21 نوفمبر 2024
لحظات عابرة.. عظيمة
استئنافا لموضوع المقال السابق، (الأحداث الكبرى والأدب الكبير) في "العربي الجديد" (4/4/2018)، يبقى السؤال طازجا ومفتوحا على احتمالات متعدّدة بشأن ما اصطلح على تسميته في الكويت أدب الغزو، وهو الأدب الذي تناول الغزو العراقي للكويت في العام 1990.
صحيحٌ أن ثلاثة عقود تقريبا قد مرت على الحدث المزلزل للوجدان الكويتي والعربي كله، وصحيحٌ أن أعمالا شعرية وروائية وقصصية كثيرة صدرت عن الحدث وحوله وانطلاقا منه، في الكويت وخارجها، لكن الصحيح أيضا أن الحدث ما زال يحتمل المزيد والأفضل مما صدر من كتب عنه.
سمعت وقرأت لمن يقول إن الإصرار على الكتابة عن أحداث سوداء مرّت بأمتنا العربية كهذه لا يفيد سوى من يود النفخ في الجمر الخامد تحت الرماد. وأنها تضرّ أكثر مما تفيد، وأن أحدا لا يريد استرجاع الذكريات المريرة حتى عن طريق الأدب، وأن الحدث قد مضى، وأصبح في طي النسيان بالنسبة لكثيرين، وأن الكويت قد تحرّرت، ومضى الغزاة بسواد أعمالهم إلى مصيرهم الأبدي، وأن أحداثا أخرى كبيرة تلت ذلك الحدث، وأن أكثر الذين كتبوا عن الغزو والاحتلال والتحرير كانوا ممن عايشوا تلك الأحداث بالفعل، أو عاش زمنها بوعي الثقافي كله. وبالتالي هم الأقدر على كتابته وتوثيقه أدبيا، وأن أي كتابةٍ جديدةٍ بأقلام الأجيال اللاحقة لن تكون بدقة ما كتبه من سبقهم. وأن القارئ، في الكويت على الأقل، قد ملّ من قراءة ذلك التاريخ القريب، بأشكال وصور إبداعية مختلفة ومستويات متعدّدة، ولم يعد يُقبل على قراءتها كما كان يحدث في السنوات القليلة التالية للحدث، وأن الإصرار على الكتابة عن أحداثٍ تاريخيةٍ بهذا الحجم لا يمنح أي حجم للنص الشعري أو الروائي، إن كان الشاعر أو الروائي لا يستند إلى سوى حجم موضوعه وحسب. ولهذه الأسباب، كلها أو بعضها، لم يعد من الذكاء أن يقلب الروائيون والشعراء أوراق التاريخ، ليتوقفوا عند تاريخ الثاني من أغسطس/ آب 1990، فيعيدوا النظر إليه، ويبحثوا عن زوايا يرون أنها لم تكتشف بعد منه ليكتبوها. وهكذا تثور الأسئلة الجديدة:
ما فائدة الكتابة عن حدث معين، سبق أن كتب عنه الكثير، مجددا الآن؟ وما الجديد الذي يمكن أن يضيفه أي شاعر أو روائي أو قاص إلى ما كتب فعلا؟ تجعلنا أسئلة كهذه نعيد التفكير بمعنى الأدب أو الإبداع ككل، لنكتشف أن أي معنىً معتبرا للأدب لا يمكن أن يدخل في دائرة التأريخ أو التوثيق. وبالتالي، لا ينبغي أن يستبعد المبدع أي موضوع يودّ الكتابة عنه، لمجرد أن الآخرين قد أشبعوه كتابة، وأن دقائقه وتفاصيله موثقة بالكامل، فالأدب ليس تاريخا، والإبداع ليس توثيقا لذلك التاريخ. هذا باعتبار أن حدث الغزو قد وثّق وأرخ بالكامل فعلا، على الرغم من أن هذا غير صحيح. فما زالت فجواتٌ وثقوبٌ كثيرة تلوح لأي باحثٍ بوضوح في نسيج العقود الثلاثة الماضية، وما سبقها بقليل.
وما ينطبق على حدث الغزو العراقي للكويت، مثالا وحسب، ينطبق على بقية الأحداث الكبرى، والصغرى أيضا، ويؤكد القاعدة أن الأحداث الكبرى لا تنتج بالضرورة أدبا كبيرا فقط لأنها أحداث كبرى. وهذا يعني، مرة أخرى، أن المبدع الحقيقي لا ينبغي له أن يتكئ على ما كتبه الآخرون، وهو بصدد كتابته الخاصة، فهو قادر، وفقا لحجم موهبته بالتأكيد، على صناعة الإبداع من أي حدث. وحتى وإن كان لحظة عابرة لم يتوقف عندها أحد سواه. وأعمال إبداعية عظيمة كثيرة انطلقت من لحظة عابرة حقيقية أو متخيلة.. لكنها أصبحت واقعا كبيرا بفضل الإبداع الحقيقي وحسب.
