22 نوفمبر 2024
لقاءات موسكو والحضيض الفلسطيني
إذا أردت دليلاً جديداً ينضاف إلى دلائل كثيرة سابقة بشأن الحضيض الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، يكفيك أن تنظر إلى اللقاء الموسّع الذي جمع فصائل وشخصيات فلسطينية، في مقدمتهم حركتا فتح وحماس، في موسكو، بهدف بحث إنهاء الانقسام الفلسطيني القائم منذ عام 2007. فالفلسطينيون يقرّون، بعد سنين من جولات حوارٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، في القاهرة والدوحة وقطاع غزة، وغيرها من العواصم والمدن، أنهم عاجزون عن تحقيق مصالحةٍ وطنيةٍ بإرادةٍ ذاتية، وأنهم بحاجة إلى عونٍ عربيٍ وأجنبي، حتى ولو كان روسياً. ولا تقف المشكلة عند العجز الفلسطيني الذاتي، بغض النظر عن الأسباب والمسببات الآن، وبغض النظر عمّن يتحمل الجزء الأكبر من اللوم، فالأدهى أن يكون الوسيط نفسه طرفاً مجرماً، يسفك ليل نهار دماء السوريين بشكل مباشر، ويرتكب مجازر بشعة ضدهم.
في التفاصيل، استضاف معهد الدراسات الشرقية في الأكاديمية للعلوم (يُفْتَرَضُ أنه هيئة غير رسمية ومستقلة لمن كان يصدّق أن في روسيا مراكز دراسات مستقلة كلياً عن الكرملين)، لقاء موسعاً لفصائل وإطارات فلسطينية بين 15-17 من يناير/كانون الثاني الجاري، في ندوة "المصالحة الفلسطينية ومستقبل البلاد". وبالإضافة إلى حركتي حماس وفتح، شاركت الجبهتان، الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية- القيادة
العامة، وحزب الشعب، والمبادرة الوطنية الفلسطينية. ويوم الاثنين الماضي، اجتمعت الوفود الفلسطينية مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي لم يتردّد في رَشِّ الملح على جراحاتنا فلسطينياً، عندما ذَكَّر الجالسين أمامه بأن استمرار الشرخ والانقسام فلسطينياً، وغياب رؤية واحدة تجمعهم، يصعّبان من إمكانية حل أزماتهم وأزمة القضية الفلسطينية. جانب آخر من سوريالية المشهد هنا أن الدبلوماسية الروسية التي يمثلها لافروف، وتطالبنا، فلسطينياً، بالاتفاق والوحدة لصالح قضيتنا، هي الدبلوماسية نفسها التي تعمل على تشتيت المعارضة السورية وتمزيقها شَرَّ ممزق، دع عنك اصطناع "معارضاتٍ" تعمل تحت جناح نظام بشار الأسد. ولعل الدور الروسي في محاولات العبث في تشكيلة من يمثل المعارضة السورية في مفاوضات أستانا مع النظام فيه ما يكفينا مؤونة التفصيل والتوثيق.
في سياق المفارقات الصادمة أيضا، أنه في وقت كانت الفصائل والتيارات الفلسطينية تلتقي في موسكو بحثاً عن مصالحةٍ وطنية، كان هناك تصعيد في التراشق الإعلامي بين فتح و"حماس" حول حقيقة المسؤول عن أزمة الكهرباء في قطاع غزة، فرامي الحمد الله، الذي يفترض أنه رئيس وزراء حكومة التوافق الوطني الفلسطيني، بناء على مخرجات اتفاق مخيم الشاطئ بين الحركتين عام 2014، اتهم "حماس" بالمسؤولية عن الأزمة، جرّاء تشكيلها "حكومة ظل" في القطاع، كما قال. في حين تتهم "حماس" حكومته بأنها لا تعمل حكومة وفاق وطني، بقدر ما تعمل حكومةً لحركة فتح وسلطة رام الله، وأن أزمة الكهرباء نتاج تخلي حكومته عن مسؤولياتها في القطاع، وفرض ضرائب باهظة على سكانه. وتأبى المفارقات الصادمة أن تنتهي عند ذلك الحد، فمع إعلان الوفود الفلسطينية في موسكو توصلها إلى اتفاق، يوم 17/11، يقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو أمر اتفقوا عليه مرات عديدة في سنوات الانقسام العشر، آخرها في بيروت قبل أقل من أسبوعين، كان محمود عباس يشن هجوماً لاذعاً على "حماس" يهدّد فيه بعدم حل مشكلة الكهرباء في القطاع، إن لم "تصحح حركة حماس كل الأمور"، على الرغم من أن قطر تكفلت بتغطية تكلفة الكهرباء ثلاثة أشهر. عملياً، ليست سلطة رام الله بريئة أبداً من الحصار المفروض على قطاع غزة، ودورها فيه معروف، وقد سبق لعباس نفسه أن تباهى بأنه من نصح نظام عبد الفتاح السيسي في مصر بإغراق الحدود مع قطاع غزة بمياه البحر. أضف إلى ذلك، أن تصريحات كثيرة نُقلت عن مسؤولين في سلطة عباس تؤكد أن ثمة "فيتو" إسرائيلياً على أي مصالحةٍ مع "حماس"، ورأب الصدع بين جناحين من أجنحة الوطن الفلسطيني. هذه حقائق فاضحة، لكنها تصبح أكثر فجاعةً عندما نضعها في سياق بحثنا عن مصالحةٍ ذاتيةٍ في دولةٍ تمارس الإجرام ضدنا، نحن العرب والمسلمين، إن كان بقي للانتماءيْن، العروبي والإسلامي، عندنا معنى.
