24 فبراير 2017
لوحة استراتيجية شرق أوسطية في طور التشكل
تتشكل لوحة استراتيجية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، من شأنها أن تحدد أحداث العام الحالي (2016). من عناصر اللوحة: انتقال أنقرة والرياض بعلاقاتهما إلى طور تحالفي، رداً على التحالف الروسي الإيراني المتشكل في الشرق الأوسط، دخول السياسة الأميركية مرحلة انعدام الوزن، بالترافق مع غرق الدول الأوروبية في وحول مسألة اللاجئين، وتمدد تنظيم داعش إلى ليبيا وداخل أوروبا، وأخيراً، إطلاق الصين ورقتها العربية.
وصل مستشار المرشد الأعلى للثورة في إيران للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، إلى موسكو، أخيراً، في مهمة محددة: تحويل التنسيق العسكري بين محور إيران وروسيا في سورية إلى تحالف شامل بينهما على مستوى الشرق الأوسط. حالف المسؤول الإيراني الرفيع شيء من النجاح في مسعاه. بعد أشهر من الغموض حيال تعاونهما على المسرح السوري، توصل المرشد علي خامنئي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تحقيق نقلة في علاقاتهما. ترتبط هذه النقلة بالمصالح الروسية والإيرانية على كامل مساحة الشرق الأوسط.
تعتقد طهران أنها تواجه تحدياً هائلاً فيما يتعلق بالمحافظة على نفوذها في الهلال الخصيب، وبالقلب منه العراق. لا ينبع هذا التحدّي من الثورة السورية فقط، بل من العودة الأميركية إلى بغداد وخطط واشنطن لعراق ما بعد داعش. في صلب المخاوف الإيرانية القلق من فرض أميركي إقليماً سنياً داخل العراق في مقابل دعم الدول العربية والعشائر لإنهاء دولة داعش في غرب البلاد. يتكامل هذا السيناريو مع المساعي الحثيثة التي تبذلها واشنطن، للانقضاض على مدينة الرقة، بمطية كردية أو عشائرية (لا فرق، كلا الخيارين سيئان بالنسبة لإيران)، وتأسيس وجود أميركي في شرق سورية (مطار الرميلان – سد تشرين - عين العرب). تجاهد طهران كي لا تثير حفيظة الروس الذين يغضون الطرف عن تمدد "الشيطان الأكبر" داخل الحسكة وشرق حلب. تعتقد إيران أنها بحاجة إلى حليفٍ تستند إليه، وسط الفوضى الهائلة التي تشهدها المنطقة، روسيا. لدى طهران وموسكو، نقاط مشتركة كثيرة، على الأقل حيال الطاقة ومنافستيهما الإقليميتين؛ تركيا والسعودية.
في المقابل، تتركّز الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط على الإمساك بالورقة السورية. لا ينبع ذلك من حجم المصالح الروسية التاريخية في سورية، شرق المتوسط والمياه الدافئة فحسب، بل أيضاً لأن لموسكو استراتيجيات خاصة بآسيا الوسطى، لا تتحقق من دون ضبط الهلال الخصيب، من جهة، ولأنها من جهة أخرى، في غاية الاهتمام بسوق الطاقة العالمي. بالنسبة لروسيا، يمتلك هذا البلد الواقع على الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط مفتاح السيطرة على عُقد أنابيب النفط والغاز في شرق المتوسط، وله تأثير على مصير البلدان النفطية الإقليمية. لن يتخلى الكرملين عن السيطرة على سورية، لأن التحكم بجغرافية هذه الدولة سيمكنه من ابتزاز دول الخليج وتركيا وإيران، على صعيد أسعار الطاقة، وطرق نقلها. على صعيد آخر، تكافح موسكو، ومعها أنظمة دول آسيا الوسطى، ومنذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، الغول ذي الرأسين الإسلامي - الطوراني.
