ورغم إطلاق قوات النظام السوري بعض الصواريخ المضادة للطائرات، فإن قواعد اللعبة لم تتغيّر من الطرف الإسرائيلي. برّرت حكومة بنيامين نتنياهو قصفها، بمنع وصول أسلحة كاسرة للتوازن من سورية إلى مخازن "حزب الله" في لبنان. وتمّ تنسيق عمليات القصف مع القوات الجوية الروسية التي غطّت سماء سورية، وأمّنت لرئيس النظام بشار الأسد، مُتنفسّاً سياسياً وأمنياً مُقابل سلبه أي استقلالية أو سيادة. وبدل الردّ على هذه الهجمات التي أظهرت تفوّقاً استخبارياً إسرائيلياً في رصد عمليات الحزب العابرة للحدود شرقي لبنان، اختارت القيادة العسكرية للحزب عدم الرد. ومارس أمينه العام حسن نصر الله، حرباً نفسية من خلال القول إن الإسرائيلي يجهل مدى نجاحه في استهداف البنية العسكرية للحزب.
وعلى الحدود اللبنانية مع فلسطين المُحتلة، تواكب جرافات عسكرية عديدة ودوريات ناشطة للجيش الإسرائيلي، إجراءات تحصين المواقع والمستوطنات الحدودية. وهي إجراءات كشف عنها "حزب الله" خلال الجولة الإعلامية التي نظّمها في 20 إبريل/نيسان من العام الماضي، على طول الشريط الحدودي، بمشاركة ممثلين عن حوالى 50 وسيلة إعلامية محلية وعربية ودولية. وتعمّد الحزب إثارة الكثير من الغبار السياسي والأمني والعسكري حول تلك الزيارة، التي تخلّلها إدلاء أحد ضباط الحزب بتصريحات مباشرة على الهواء للمرة الأولى في تاريخ العمل العسكري لـ"حزب الله". عدّد الضابط الإجراءات الهندسية الإسرائيلية التي غيّرت من الغطاء الطبيعي للمنطقة الحدودية، حيث ارتفعت تلال من التحصينات واختفت تضاريس طبيعية من الوجود. وتتنوّع باقة التحصينات، بحسب الضابط، وتبدأ على بعد عشرات الأمتار من الموقع نفسه وصولاً إليه، وهي: "استحداث منحدرات عميقة تمتدّ لكيلومترات حول المواقع، تتفاوت ارتفاعاتها بين 7 و15 متراً، ثمّ أسلاك إلكترونية ترصد الحركة وتنقلها إلى مركز قيادة، ثمّ بعدهما الطريق العسكري الخاص بالدوريات، ثم السياج المصمم لصدّ الصواريخ التي قد تستهدف الموقع في أي هجوم، وأخيراً أبراج المراقبة التي يعتليها الجنود داخل المواقع، وتتصل بأبراج مراقبة وتنصت".
تتوافق هذه التحضيرات الإسرائيلية مع رؤية الحزب للحرب المُقبلة، والتي سيتحوّل فيها - كما يأمل ـ إلى قوة هجوم وليس قوة دفاع فقط. وهو ما يمنحه تفوقاً معنوياً مع الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة العقائدية لتأهيل مقاتلي "حزب الله" الذين يُشكلون جيشاً صغيراً من العناصر ذات التدريب العسكري عالي المستوى. وقد عبّر لبنان الرسمي، وعلى لسان مُختلف المسؤولين، عن رفضه للإجراءات الإسرائيلية المُستحدثة على الحدود. وتمّ نقل المواقف اللبنانية إلى مُختلف أذرع الأمم المُتحدة الدبلوماسية والعسكرية لوضعها أمام مسؤولياتها، وهي التي تنشر حوالى 10 آلاف جندي ضمن قوات حفظ السلام في الجنوب اللبناني. وقد فشلت الولايات المُتحدة - رغم مساعيها الحثيثة - في توسيع ولاية قوات الأمم المُتحدة (اليونيفيل)، وتحويلها فعلياً إلى قوة هجومية تستهدف "حزب الله". وهو المسعى الذي عرقلته فرنسا وروسيا في مجلس الأمن الدولي خلال العام الماضي.
وإلى الغرب، وتحديداً في المياه الإقليمية اللبنانية، تبرز الأزمة الحدودية الثالثة التي تحمل طابعاً اقتصادياً صرفاً. والأزمة البحرية هذه، على خلاف الأزمات الحدودية الأخرى، بعيدة عن مجريات الأزمة السورية وتعقيداتها، إذ توحّد الموقف اللبناني الرسمي بشكل كامل ومن دون تحفّظات أو ملاحظات، حولها. وعنوان المشكلة: ادعاء إسرائيل سيادتها على الرقعة (البلوك) النفطي رقم 9، وتهديد لبنان وائتلاف الشركات الروسية والإيطالية والفرنسية التي وقّعت على عقود استخراج الغاز من هذا الحقل.