ما سبق من نقد يتعلق تحديداً بملف المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية، وليس بمحاولات تعزيز العلاقات مع روسيا فلسطينياً. ثمة فارق بين السياقين، فروسيا اليوم، أحببنا أم كرهنا، لاعب دولي مهم جدا، وهي تمكنت من التمدّد في ساحاتٍ شبه فارغة، نتجت عن التراجع والتردّد الأميركي، تحت إدارة باراك أوباما، ومن تلك الساحات والفضاءات، منطقتنا العربية. ولذلك،
أي نقد يوجّه للفلسطينيين في بحثهم عن دعمٍ وتفاهمات، وإن في الحدود الدنيا، مع الروس، ليس في مكانها، خصوصاً بعد تصويت مجلس الأمن الدولي، أواخر العام الماضي، على إدانة الاستيطان الإسرائيلي، وتهديدات فريق الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة. فاوضت المعارضة السورية، نفسها، روسيا، ولا زالت، قبل تدخلها العدواني في سورية وبعده. وبالمناسبة، عندما كانت تفاوضها، بما في ذلك في موسكو، في مرحلة ما قبل العدوان المباشر، فاوضتها وهي تعلم أنها أحد الداعمين الأساس لعصابة بشار الأسد. هذه من أسفٍ ضرورات السياسة، ولكن ضرورات السياسة لا ينبغي أن تنسينا أبداً البوصلة الأخلاقية، وهي، بهذا المعنى، تجعل من روسيا عدواً معتدياً، حتى وإن اضطررنا إلى التعامل معها اليوم، لأسبابٍ عمليةٍ فوق طاقتنا وقدراتنا. ولعل من المهم التذكير، هنا، بأن للمعارضة السورية علاقات تجمعها مع دولةٍ كالولايات المتحدة، مثلا، على الرغم من أنها ارتكبت جرائم حرب في العراق، وسياساتها في المنطقة سيئة بحق العرب.
عودة إلى اجتماعات بحث المصالحة فلسطينياً في موسكو. ما جرى هناك في هذا الملف مُخْزٍ للفلسطينيين جميعا، خصوصاً أن الجميع يعلم يقيناً أنه لن تنتج عنها مصالحة، فما عجز الفلسطينيون عن تحقيقه في عقر وطنهم المحتل، وفي العواصم العربية، لن يحقّقوه في موسكو، ولا في غيرها من عواصم العالم. ثمة انعدام للإرادة السياسية الذاتية في تحقيق المصالحة فلسطينياً، والقيادة الفلسطينية الرسمية مرتهنة في هذا الملف للفيتو الإسرائيلي، ولبعض تحفظات عربية، دع عنك قِصَرِ النظر والمناكفات الشخصية والفصائلية المسكونة بها. هذه هي الحقيقة، وإنكارنا لها لن يغيّر من الواقع شيئاً.