يعتقد الكرملين أن استقرار النفوذ الروسي في شقيقات روسيا المسلمات متوقف على قهر هذا الغول ثنائي الرأس، ومنع تغلغل النفوذين، الأميركي أو الصيني، في وسط آسيا. لذلك، تنظر موسكو بقلق إلى كل من يرفع رايتي الإسلام والقومية التركية. باختصار، السعودية وتركيا. والدولة الأخيرة أكثر إقلاقاً لموسكو، لأنها ترفع الرايتين معاً. يعتقد الكرملين أن توسع النفوذين، التركي والسعودي، في الشرق الأوسط، وتحقيق أنقرة والرياض تطلعاتهما وطموحاتهما في الهلال الخصيب، سيكون له تداعيات خطيرة على الوضع الراهن في آسيا الوسطى. يفضل بوتين أن يكافح السعودية وتركيا في الشرق الأوسط، على أن يكافح لاحتواء نفوذيهما في وسط آسيا، ومن ورائهما واشنطن. والأداة الأشد فعالية في هذا الصدد، هي، إيران. والمسرح هو، سورية.
لا يعني اقتراب الرهبر (الزعيم) الإيراني من اجتراح حلف مع القيصر الروسي، أنهما نجحا في تجاوز نقاط الاختلاف بينهما في سورية، وهي كثيرة، أهمها: مستقبل النفوذ الإيراني في سورية، وبضمنه دور المستشارين الإيرانيين ومليشيات الدفاع الوطني وحزب الله والمليشيات الأفغانية، العلاقة مع أكراد سورية، التنسيق مع إسرائيل والأردن، خطوط نقل النفط والغاز الإيراني عبر العراق وسورية. وأخيراً، انتخابات الرئاسة اللبنانية ومستقبل لبنان الذي تبدي روسيا اهتماماً أكيداً به. في المحصلة، مهدت نقاط الاتفاق لتشكيل الحلف الإيراني الروسي الذي سيتماسك، على الأقل في العام 2016. يشكل هذا العام، مفصلاً حقيقياً بالنسبة للعاصمتين. فمع دخول الولايات المتحدة موسم الانتخابات الرئاسية، وتضاؤل قدرة الإدارة الأميركية على التعامل مع التحديات الخارجية، تعتزم روسيا وإيران استغلال الفرصة السانحة، من أجل فرض وقائع جديدة في الشرق الأوسط على الرئيس باراك أوباما يقرها، وإلا لمفاوضة الرئيس الأميركي المقبل من موقع أقوى، أو للاستناد عليه في أي مواجهة مع سيد البيت الأبيض الجديد.
استغنت واشنطن، وهي تتحرك، أخيراً، لتسوية الأزمة السورية عن أي أوراق. في العمق، لا اهتمام أميركياً بسورية. الولايات المتحدة تريد استمرار هيمنتها الاستراتيجية العالمية، أو سطوتها على تفاعلات الشرق الأوسط. سورية ليست على الرادار الأميركي بشأن المسألة الأولى، وقد يكون لها تأثير ما على الثانية. بأية حال، بالإمكان أميركياً ترك هذا البلد العربي تحت رحمة صراع الروس والإيرانيين والأوروبيين والسعوديين والأتراك، لأن الأولوية لقتال "داعش".
على الرغم من أن باراك أوباما لا يبدي أدنى اهتمام بمصير السوريين الذين تخطط موسكو وطهران لإعادتهم إلى حظيرة النظام، إلا أنه أظهر، أخيراً، رغبة حقيقية في دحر داعش من شرق سورية. خطط الإدارة للانقضاض على معقل التنظيم في الرقة لم تعد سراً، والتحضيرات، في هذا الصدد، لا تزال تتسارع. تريد واشنطن من تدمير معقل داعش السوري إضعافه في العراق بتقليص قدرته على المناورة بين حدود "سايكس بيكو"، قبل إطلاق الهجوم الكبير على مدينة الموصل العراقية، المرجح نهاية عهد أوباما. إذا سارت الأمور وفق الخطط، سيسقط الشرق السوري والغرب العراقي في أيدي العم سام المنتصر على داعش.
من زاوية التنافس الدولي، تشعر واشنطن بقلق من خطط بوتين في شرق المتوسط وتأثيراتها على حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنها، تؤكد أن روسيا لم تعد خطرة كما كانت أيام الحرب الباردة، لتراجعها على سلم القوة العالمية، وصعود جارتها الرهيبة، الصين. بخلاف بكين والعواصم الخليجية، تتفق واشنطن مع موسكو وطهران على أن السعر العالمي للنفط منخفض بشكل غير مقبول. غايتان، ستدفعان الولايات المتحدة إلى الترحيب بصعود أسعار النفط. الأولى، زيادة حدة المأزق الاقتصادي في الصين. وتتمثل الثانية في إنعاش صناعة النفط الصخري الأميركية التي تعرّضت لانتكاسة بعد انهيار أسعار النفط.