صحيحٌ أن ثلاثة عقود تقريبا قد مرت على الحدث المزلزل للوجدان الكويتي والعربي كله، وصحيحٌ أن أعمالا شعرية وروائية وقصصية كثيرة صدرت عن الحدث وحوله وانطلاقا منه، في الكويت وخارجها، لكن الصحيح أيضا أن الحدث ما زال يحتمل المزيد والأفضل مما صدر من كتب عنه.
سمعت وقرأت لمن يقول إن الإصرار على الكتابة عن أحداث سوداء مرّت بأمتنا العربية كهذه لا يفيد سوى من يود النفخ في الجمر الخامد تحت الرماد. وأنها تضرّ أكثر مما تفيد، وأن أحدا لا يريد استرجاع الذكريات المريرة حتى عن طريق الأدب، وأن الحدث قد مضى، وأصبح في طي النسيان بالنسبة لكثيرين، وأن الكويت قد تحرّرت، ومضى الغزاة بسواد أعمالهم إلى مصيرهم الأبدي، وأن أحداثا أخرى كبيرة تلت ذلك الحدث، وأن أكثر الذين كتبوا عن الغزو والاحتلال والتحرير كانوا ممن عايشوا تلك الأحداث بالفعل، أو عاش زمنها بوعي الثقافي كله. وبالتالي هم الأقدر على كتابته وتوثيقه أدبيا، وأن أي كتابةٍ جديدةٍ بأقلام الأجيال اللاحقة لن تكون بدقة ما كتبه من سبقهم. وأن القارئ، في الكويت على الأقل، قد ملّ من قراءة ذلك التاريخ القريب، بأشكال وصور إبداعية مختلفة ومستويات متعدّدة، ولم يعد يُقبل على قراءتها كما كان يحدث في السنوات القليلة التالية للحدث، وأن الإصرار على الكتابة عن أحداثٍ تاريخيةٍ بهذا الحجم لا يمنح أي حجم للنص الشعري أو الروائي، إن كان الشاعر أو الروائي لا يستند إلى سوى حجم موضوعه وحسب. ولهذه الأسباب، كلها أو بعضها، لم يعد من الذكاء أن يقلب الروائيون والشعراء أوراق التاريخ، ليتوقفوا عند تاريخ الثاني من أغسطس/ آب 1990، فيعيدوا النظر إليه، ويبحثوا عن زوايا يرون أنها لم تكتشف بعد منه ليكتبوها. وهكذا تثور الأسئلة الجديدة:
ما فائدة الكتابة عن حدث معين، سبق أن كتب عنه الكثير، مجددا الآن؟ وما الجديد الذي يمكن أن يضيفه أي شاعر أو روائي أو قاص إلى ما كتب فعلا؟ تجعلنا أسئلة كهذه نعيد التفكير بمعنى الأدب أو الإبداع ككل، لنكتشف أن أي معنىً معتبرا للأدب لا يمكن أن يدخل في دائرة التأريخ أو التوثيق. وبالتالي، لا ينبغي أن يستبعد المبدع أي موضوع يودّ الكتابة عنه، لمجرد أن الآخرين قد أشبعوه كتابة، وأن دقائقه وتفاصيله موثقة بالكامل، فالأدب ليس تاريخا، والإبداع ليس توثيقا لذلك التاريخ. هذا باعتبار أن حدث الغزو قد وثّق وأرخ بالكامل فعلا، على الرغم من أن هذا غير صحيح. فما زالت فجواتٌ وثقوبٌ كثيرة تلوح لأي باحثٍ بوضوح في نسيج العقود الثلاثة الماضية، وما سبقها بقليل.
وما ينطبق على حدث الغزو العراقي للكويت، مثالا وحسب، ينطبق على بقية الأحداث الكبرى، والصغرى أيضا، ويؤكد القاعدة أن الأحداث الكبرى لا تنتج بالضرورة أدبا كبيرا فقط لأنها أحداث كبرى. وهذا يعني، مرة أخرى، أن المبدع الحقيقي لا ينبغي له أن يتكئ على ما كتبه الآخرون، وهو بصدد كتابته الخاصة، فهو قادر، وفقا لحجم موهبته بالتأكيد، على صناعة الإبداع من أي حدث. وحتى وإن كان لحظة عابرة لم يتوقف عندها أحد سواه. وأعمال إبداعية عظيمة كثيرة انطلقت من لحظة عابرة حقيقية أو متخيلة.. لكنها أصبحت واقعا كبيرا بفضل الإبداع الحقيقي وحسب.