يطرح تراجع الاحتلال الإسرائيلي عن إجراءاته الأخيرة في المسجد الأقصى ومحيطه، بعد الصمود والمواجهة من المقدسيين وفلسطينيي الداخل المحتل، علامات استفهام حول أسباب عدم انسحابه على الوضع الفلسطيني عموماً. ورغم أنّ جولة الصمود أدت لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 14 يوليو/ تموز الحالي، إلا أن المخاوف لا تزال كبيرة من أن تعود سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى طرق التفاقية أخرى للسيطرة الميدانية على المسجد الأقصى، خصوصاً في ظل معلومات تفيد بأنّ أجهزة الأمن الإسرائيلية عارضت خطوات رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الأخيرة فقط لأنها قد تؤدي إلى اشتعال انتفاضة شعبية واسعة النطاق. وهذا التحذير لحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، دفعها للطلب من أجهزتها الأمنية التجهيز لمرحلة جديدة من التعامل مع القدس والأقصى، في سياق ما حدث من هبّة مقدسية ضد الانتهاكات الإسرائيلية، وهو ما يقلق الفلسطينيين ويجعلهم متنبهين أكثر لما قد يحدث من تطورات، مكشوفة أو غير مرئية.
وغاب الزخم الإقليمي والدولي والعربي، وحتى الشعبي، عن المعاناة التي سببها الاحتلال للأرض الفلسطينية، والمستمرة منذ 69 عاماً. وأصبحت القضية المركزية ثانوية عند كثيرين، في ظل إقليم عربي وإسلامي يعاني التوتر الداخلي والخلافات المصطنعة. ويبقى التساؤل الذي يطرحه الفلسطينيون على منصات التواصل الاجتماعي قائماً من دون إجابات واضحة من سياسيي البلد، المنقسم جغرافياً وسياسياً. وعلى المنصات الاجتماعية، كان الفرح واضحاً بالإنجاز المقدسي، رغم محاولة البعض نسبه إلى اتصالات أجراها زعماء عرب، لكن كثيرين طرحوا أسئلة عن الفارق بين قدرة مقدسيين عزّل محاصرين من كل الاتجاهات، وبلا سند قوي، على تحقيق إنجاز ولو محدود، مقابل حكومات فلسطينية وسلطة وفصائل عجزت عن تحقيق شيء مماثل.
ويشير الكاتب والمحلل السياسي، تيسير محيسن، إلى أنّ ما جرى في القدس هو محاولة من قبل الاحتلال لتوظيف الواقع الإقليمي والداخلي الفلسطيني لإقامة السيادة التامة عملياً والتحكم بالمسجد الأقصى، على اعتبار أن المسجد الأقصى عنوان سياسي بامتياز لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي. ويوضح محيسن، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ ما أعاق تقدم إسرائيل واستغلال وتوظيف الظرف الإقليمي هو الفعل الميداني للمقدسيين، وبعض المواقف التي ظهرت تباعاً تجاه إسرائيل، والمنتقدة لخطوتها بشأن التحكم بالمسجد الأقصى بهذه الطريقة. ويلفت إلى أنّ المستويات الأمنية قدمت رؤيتها للمستوى السياسي في دولة الاحتلال، وقرأت الأحداث مبكراً، وتوقعت أنه يمكن أن تتطور الأوضاع في الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 48 إلى انتفاضة شعبية، يمكن أن توظف من قبل القوى الفلسطينية المختلفة لتنفيذ عمليات مسلحة موجعة. والعوامل التي اختلفت بين ما حققه المقدسيون وما لم يحققه الفلسطينيون في الضفة وغزة، كثيرة، منها، وفق محيسن، تباين وجهات النظر الفلسطينية الداخلية، السياسية والعسكرية، والانقسام السياسي الذي هو السبب الرئيسي في التباين والفعل المختلف. ويشير إلى أنّ "القدس نقطة ارتكاز للجميع. حتى أكثر المتنازلين لا يستطيعون التخلي عن مساندة القدس، لأنهم سيفقدون كل مشروعية متبقية لهم"، لافتاً إلى أنّ القدس هي القضية التي لا خلاف فلسطينياً عليها رغم التباين حول كل القضايا الوطنية والداخلية والإقليمية.
وفي السياق، يقول الكاتب والمحلل السياسي، طلال عوكل، لـ"العربي الجديد"، إنّ المسجد الأقصى ليس موضوع قداسة ودين فقط، بل هو موضوع سياسي له علاقة عميقة بالحقوق الفلسطينية، والشعور بأن إغلاق ملف القدس، وهذا ما تريده إسرائيل، يعني إغلاق الطريق أمام تحقيق أي تسوية ودولة فلسطينية. هذا الإحساس الفلسطيني، بحسب عوكل، دفع بالمقدسيين للخروج لمواجهة الإجراءات الإسرائيلية بعيداً عن الحسابات الفصائلية وعمليات الاستثمار السياسي، ولم يكن ممكناً للناس، خارج الأقصى والقدس، أنّ يتجاوزوا القيادة الوطنية الدينية التي أدارت المعركة، فالجميع وضع حدوداً لحساباته الخاصة، وأُجبر على أن يخضع للمعايير الوطنية التي كان يحددها الميدان في القدس. ويعتبر عوكل أنّ ما جرى في القدس كان اختباراً لمدى أهمية المقاومة الشعبية في هذه المرحلة، "فهذه المرة، المقاومة الشعبية أثبتت أنها الأكثر جدارة في هذه المواجهة مع الاحتلال، على الرغم من أهمية الخيارات الأخرى". ويعزو أسباب فشل الفلسطينيين في الوصول لنتائج كالتي حققها المقدسيون، إلى غياب الوحدة الوطنية التي تجلت في القدس، "رغم أنه كانت هناك مناكفات قبل الأزمة، لكن بعدها كان هناك انسجام وذوبان جماعي، ومشهد موحد إلى حد كبير، يشكل إدانة للإخفاقات للمرحلة التي نتحدث عنها". وتتوفر القناعة، وفق حديث عوكل، بأنّ الفلسطينيين يمكنهم بأيديهم أن يعيدوا فرض القضية الفلسطينية كأولوية على الوضع العربي والإسلامي، عبر الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، واللذين يشكلان مفتاح السر في استعادة طاقات الشعب الفلسطيني وقدرته على المواجهة، إضافة إلى ضرورة وجود استراتيجية وطنية موحدة، على حد تعبيره.