هكذا، يتكامل الالتباس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران وروسيا في الشرق الأوسط. تريد واشنطن الشرق السوري، كي تضمن موقعها الجديد في العراق، لكنها موافقة على ترك ممر لإيران عبر محافظة حمص، يقطع مدينة تدمر إلى لبنان، وانتشار الروس في القامشلي، لزيادة الرقابة على الأتراك. الإدارة الأميركية قلقة من الانتشار العسكري الروسي في شرق المتوسط، لكنها أكثر اهتماماً بالمشهد الاستراتيجي المتشكل في الشرق الأقصى والمحيط الهادئ. واشنطن تدعم خططاً لمرور النفط والغاز عبر الشرق والغرب، تطوّق روسيا، لكنها تتفق مع هذه الأخيرة على ضرورة تحريك سعر النفط العالمي.
ريثما يتضح هذا الالتباس، تحرّكت السعودية وتركيا لتأليف محور استراتيجي في مواجهة التحالف الروسي الإيراني. لا تريد أنقرة والرياض أكثر من التنسيق مع واشنطن. قرّرت هاتان العاصمتان الاستفادة من الغموض الأميركي، من أجل دفع إدارة أوباما إلى تأييدهما، في الخطوات التي تعتزمان القيام بها، من أجل تصحيح موازين القوى الإقليمية، والتي بالضرورة مسرحها سورية.
تدرك السعودية أنه سيكون لانتصار المحور الإيراني الروسي تداعيات لا تحصى على أمنها القومي. ستكون هذه التداعيات كارثيةً على الأقل، فيما يتعلق بنفوذ السعودية في الخليج، ووحدتها الوطنية، ودورها في سوق النفط العالمي. ستتحكم إيران من خلال سيطرتها على العراق، بمنظمة أوبك. وبذلك، يمكن لإيران وروسيا أن تتحكما من خارج "أوبك" بالسعر العالمي للنفط.
سيُفقد انتصار المحور الإيراني الروسي في سورية أنقرة أي نفوذ في المنطقة. سيعزلها عن شؤون الهلال الخصيب. سيعيد تأسيس معادلة "سايكس بيكو"، ولكن بمخاطر أكبر. سيحل عدو تركيا اللدود، روسيا في سورية، ومنافستها التاريخية، إيران، كلاً من العراق وسورية. سيترك الروس والإيرانيون للأتراك تقليع شوك الأكراد واللاجئين. وربما خططوا لابتزاز تركيا، انطلاقاً من الحدود السورية التركية الشاسعة التي يباهي الأتراك بأنها تمتد إلى أكثر من 900 كيلو متر.
تبدي أوروبا إشاراتٍ على اهتمامها بالجانب الإنساني والأمني للأزمة السورية فقط. وهي تهتم بمجريات الأمور في سورية. ولكن، من زاوية اللاجئين وعودة المقاتلين الأجانب من سورية والعراق إلى القارة العجوز عبر تركيا. إلى الآن، لم تبلور أوروبا أي استراتيجية واضحة حيال احتمال سيطرة روسيا وإيران على سورية، على الرغم من التداعيات الخطيرة على الأمن الأوروبي. وبالأخص، زيادة سيطرة روسيا على ممرات الطاقة إلى أوروبا. لن تقدم أوروبا أو أي دولة أوروبية على اجتراح استراتيجية مجابهة في سورية، من دون العون الأميركي.
