الخليجي ما قبل النفط عشق الترحال قدر ما أتاحت له وسائل المواصلات آنذاك، أما خليجي اليوم فكل السبل له متاحة فتراه سائحا متجولا في أنحاء العالم، فهل وصل إلى الدقم؟! ولم يصل الدقم؟! وماذا يعرف عنها، والتقارير الاقتصادية تتوالى عنها؟! ألا يحب الشاب الخليجي أن يستكشف الفرص المتاحة في خليجه؟!
الدقم مدينة تبنى في وسط عمان تبعد عن عاصمتها مسقط ما يقارب 500 كيلومتر، مما يدخلها تحت تأثير الرياح الموسمية، فيجعل جوها معتدلا لما يقارب عشرة أشهر في السنة بعيدا عن لهيب الخليج.
هناك ميناء الدقم وحوضها الجاف ومطارها الجديد، قاعدة لوجستية مكتملة، ومدينة بمقومات عالمية بدأت ملامحها تبرز شيئا فشيئا.
ما إن يكتمل بناء مصفاة الدقم بشراكة كويتية بحلول العام 2022 إلا والمشهد كاملا سيتغير، ليس فقط بمجمع الصناعات البتروكيماوية الذي سينشأ بجانبها، وإنما أتحدث عن الحراك البشري الذي سيحدث معه.
كم هي المدن الجديدة التي طور البناء في العالم حقيقة لا حلما على الورق؟! الدقم إحداها، أفلا يفكر فيها الشاب الخليجي مستكشفا ما ستكون عليه خلال السنوات القريبة القادمة، أم سينتظر المشهد يكتمل أمام عينيه حتى يفكر بزيارة؟
تعودنا على أنماط محددة من السياحة، فلماذا يختلف الأمر في الدقم؟
الدقم متحف جيولوجي علمي طبيعي به آثار جيولوجية تحكي نشأة الأرض فوضعت له السلطنة محميات بيئية، وحديقة للصخور كأحد النوادر في العالم، مما يجعلها منجما جيولوجيا للاستثمار السياحي الفريد أو مركزا جيولوجيا علميا للأبحاث Geo Hub.
شواطئ الدقم المعروفة بجمالها تزخر في أعماق بحارها بأجود أنواع السمك الذي يتم تصدير أكثر من نصف مصائده من قشريات ورخويات إلى دول الخليج، مما يؤهلها أيضا لسياحة الصيد، إحدى هويات الخليجي التي بقيت من إرثه البحري العميق.
الحديث عن التنويع الاقتصادي في الخليج مكرر، وقليلة هي التجارب الناجحة في البعد عن الإدمان النفطي، فما الذي يمكن البناء عليه كموارد طبيعية غير النفط الخام؟
مجمع الصناعات السمكية الذي بدأت فيه الدقم وخصصت له مكانا في مخططها، وتُبنى له أكبر موانئ الصيد العمانية، يعطينا أملا نحو التوجه النوعي للتنويع الاقتصادي. للصناعات السمكية سلسلة كباقي الصناعات، والمواد المستخرجة من الثروة البحرية لا تعد ولا تحصى فهل سيتجه الخليجي إلى الاستثمار فيها؟
جميل أن نبحث عن الدعة والهدوء على شواطئ بحر العرب مستكشفين فرصا واعدة، فالمستثمر الكبير مصادر معلوماته غنية ثرية، إلا أن رهاني على جيل من رواد الأعمال الخليجيين، فلم لا تكون الدقم أحد خياراته؟
أعطت السلطنة صلاحيات واسعة لهيئة الدقم الاقتصادية لإرساء روح جديدة لجذب الاستثمار، وأطلقت مؤخرا حزمة من القوانين والتشريعات لرأس المال الأجنبي.
أما الحديث عن موقع الدقم الجغرافي وأهميته الاستراتيجية، فهو ليس وليد اليوم، بل له بعد تاريخي هام، وذلك حين رست فيها سفينة الفلامنجو مقلة لسلطانها السابق السلطان سعيد بن تيمور، رحمه الله، عام 1954 لتكن الدقم منطلقا لاستكشافات منابع النفط في عمق وسط السلطنة.
الدقم هي الموقع الأنسب لمنابع نفطها، لذا لم يكن إنشاء المصفاة الثالثة للسلطنة مفاجئا، حيث يوفر لها ولمستثمريها مخارج آمنة بعيدة عن المضيقين باب المندب وهرمز، مما يوفر من تكلفة التأمين للشحن البحري التي تزداد مع كل اضطراب.
الحديث عن الموقع الاستراتيجي لا تحدد أهميته العوامل الجغرافية وحدها، إنما أيضا القوى الاقتصادية المحيطة به، والمتمثلة في النمو الأفريقي اللافت والقوة الشرائية لدول الخليج ذات الديموغرافيا الفتية، مما يعني أنها تقع في مركز نمو بشري وبالتالي قوة استهلاكية.
التنافس يخلق روحا للإبداع ولدينا اليوم المستثمر الصيني والهندي والكوري والكويتي في الدقم، آن أوان اقتناص الفرص. رؤية المستثمر الخليجي أيا كانت قدرته مبهجة، ومهما تعصف بنا المنعطفات، فإن القوة في التكتل والتكامل الخليجي.