للطائفة المسيحية بكل أطيافها، بمعدل نصف الحصص ونصف الصلاحيات الدستورية، في مقابل النصف الآخر للمسلمين السنة والشيعة والدروز، أو ما تسمّى محاصصة على قاعدة "ستة وستة مكرر". وبعد حرب أهلية بدأت في العام 1975، جاء اتفاق الطائف في 1989 ليبدل ليس في نظام الحصص، ربما بل في صلاحيات الرئاسات الثلاث، وتم تحجيم الدور المسيحي لمصلحة الرئاسة الثالثة، أي رئاسة الوزراء، ويعطي حصة أكبر للشيعة، أي لرئاسة مجلس النواب. ولكن الصلاحيات بين هذه الرئاسات بقيت غائمةً على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" كما قيل حينها، ما أدى إلى شل الدولة وجعلها مطية يتقاسمها أمراء الطوائف، وينهبون مواردها وخزينتها العامة التي تأتي وارداتها من جيوب المواطنين، أيا كانت طائفتهم.
في كل ذلك الوقت، عمل أمراء الطوائف، أو زعماء الأحزاب الطائفية، ضمنا أو علنا، على تجييش طوائفهم، بوصفهم حماة الطائفة، والمدافعين عن أبنائها، والمحافظين على حقوقهم كطائفة، ما شكل غطاءً طائفيا عميقا للنهب والسرقة وإساءة استخدام السلطة مقابل فتاتٍ يقدمها أمير كل طائفة، وظيفة أو منحة دراسية أو طبابة أو تهرّبا ضريبيا.. إلخ. طالت الحكاية، والدولة التي هي ملك الشعب أفلست خزائنها، وبات على المواطنين الآن من كل الطوائف أن يدفعوا ثمن هذا الإفلاس من جيوبهم، هذا غير انسداد الأفق أمام الشابات والشبان في فرص عمل، أو تسهيلات سكنية، فضلا عن تفاقم أسعار المواد الغذائية والأدوية والاستشفاء وأقساط المدارس والجامعات، ما أدّى إلي تراكم القهر يوما بعد يوم، وانكشاف فاقع لفساد أمير الطائفة على حساب أبناء طائفته، بتغطية كاملة لهذه الطبقة السياسية من حزب الله، في مقابل صمتهم على أخذ البلاد رهينة للمحور الإيراني.
هبّات عدة قامت على مدى عقود، مطلبية وربما سياسية، لكنها لم تتخذ هذا المنحى اللاطائفي إلا مع بداية مظاهرات أزمة النفايات 2015 التي اتخذت طابعا مدنيا عابرا للطوائف، ولكن تم
تخريبها من الطغمة الحاكمة التي حاول بعض من رموزها ركوب موجة التظاهر في ساحة الشهداء في العاصمة بيروت، ولكن المتظاهرين رفضوا، متهمين كل الطبقة السياسية بالتورّط في الفساد وهدر أموال الدولة، ورفعوا شعار"كلن يعني كلن"، وتم إفشال ذلك الحراك وتنفيسه بواسطة تفخيخه بمندسين من مليشيات طائفية، أشير فيها إلى الثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله، استدرجت قوى الأمن الداخلي للاشتباك مع المتظاهرين، لتجريد الحراك من سلميته وتنفيسه لاحقا. منذ ذلك الحين، ازداد شعور اللبنانيين من كل الطوائف بأنهم مستهدفون كمواطنين من زعماء الطوائف الذين هم من يشكلون الطبقة السياسية التي تعيث نهبا وفسادا في البلاد، غير عابئين بأبناء طوائفهم، إلا حين يحل موسم الانتخابات النيابية. أدى ذلك إلى انكشاف لبنان بلدا غير مؤتمن اقتصاديا، وتم خفض تصنيفه الائتماني إلى ما دون الصفر أو "سي سي سي". وكان أحد أبرز الأسباب التي تم الحديث عنها عدم الاستقرار السياسي، والأزمات السياسية المتلاحقة التي تشوب العلاقات بين الفرقاء السياسيين، فضلا عن ظاهرة الفساد والهدر العام في خزينة الدولة. ولم تبدأ حكاية الفساد والنهب المنظم في لبنان في العهد الراهن، ولا في زمن حكومات الحريري المتعاقبة، سواء الحريري الأب أوالابن، بل تعود إلى عهود سابقة عديدة، ربما تزامنت مع اندلاع الحرب الأهلية، ودائما كانت المحاصصة الطائفية الغطاء الأبرز لها على مر هذه العقود والعهود، لكنها استشرت بشدة مع الصعود السياسي لزعيمي حركة أمل (الشيعية)، نبيه بري، والتقدمي الاشتراكي (الدرزي)، وليد جنبلاط، وأيضا التلاعب بالليرة اللبنانية التي أشير فيها بأصابع الاتهام إلى الرئيس الأسبق (الماروني) أمين الجميل في أواسط الثمانينات، بعد خروج الفلسطينيين من لبنان عام 1982.استمر النهب المنظم عبر المافيات الطائفية التي يرأسها ويديرها أمراء الطوائف وحاشياتهم المقربة من وزراء ونواب ورجال مال وأعمال لم ينج منها عهد رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، الذي جاء على حصان "إعادة إعمار لبنان" (ساهم رجالات النظام السوري أيضا في هذا الفساد بقوة)، حين حمّلت خزينة الدولة مليارات من القروض المحلية والدولية تحت إدارة وزير المال فؤاد السنيورة، وأبرمت مناقصات مريبة ومشبوهة كثيرة على خلفية "مرق لي حتى مرق لك" في "حفلة الإعمار التنكرية" التي شارك فيها الجميع "كلن يعني كلن". وما لبث أن غطّى حزب الله هذا الفساد، بل تورّط فيه وزراء منه في الحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة التي شاركوا فيها. واستمرت كرة الفساد والنهب المنظم تكبر وتتدحرج، وتهدد مستقبل اللبنانيين لأجيال عدة لاحقة، عبّرت عن نفسها بهجرة شبابه وشاباته إلى كل بقاع الأرض، بحثا عن مستقبل مأمون في غير وطنهم وفرص عمل لا يجدونها فيه، وبات أكثر من نصف اللبنانيين فقراء أو تحت خط الفقر.