وبينما أوروبا مرتبكة، والولايات المتحدة غير مهتمة، وروسيا متحفزة، أطلقت الصين سياسة جديدة حيال الشرق الأوسط. ترى بكين أن القوى الكبرى والإقليمية تتنافس لملء الفراغ في الشرق الأوسط، والذي خلفه قرار واشنطن مراجعة موقفها في المنطقة، لا سيما الهلال الخصيب. أمام الصين ثلاثة خيارات لتأسيس مواقعها الشرق الأوسطية: دعم روسيا وإيران في جهودهما لملء الفراغ الأميركي، أو موازنة الروس والإيرانيين بتقديم الدعم للأتراك والسعوديين أو إطلاق مبادرة للوساطة بين المحورين المتنافسين. لا تبدي بكين حماساً كبيراً للخيار الثاني، نتيجة قلقها من الدعم التركي للإيغور داخل الصين، والحزب التركستاني في محافظة ادلب. من جهة أخرى، لا يمكن لأي قوة كبرى أن تتبع سياسة حيال الشرق الأوسط، تغفل عن النفط. والصين مضطرة للاهتمام بأسعار النفط، من جهة، نتيجة تراجع نمو اقتصادها إلى مستوياتٍ غير مسبوقة منذ ربع قرن. ومن جهةٍ ثانية، لأنها تتطلع إلى إعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي.
ولأن أساس المصالح الصينية في المنطقة يقوم على تأمين النفط وطريق الحرير، فإن اهتمام بكين حيال الشرق الأوسط ينصب على ثلاث دول في المنطقة: إيران والسعودية ومصر. وهذا ما دفع الرئيس الصيني، تشي جيبينغ، إلى إجراء جولة شرق أوسطية، قادته إلى هذه الدول التي تحتكم على احتياطات كبيرة من الطاقة، وتتحكم أو تشرف على أهم الممرات العالمية (هرمز – باب المندب – قناة السويس). تعمد تشي، في جولته، تأكيد الصداقة التقليدية الصينية مع كل من الدول العربية وإيران، بينما قاطع أنقرة لإظهار استيائه من التصرفات التركية. ألمح هذا التصرف إلى أن الموقف الصيني في الشرق الأوسط يتركّز على ضرورة التهدئة بين العرب والإيرانيين، من دون الدخول في لعبة المحاور الإقليمية ومسارح صراعها في العراق وسورية. وعلى الأرجح، أن تتبع قوى أخرى الصين إلى الشرق الأوسط. فمع استعداد الصين لتعزير دورها الشرق الأوسطي ستنزلق الخلافات الصينية مع جوارها إلى الشرق الأوسط. على الأرجح أن تتبع كل من طوكيو ونيودلهي وجاكرتا وإسلام آباد بكين إلى مجاهل الهلال الخصيب.
إذن، تبلور تحالفان، يقتربان من المواجهة المباشرة على الأرض السورية. المحور الروسي الإيراني في مواجهة المحور التركي السعودي. مخاطر صراع المحورين الراهنة كبيرة، وستكبر بمرور الوقت. ستحتار أوروبا على أي طرف تراهن، أما الصين والولايات المتحدة فستراقبان هذا الصراع. لأن بكين حديثة العهد في الشرق الأوسط، ولما تؤسس مواقعها في المنطقة بعد، ستنتهج سياسة الحياد، وتؤدي دور الوسيط البناء. وبينما ستراقب الصين تحركات الولايات المتحدة، ستترصد القوى الكبرى الآسيوية (اليابان – الهند – باكستان) الاستراتيجية الصينية في الشرق الأوسط. مع إعادة تشكل المشهد في الشرق الأوسط، وبروز لوحة استراتيجية جديدة، ستتجه كل أنظار القوى إلى واشنطن وأوباما الذي من الخطير أن يبني بعضهم سياساتهم على افتراض أنه غدا "بطة عرجاء".
وصل مستشار المرشد الأعلى للثورة في إيران للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، إلى موسكو، أخيراً، في مهمة محددة: تحويل التنسيق العسكري بين محور إيران وروسيا في سورية إلى تحالف شامل بينهما على مستوى الشرق الأوسط. حالف المسؤول الإيراني الرفيع شيء من النجاح في مسعاه. بعد أشهر من الغموض حيال تعاونهما على المسرح السوري، توصل المرشد علي خامنئي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تحقيق نقلة في علاقاتهما. ترتبط هذه النقلة بالمصالح الروسية والإيرانية على كامل مساحة الشرق الأوسط.