ردّ لبنان على ذلك بشكل حاسم، على لسان الرؤساء الثلاثة، وعلى لسان وزيري الخارجية والطاقة، وأيضاً "حزب الله". يمكن ترجمة عبارة "التأكيد على حق لبنان في الدفاع بكل الوسائل المتاحة عن نفسه وعن مصالحه الاقتصادية المحقة والموثقة في حال أي اعتداء عليها، والقيام بأي رد ممكن مماثل" التي وردت في رسالة من الخارجية إلى الأمم المتحدة، بقوة "حزب الله" التي وضعها نصر الله على طاولة النفط، مُعلناً القدرة والنية على حماية الاستثمارات النفطية اللبنانية واستهداف المنشآت الإسرائيلية في حال وقوع أي اعتداء اسرائيلي عليها.
"الجبهات الداخلية"
أمّا في الداخل الإسرائيلي، فإنّ تصريحات المسؤولين الإسرائيليين كافة تعكس تصعيداً كبيراً عنوانه "خطر صواريخ حزب الله" و"عدم التمييز بين الحزب وبين أجهزة الدولة العسكرية والأمنية والسياسية في أي حرب مقبلة". كما أظهر مؤشر الأمن القومي الإسرائيلي، أن 66 في المائة من الإسرائيليين يؤيدون شنّ ضربات ضد "حزب الله"، والمبادرة إلى نشاط عسكري إسرائيلي لوقف تعاظم قوة الحزب، حتى لو كلّفت هذه الضربات الإسرائيلية اندلاع حرب جديدة.
ونقل نتنياهو، إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أجواء حكومته التصعيدية. وقال في تصريحات خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو، إنه سيبحث مع بوتين في "محاولة إيران تحويل لبنان إلى قاعدة صواريخ كبيرة، وموقعاً لتصنيع الصواريخ الدقيقة ضد إسرائيل، وهو ما لن نحتمله". ويقابل الانفتاح الروسي - الإسرائيلي تمييز أميركي بين الحكومة اللبنانية وبين "حزب الله"، إضافة إلى الانفتاح الأمني لدول أوروبية على "حزب الله" وطلبها التنسيق معه في ملف "مكافحة الإرهاب".
وقد أعلن القائم بأعمال نائب وزير الخارجية الأميركي، والسفير الأميركي السابق في بيروت، دايفيد ساترفيلد، "مواصلة جهودنا لدعم مؤسسات أمنية رسمية وشرعية في لبنان مثل القوات المسلحة اللبنانية، القوة الشرعية الوحيدة في لبنان". وأضاف ساترفيلد في مؤتمر نظمه مركز أبحاث تابع لجامعة بتل أبيب، الأسبوع الماضي، أن "الجيش اللبناني قد يعمل جيداً كقوة موازنة أمام رغبة حزب الله في توسيع نفوذه هناك وأمام تأثير إيران في لبنان". وقدّمت الولايات المتحدة دعماً للجيش اللبناني بقيمة مليار ونصف مليار دولار أميركي منذ عام 2006، وحتى اليوم. وهو دعم منح الجيش تقنيات كافية لإدارة حرب ضد الجماعات "الإرهابية" فقط، وليس القدرة على مواجهة جيش متفوّق كالجيش الإسرائيلي، بطبيعة الحال.
أما الأسئلة السياسية والسيادية فتبقى على حالها، وتتناول بشكل أساسي سلطة "قرار الحرب والسلم" الذي انتقل بشكل كامل من يد السلطات اللبنانية إلى يد "حزب الله"، الذي وضع بدوره الحكومة أمام أمر واقع في سورية والعراق وحتى في اليمن خلال الأعوام القليلة الماضية. كما أضيف عامل مستحدث، هو تعرّض التحالف بين "حزب الله" وحزب رئيس الجمهورية، "التيار الوطني الحر"، إلى انتكاسة كبيرة جعلت الصحف المحسوبة على "حزب الله" في لبنان تتحدّث عن "انتهاء التسوية" التي أوصلت ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وذلك على خلفية الحرب السياسية التي اندلعت بين حليفي حزب الله، أي "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل". وقد تكون هذه من النقاط التي ربما تفسّر الاستعجال الإسرائيلي لشنّ عدوان جديد على لبنان، إذ يمكن لحزب الله أن يجد نفسه وحيداً في الساحة الداخلية في حال نشوب عدوان، على عكس ما حصل في حرب 2006 حين التفّ حوله عدد كبير من القوى الرئيسية خصوصاً التيار الوطني الحرّ، وهو ما أمّن للحزب مشروعية شعبية لدى طيف من الطائفة المسيحية لكي يراكم الحزب نفوذاً متزايداً منذ 2006 حتى اليوم.