احتاج اللبنانيون وقتا كثيرا كي يفهموا تلازم هذا التراجع الاقتصادي مع تركيبة النظام الطائفي، وعدم قدرتهم على تجاوز هذا التراجع، أو وقف الفساد أمام الجشع المتمادي للطبقة السياسية الحاكمة ورموزها الطائفية وارتباطاتها بأجندات خارجية لغير مصلحة لبنان والمواطنين اللبنانيين من كل الطوائف، لا سيما في السنوات الأخيرة، وتحديدا مع بداية عهد الرئيس ميشال عون وصهره العتيد جبران باسيل، مدعوما من حزب الله.
مظاهرات عابرة للطوائف وللحواضن الشعبية الأساسية للطوائف، في مقدمتها الثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله، في مقابل رياح مدنية بامتياز تلوح بالأفق. بدأت البذرة المدنية منذ أزمة النفايات تنمو وتترعرع حينا، وتتراجع أمام التجييش الطائفي والمذهبي لزعماء الطوائف حينا آخر، إلى أن عادت وتجدّدت على وقع ضرائب جديدة يسعون من خلالها لتمويل خزينة الدولة، التي نهبوها بالكامل، من جيوب اللبنانيين الذين تم إفقارهم عبر الترغيب والترهيبيْن، الطائفي والمذهبي. وما أن أعلن وزير الاتصالات، في السياق نفسه، نية إقرار ضريبة شهرية على تطبيق "واتساب" المجاني، وهو تطبيق دولي لا يحق للبنان فرض ضرائب عليه بالأساس، نزل اللبنانيون إلى الشوارع منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي احتجاجا، ليس على تلك الضريبة فحسب، فهي لم تكن سوى "الشعرة التي قصمت ظهر البعير". نزلوا إلى الشوارع بزخمٍ لم يعرفه لبنان في تاريخه الحديث.
بدأ المتظاهرون بالاحتجاج على الأزمة المعيشية، وسلسلة من الضرائب الجديدة التي بدأت تطاول جيوبهم "الفارغة" أصلا وتهدّد أمنهم المعيشي، وهم يدركون أساسا أن ما أوصل وسيوصل لبنان إلى الإفلاس الكامل هم هذه الطبقة السياسية ومحاصصاتها الطائفية التي سهلت الفساد ونهب أموال الشعب، غير آبهين حتى بطوائفهم الجائعة والمهانة التي يتزعمونها.
وعلى الرغم من قائمة طويلة من الإصلاحات التي تم إقرارها بعد مهلة 72 ساعة، أعطاها
رئيس الوزراء سعد الحريري لشركائه في الحكومة، وهي إصلاحات كان يمكن إقرارها سابقا، بحسب المتظاهرين، فلماذا أقرّت الآن؟ يتساءلون، ويرون في الأمر مجرّد إبرة مورفين لتخديرهم ودفعهم إلى ترك الشارع. ولكن الأهم أنهم يعلمون جيدا أن القائمة الإصلاحية التي تبدو بداية واعدة ربما، لكن المتظاهرين لا يصدقون هذه الطبقة السياسية كلها ولا يثقون بها. ومن هنا، رفعوا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ويعنون إسقاط النظام الطائفي بكل رموزه وزعمائه، لأنهم أدركوا، وبحسهم العفوي، تلازم الفساد والنهب مع نظام المحاصصة الطائفية.