تعتقد طهران أنها تواجه تحدياً هائلاً فيما يتعلق بالمحافظة على نفوذها في الهلال الخصيب، وبالقلب منه العراق. لا ينبع هذا التحدّي من الثورة السورية فقط، بل من العودة الأميركية إلى بغداد وخطط واشنطن لعراق ما بعد داعش. في صلب المخاوف الإيرانية القلق من فرض أميركي إقليماً سنياً داخل العراق في مقابل دعم الدول العربية والعشائر لإنهاء دولة داعش في غرب البلاد. يتكامل هذا السيناريو مع المساعي الحثيثة التي تبذلها واشنطن، للانقضاض على مدينة الرقة، بمطية كردية أو عشائرية (لا فرق، كلا الخيارين سيئان بالنسبة لإيران)، وتأسيس وجود أميركي في شرق سورية (مطار الرميلان – سد تشرين - عين العرب). تجاهد طهران كي لا تثير حفيظة الروس الذين يغضون الطرف عن تمدد "الشيطان الأكبر" داخل الحسكة وشرق حلب. تعتقد إيران أنها بحاجة إلى حليفٍ تستند إليه، وسط الفوضى الهائلة التي تشهدها المنطقة، روسيا. لدى طهران وموسكو، نقاط مشتركة كثيرة، على الأقل حيال الطاقة ومنافستيهما الإقليميتين؛ تركيا والسعودية.
في المقابل، تتركّز الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط على الإمساك بالورقة السورية. لا ينبع ذلك من حجم المصالح الروسية التاريخية في سورية، شرق المتوسط والمياه الدافئة فحسب، بل أيضاً لأن لموسكو استراتيجيات خاصة بآسيا الوسطى، لا تتحقق من دون ضبط الهلال الخصيب، من جهة، ولأنها من جهة أخرى، في غاية الاهتمام بسوق الطاقة العالمي. بالنسبة لروسيا، يمتلك هذا البلد الواقع على الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط مفتاح السيطرة على عُقد أنابيب النفط والغاز في شرق المتوسط، وله تأثير على مصير البلدان النفطية الإقليمية. لن يتخلى الكرملين عن السيطرة على سورية، لأن التحكم بجغرافية هذه الدولة سيمكنه من ابتزاز دول الخليج وتركيا وإيران، على صعيد أسعار الطاقة، وطرق نقلها. على صعيد آخر، تكافح موسكو، ومعها أنظمة دول آسيا الوسطى، ومنذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، الغول ذي الرأسين الإسلامي - الطوراني.
يعتقد الكرملين أن استقرار النفوذ الروسي في شقيقات روسيا المسلمات متوقف على قهر هذا الغول ثنائي الرأس، ومنع تغلغل النفوذين، الأميركي أو الصيني، في وسط آسيا. لذلك، تنظر موسكو بقلق إلى كل من يرفع رايتي الإسلام والقومية التركية. باختصار، السعودية وتركيا. والدولة الأخيرة أكثر إقلاقاً لموسكو، لأنها ترفع الرايتين معاً. يعتقد الكرملين أن توسع النفوذين، التركي والسعودي، في الشرق الأوسط، وتحقيق أنقرة والرياض تطلعاتهما وطموحاتهما في الهلال الخصيب، سيكون له تداعيات خطيرة على الوضع الراهن في آسيا الوسطى. يفضل بوتين أن يكافح السعودية وتركيا في الشرق الأوسط، على أن يكافح لاحتواء نفوذيهما في وسط آسيا، ومن ورائهما واشنطن. والأداة الأشد فعالية في هذا الصدد، هي، إيران. والمسرح هو، سورية.
لا يعني اقتراب الرهبر (الزعيم) الإيراني من اجتراح حلف مع القيصر الروسي، أنهما نجحا في تجاوز نقاط الاختلاف بينهما في سورية، وهي كثيرة، أهمها: مستقبل النفوذ الإيراني في سورية، وبضمنه دور المستشارين الإيرانيين ومليشيات الدفاع الوطني وحزب الله والمليشيات الأفغانية، العلاقة مع أكراد سورية، التنسيق مع إسرائيل والأردن، خطوط نقل النفط والغاز الإيراني عبر العراق وسورية. وأخيراً، انتخابات الرئاسة اللبنانية ومستقبل لبنان الذي تبدي روسيا اهتماماً أكيداً به. في المحصلة، مهدت نقاط الاتفاق لتشكيل الحلف الإيراني الروسي الذي سيتماسك، على الأقل في العام 2016. يشكل هذا العام، مفصلاً حقيقياً بالنسبة للعاصمتين. فمع دخول الولايات المتحدة موسم الانتخابات الرئاسية، وتضاؤل قدرة الإدارة الأميركية على التعامل مع التحديات الخارجية، تعتزم روسيا وإيران استغلال الفرصة السانحة، من أجل فرض وقائع جديدة في الشرق الأوسط على الرئيس باراك أوباما يقرها، وإلا لمفاوضة الرئيس الأميركي المقبل من موقع أقوى، أو للاستناد عليه في أي مواجهة مع سيد البيت الأبيض الجديد.