في التفاصيل، استضاف معهد الدراسات الشرقية في الأكاديمية للعلوم (يُفْتَرَضُ أنه هيئة غير رسمية ومستقلة لمن كان يصدّق أن في روسيا مراكز دراسات مستقلة كلياً عن الكرملين)، لقاء موسعاً لفصائل وإطارات فلسطينية بين 15-17 من يناير/كانون الثاني الجاري، في ندوة "المصالحة الفلسطينية ومستقبل البلاد". وبالإضافة إلى حركتي حماس وفتح، شاركت الجبهتان، الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية- القيادة
في سياق المفارقات الصادمة أيضا، أنه في وقت كانت الفصائل والتيارات الفلسطينية تلتقي في موسكو بحثاً عن مصالحةٍ وطنية، كان هناك تصعيد في التراشق الإعلامي بين فتح و"حماس" حول حقيقة المسؤول عن أزمة الكهرباء في قطاع غزة، فرامي الحمد الله، الذي يفترض أنه رئيس وزراء حكومة التوافق الوطني الفلسطيني، بناء على مخرجات اتفاق مخيم الشاطئ بين الحركتين عام 2014، اتهم "حماس" بالمسؤولية عن الأزمة، جرّاء تشكيلها "حكومة ظل" في القطاع، كما قال. في حين تتهم "حماس" حكومته بأنها لا تعمل حكومة وفاق وطني، بقدر ما تعمل حكومةً لحركة فتح وسلطة رام الله، وأن أزمة الكهرباء نتاج تخلي حكومته عن مسؤولياتها في القطاع، وفرض ضرائب باهظة على سكانه. وتأبى المفارقات الصادمة أن تنتهي عند ذلك الحد، فمع إعلان الوفود الفلسطينية في موسكو توصلها إلى اتفاق، يوم 17/11، يقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو أمر اتفقوا عليه مرات عديدة في سنوات الانقسام العشر، آخرها في بيروت قبل أقل من أسبوعين، كان محمود عباس يشن هجوماً لاذعاً على "حماس" يهدّد فيه بعدم حل مشكلة الكهرباء في القطاع، إن لم "تصحح حركة حماس كل الأمور"، على الرغم من أن قطر تكفلت بتغطية تكلفة الكهرباء ثلاثة أشهر. عملياً، ليست سلطة رام الله بريئة أبداً من الحصار المفروض على قطاع غزة، ودورها فيه معروف، وقد سبق لعباس نفسه أن تباهى بأنه من نصح نظام عبد الفتاح السيسي في مصر بإغراق الحدود مع قطاع غزة بمياه البحر. أضف إلى ذلك، أن تصريحات كثيرة نُقلت عن مسؤولين في سلطة عباس تؤكد أن ثمة "فيتو" إسرائيلياً على أي مصالحةٍ مع "حماس"، ورأب الصدع بين جناحين من أجنحة الوطن الفلسطيني. هذه حقائق فاضحة، لكنها تصبح أكثر فجاعةً عندما نضعها في سياق بحثنا عن مصالحةٍ ذاتيةٍ في دولةٍ تمارس الإجرام ضدنا، نحن العرب والمسلمين، إن كان بقي للانتماءيْن، العروبي والإسلامي، عندنا معنى.
ما سبق من نقد يتعلق تحديداً بملف المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية، وليس بمحاولات تعزيز العلاقات مع روسيا فلسطينياً. ثمة فارق بين السياقين، فروسيا اليوم، أحببنا أم كرهنا، لاعب دولي مهم جدا، وهي تمكنت من التمدّد في ساحاتٍ شبه فارغة، نتجت عن التراجع والتردّد الأميركي، تحت إدارة باراك أوباما، ومن تلك الساحات والفضاءات، منطقتنا العربية. ولذلك،
عودة إلى اجتماعات بحث المصالحة فلسطينياً في موسكو. ما جرى هناك في هذا الملف مُخْزٍ للفلسطينيين جميعا، خصوصاً أن الجميع يعلم يقيناً أنه لن تنتج عنها مصالحة، فما عجز الفلسطينيون عن تحقيقه في عقر وطنهم المحتل، وفي العواصم العربية، لن يحقّقوه في موسكو، ولا في غيرها من عواصم العالم. ثمة انعدام للإرادة السياسية الذاتية في تحقيق المصالحة فلسطينياً، والقيادة الفلسطينية الرسمية مرتهنة في هذا الملف للفيتو الإسرائيلي، ولبعض تحفظات عربية، دع عنك قِصَرِ النظر والمناكفات الشخصية والفصائلية المسكونة بها. هذه هي الحقيقة، وإنكارنا لها لن يغيّر من الواقع شيئاً.