لا يشبه لبنان أي بلد عربي آخر، يسعى شعبه إلى التغيير، فهو محاصر بالطائفية والفقر واستبداد الطوائف والأجندات الخارجية التي تدعم زعماءها. إذ ليس لدينا "بشير واحد" لنضعه في السجن. وحتى النقابات المهنية محكومة بالمحاصصة الطائفية وتوازناتها السياسية، وبحزب لم يتورّع عن ارتكاب جرائم ضد الشعب السوري لدعم نظام بشار الأسد بمواجهة الثورة السورية، وربما يجند بضعة آلاف لتفخيخ التظاهرات أو قمعها بقوة السلاح للحفاظ على وضعه الراهن.. أفكار ومخاوف تدور في رأس اللبنانيين الآن، لكن المتظاهرين يمضون في المطالبة بإسقاط الحكومة ورئيس الجمهورية وحبسهم "كلن يعني كلن" في لحظة منقلبة يقلبون فيها الطاولة على رأسهم، بانتخابات نيابية مبكرة، خارج القيد الطائفي لبناء لبنان "مدني علماني حديث"، تحت شعارفصل الدين عن الدولة، فثمّة شيء أكيد تغير.
هبّات عدة قامت على مدى عقود، مطلبية وربما سياسية، لكنها لم تتخذ هذا المنحى اللاطائفي إلا مع بداية مظاهرات أزمة النفايات 2015 التي اتخذت طابعا مدنيا عابرا للطوائف، ولكن تم
احتاج اللبنانيون وقتا كثيرا كي يفهموا تلازم هذا التراجع الاقتصادي مع تركيبة النظام الطائفي، وعدم قدرتهم على تجاوز هذا التراجع، أو وقف الفساد أمام الجشع المتمادي للطبقة السياسية الحاكمة ورموزها الطائفية وارتباطاتها بأجندات خارجية لغير مصلحة لبنان والمواطنين اللبنانيين من كل الطوائف، لا سيما في السنوات الأخيرة، وتحديدا مع بداية عهد الرئيس ميشال عون وصهره العتيد جبران باسيل، مدعوما من حزب الله.
مظاهرات عابرة للطوائف وللحواضن الشعبية الأساسية للطوائف، في مقدمتها الثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله، في مقابل رياح مدنية بامتياز تلوح بالأفق. بدأت البذرة المدنية منذ أزمة النفايات تنمو وتترعرع حينا، وتتراجع أمام التجييش الطائفي والمذهبي لزعماء الطوائف حينا آخر، إلى أن عادت وتجدّدت على وقع ضرائب جديدة يسعون من خلالها لتمويل خزينة الدولة، التي نهبوها بالكامل، من جيوب اللبنانيين الذين تم إفقارهم عبر الترغيب والترهيبيْن، الطائفي والمذهبي. وما أن أعلن وزير الاتصالات، في السياق نفسه، نية إقرار ضريبة شهرية على تطبيق "واتساب" المجاني، وهو تطبيق دولي لا يحق للبنان فرض ضرائب عليه بالأساس، نزل اللبنانيون إلى الشوارع منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي احتجاجا، ليس على تلك الضريبة فحسب، فهي لم تكن سوى "الشعرة التي قصمت ظهر البعير". نزلوا إلى الشوارع بزخمٍ لم يعرفه لبنان في تاريخه الحديث.
بدأ المتظاهرون بالاحتجاج على الأزمة المعيشية، وسلسلة من الضرائب الجديدة التي بدأت تطاول جيوبهم "الفارغة" أصلا وتهدّد أمنهم المعيشي، وهم يدركون أساسا أن ما أوصل وسيوصل لبنان إلى الإفلاس الكامل هم هذه الطبقة السياسية ومحاصصاتها الطائفية التي سهلت الفساد ونهب أموال الشعب، غير آبهين حتى بطوائفهم الجائعة والمهانة التي يتزعمونها.
وعلى الرغم من قائمة طويلة من الإصلاحات التي تم إقرارها بعد مهلة 72 ساعة، أعطاها
لا يشبه لبنان أي بلد عربي آخر، يسعى شعبه إلى التغيير، فهو محاصر بالطائفية والفقر واستبداد الطوائف والأجندات الخارجية التي تدعم زعماءها. إذ ليس لدينا "بشير واحد" لنضعه في السجن. وحتى النقابات المهنية محكومة بالمحاصصة الطائفية وتوازناتها السياسية، وبحزب لم يتورّع عن ارتكاب جرائم ضد الشعب السوري لدعم نظام بشار الأسد بمواجهة الثورة السورية، وربما يجند بضعة آلاف لتفخيخ التظاهرات أو قمعها بقوة السلاح للحفاظ على وضعه الراهن.. أفكار ومخاوف تدور في رأس اللبنانيين الآن، لكن المتظاهرين يمضون في المطالبة بإسقاط الحكومة ورئيس الجمهورية وحبسهم "كلن يعني كلن" في لحظة منقلبة يقلبون فيها الطاولة على رأسهم، بانتخابات نيابية مبكرة، خارج القيد الطائفي لبناء لبنان "مدني علماني حديث"، تحت شعارفصل الدين عن الدولة، فثمّة شيء أكيد تغير.
مقالات أخرى
02 اغسطس 2024
22 يوليو 2024
13 ابريل 2024