استغنت واشنطن، وهي تتحرك، أخيراً، لتسوية الأزمة السورية عن أي أوراق. في العمق، لا اهتمام أميركياً بسورية. الولايات المتحدة تريد استمرار هيمنتها الاستراتيجية العالمية، أو سطوتها على تفاعلات الشرق الأوسط. سورية ليست على الرادار الأميركي بشأن المسألة الأولى، وقد يكون لها تأثير ما على الثانية. بأية حال، بالإمكان أميركياً ترك هذا البلد العربي تحت رحمة صراع الروس والإيرانيين والأوروبيين والسعوديين والأتراك، لأن الأولوية لقتال "داعش".
على الرغم من أن باراك أوباما لا يبدي أدنى اهتمام بمصير السوريين الذين تخطط موسكو وطهران لإعادتهم إلى حظيرة النظام، إلا أنه أظهر، أخيراً، رغبة حقيقية في دحر داعش من شرق سورية. خطط الإدارة للانقضاض على معقل التنظيم في الرقة لم تعد سراً، والتحضيرات، في هذا الصدد، لا تزال تتسارع. تريد واشنطن من تدمير معقل داعش السوري إضعافه في العراق بتقليص قدرته على المناورة بين حدود "سايكس بيكو"، قبل إطلاق الهجوم الكبير على مدينة الموصل العراقية، المرجح نهاية عهد أوباما. إذا سارت الأمور وفق الخطط، سيسقط الشرق السوري والغرب العراقي في أيدي العم سام المنتصر على داعش.
من زاوية التنافس الدولي، تشعر واشنطن بقلق من خطط بوتين في شرق المتوسط وتأثيراتها على حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنها، تؤكد أن روسيا لم تعد خطرة كما كانت أيام الحرب الباردة، لتراجعها على سلم القوة العالمية، وصعود جارتها الرهيبة، الصين. بخلاف بكين والعواصم الخليجية، تتفق واشنطن مع موسكو وطهران على أن السعر العالمي للنفط منخفض بشكل غير مقبول. غايتان، ستدفعان الولايات المتحدة إلى الترحيب بصعود أسعار النفط. الأولى، زيادة حدة المأزق الاقتصادي في الصين. وتتمثل الثانية في إنعاش صناعة النفط الصخري الأميركية التي تعرّضت لانتكاسة بعد انهيار أسعار النفط.
هكذا، يتكامل الالتباس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران وروسيا في الشرق الأوسط. تريد واشنطن الشرق السوري، كي تضمن موقعها الجديد في العراق، لكنها موافقة على ترك ممر لإيران عبر محافظة حمص، يقطع مدينة تدمر إلى لبنان، وانتشار الروس في القامشلي، لزيادة الرقابة على الأتراك. الإدارة الأميركية قلقة من الانتشار العسكري الروسي في شرق المتوسط، لكنها أكثر اهتماماً بالمشهد الاستراتيجي المتشكل في الشرق الأقصى والمحيط الهادئ. واشنطن تدعم خططاً لمرور النفط والغاز عبر الشرق والغرب، تطوّق روسيا، لكنها تتفق مع هذه الأخيرة على ضرورة تحريك سعر النفط العالمي.
ريثما يتضح هذا الالتباس، تحرّكت السعودية وتركيا لتأليف محور استراتيجي في مواجهة التحالف الروسي الإيراني. لا تريد أنقرة والرياض أكثر من التنسيق مع واشنطن. قرّرت هاتان العاصمتان الاستفادة من الغموض الأميركي، من أجل دفع إدارة أوباما إلى تأييدهما، في الخطوات التي تعتزمان القيام بها، من أجل تصحيح موازين القوى الإقليمية، والتي بالضرورة مسرحها سورية.
