للتذكير ... الصحافة مهنة محترمة
شعار يتداوله صحافيون في ترويج مقالات ومواد متنوعة، عن تعامل الصحافة العربية مع قضايا جدلية، وفضائح صحافيين باتت ذائعة الصيت ومادة يومية للتندّر، أو لرثاء مهنةٍ يصرّ الشغوفون بها على أنها لا تزال محترمة.
شهد الإعلام المصري، في الأسبوعين الماضيين، حملة انتقاد ركّزت على الأداء الهابط لبعض "قادة الرأي" الجدد من مقدمي البرامج الحوارية، والذين بات تأثيرهم يمتدّ من مجرد إدارة حوار إلى توجيه الرأي العام، من دون أي قيدٍ لما يمكن أن يتضمن هذا التوجيه من أشكال شيطنة الآخر، أو استهداف آخرين، أو الإساءة إلى قيمٍ ما، أو مجموعةٍ ما، أو حتى إلى شعب. ولعلّ الأزمة بين مصر والمغرب، والتي سبّبتها إساءة المذيعة أماني خياط، في زعمها أن "الاقتصاد المغربي يقوم على الدعارة"، مثال جيّد لحالة الانفلات التي شابت أداء بعض هؤلاء المحاورين، ومدى سطوتهم على مضامين برامجهم، من دون تدخل إدارات المحطات. ويثير تأخر قرار إيقاف المذيعة عن عملها، على الرغم من حملة الاستياء الواسعة، واضطرار المحطة لتقديم اعتذار، التساؤل بشأن مبرّر سطوة هؤلاء، على الرغم من فداحة الأخطاء الصادرة عنهم.
وقد قاد حملة الاعتراض على هذا التراجع المهني المضطرد رئيس تحرير صحيفة خاصة، وفي ذلك تأكيد لدور الصحافة التي تسمى المستقلة في تطوير الإعلام المصري، وتحرير خطابه، إلا أن هذه الحملة لم تقدم مراجعة لأداء الإعلام المصري منذ الثورة، وتحوّله منبراً للصراعات السياسية أولاً، ثم بوقاً للسلطة، بعد إطاحة حكم الإخوان المسلمين. وبعيداً عن السياسة، تقدم الصحف المصرية، ومنها ما كانت رائدةً في تطوير الخطاب الإعلامي، وبما في ذلك صحيفة رئيس التحرير نفسه، كل أنواع "الأخبار" التي قد يخيّل للقارئ أنها مجرد نكتة. ولعلّ أبرز ما يُفترض أن تتصدى له حملة المراجعة هذه تحوّل أعمدة الرأي و"التوك الشو" إلى مساحاتٍ للتحريض، بكل أشكاله وأنواعه، وصولاً إلى حد تبرير قتل الأطفال في غزة، وإعلان بعض مقدمي البرامج وكبار الإعلاميين، صراحةً، علاقتهم الوثيقة بالجهات الأمنية، والتباهي بالتعاون معها.
وكانت قناة "القاهرة والناس" قد أعلنت، قبل أيام، تعليق برنامج "الصندوق الأسود" التي يقوم على إذاعة مكالمات خاصة لشخصيات عامة، لغرض التشهير بهم، وذكرت، في بيانٍ، أن سبب توقيف البرنامج التشهيري الذي أثار انتقادات واسعة، الحرص على "إيقاف الصراعات التي قد تهدم ولا تبني، وتشتّت ولا تبني". ورد مقدم البرنامج، عبد الرحيم علي، بالقول إنه سينشئ قناة خاصة بالبرنامج! ويطرح إيقاف البرنامج الذي بات مناسبة للتشهير بكل مَن انتقد النظام الجديد، إلى جانب توقيف إعلاميين آخرين ارتكبوا أخطاء فادحة، سؤالاً عمّا إذا كانت إدارة المحطات تراجع سياساتها، أم أن أخطاء هؤلاء المحاورين طاولت مصالح أرباب هذه المحطات، وشبكة علاقاتهم السياسية.
وفي لبنان، بات دارجاً الاعتذار عن أخطاء مهنية، وصلت إلى حد اختراع أحداث لم تقع أصلاً، أو نسب تصريحات في غاية الخطورة، بناءً على مواد تداولتها مواقع للإعلام الحديث، ومن دون التأكد من المصدر. وقد بات النقل عن وسائط الإعلام الحديث إحدى المشكلات الأبرز في الخلط بين المعلومة والشائعة. وعلى الرغم من أن الخطاب الغالب في اتهام "الصحافيين المواطنين" بالتسبّب بتراجع المستوى المهني للصحافة، فإن مرتكبي هذه الهفوات هم، في الغالب، من رواد الصحافة التقليدية.
وكان الإعلام اللبناني قد اختار طوعاً تكميم الأفواه، في تغطية أحداث المواجهات بين الجيش ومجموعات إسلامية متطرفة، في بلدة عرسال الحدودية، حيث اختار الاكتفاء بنقل وجهة نظر الجيش من الأحداث، مراعاةً لـ"معنوياته"، فتحوّلت التغطية الإعلامية إلى مجرد إطناب بدور الجيش، وضاع الخبر، بعدما باتت روايته تقتصر على وجهةٍ واحدةٍ ممجوجة وخطابية. كيف عاش أهالي عرسال المواجهات؟ ماذا عن الضحايا في صفوف المدنيين؟ ماذا يحصل تماماً على الأرض؟... كلها أسئلة لم يقدم لها الإعلام جواباً، بعدما بقي خارج منطقة المواجهات، مقدّماً رواية خطابية فارغة من الخبر، خوفاً على معنويات الجيش اللبناني ومعنويات المشاهدين الذين افترض الإعلام اللبناني (يعتبر ليبرالياً) أن تعمية الخبر عنهم هي أفضل وسيلةٍ للحفاظ على انتمائهم "الوطني".
في المقابل، تصارع وسائل الإعلام الناشطة على خط النار، من أجل الاستمرار، ومنها الإعلام الليبي ما بعد القذافي، والذي بات منصةً للمجموعات المسلحة التي سيطرت على مبانيه، وباتت، أحياناً، تتحكم مباشرة بالمضمون، إلى حد إنتاج نشرات أخبارٍ، كما نقلت مواقع للإعلام الحديث، من دون إمكان تأكيد الخبر من مصدر آخر. وتفاقم الضغوط الأمنية الكبيرة من مشكلة اختلاط المعايير لدى الصحافيين، الحديثي العهد في مجال إنتاج إعلام غير مقيّد، حيث باتت الدعوة إلى العنف، وإقصاء الآخر، أمراً مألوفاً، على مثال الحملة الإعلامية على رئيس الوزراء السابق، علي زيدان، والتي وصلت إلى حد الدعوة إلى اعتقاله، ومنعه من مغادرة البلاد.
الصحافة مهنة محترمة طبعاً. هذا ما نرغب في أن نواصل الإيمان به. ولعلّ مقتل الصحافي بالقطعة، جيمس فولي، على يد متطرفي داعش، يذكّر بهؤلاء الذين دفعوا حياتهم ثمناً للشغف بالمهنة. كما أن رومانسية الحديث عن أجيال سابقة رائدة في العمل الصحافي لا تقدّم الحل لواقع إعلاميٍّ بات فائق التعقيد، ويتطلّب رسم معايير وأسس يختارها أبناء المهنة، ويلتزمون بها، ليس فقط في وجه الرقيب والسلطة القامعة، بل، أيضاً وأولاً، في وجه عاداتهم وولاءاتهم.