تدرك السعودية أنه سيكون لانتصار المحور الإيراني الروسي تداعيات لا تحصى على أمنها القومي. ستكون هذه التداعيات كارثيةً على الأقل، فيما يتعلق بنفوذ السعودية في الخليج، ووحدتها الوطنية، ودورها في سوق النفط العالمي. ستتحكم إيران من خلال سيطرتها على العراق، بمنظمة أوبك. وبذلك، يمكن لإيران وروسيا أن تتحكما من خارج "أوبك" بالسعر العالمي للنفط.
سيُفقد انتصار المحور الإيراني الروسي في سورية أنقرة أي نفوذ في المنطقة. سيعزلها عن شؤون الهلال الخصيب. سيعيد تأسيس معادلة "سايكس بيكو"، ولكن بمخاطر أكبر. سيحل عدو تركيا اللدود، روسيا في سورية، ومنافستها التاريخية، إيران، كلاً من العراق وسورية. سيترك الروس والإيرانيون للأتراك تقليع شوك الأكراد واللاجئين. وربما خططوا لابتزاز تركيا، انطلاقاً من الحدود السورية التركية الشاسعة التي يباهي الأتراك بأنها تمتد إلى أكثر من 900 كيلو متر.
تبدي أوروبا إشاراتٍ على اهتمامها بالجانب الإنساني والأمني للأزمة السورية فقط. وهي تهتم بمجريات الأمور في سورية. ولكن، من زاوية اللاجئين وعودة المقاتلين الأجانب من سورية والعراق إلى القارة العجوز عبر تركيا. إلى الآن، لم تبلور أوروبا أي استراتيجية واضحة حيال احتمال سيطرة روسيا وإيران على سورية، على الرغم من التداعيات الخطيرة على الأمن الأوروبي. وبالأخص، زيادة سيطرة روسيا على ممرات الطاقة إلى أوروبا. لن تقدم أوروبا أو أي دولة أوروبية على اجتراح استراتيجية مجابهة في سورية، من دون العون الأميركي.
وبينما أوروبا مرتبكة، والولايات المتحدة غير مهتمة، وروسيا متحفزة، أطلقت الصين سياسة جديدة حيال الشرق الأوسط. ترى بكين أن القوى الكبرى والإقليمية تتنافس لملء الفراغ في الشرق الأوسط، والذي خلفه قرار واشنطن مراجعة موقفها في المنطقة، لا سيما الهلال الخصيب. أمام الصين ثلاثة خيارات لتأسيس مواقعها الشرق الأوسطية: دعم روسيا وإيران في جهودهما لملء الفراغ الأميركي، أو موازنة الروس والإيرانيين بتقديم الدعم للأتراك والسعوديين أو إطلاق مبادرة للوساطة بين المحورين المتنافسين. لا تبدي بكين حماساً كبيراً للخيار الثاني، نتيجة قلقها من الدعم التركي للإيغور داخل الصين، والحزب التركستاني في محافظة ادلب. من جهة أخرى، لا يمكن لأي قوة كبرى أن تتبع سياسة حيال الشرق الأوسط، تغفل عن النفط. والصين مضطرة للاهتمام بأسعار النفط، من جهة، نتيجة تراجع نمو اقتصادها إلى مستوياتٍ غير مسبوقة منذ ربع قرن. ومن جهةٍ ثانية، لأنها تتطلع إلى إعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي.
ولأن أساس المصالح الصينية في المنطقة يقوم على تأمين النفط وطريق الحرير، فإن اهتمام بكين حيال الشرق الأوسط ينصب على ثلاث دول في المنطقة: إيران والسعودية ومصر. وهذا ما دفع الرئيس الصيني، تشي جيبينغ، إلى إجراء جولة شرق أوسطية، قادته إلى هذه الدول التي تحتكم على احتياطات كبيرة من الطاقة، وتتحكم أو تشرف على أهم الممرات العالمية (هرمز – باب المندب – قناة السويس). تعمد تشي، في جولته، تأكيد الصداقة التقليدية الصينية مع كل من الدول العربية وإيران، بينما قاطع أنقرة لإظهار استيائه من التصرفات التركية. ألمح هذا التصرف إلى أن الموقف الصيني في الشرق الأوسط يتركّز على ضرورة التهدئة بين العرب والإيرانيين، من دون الدخول في لعبة المحاور الإقليمية ومسارح صراعها في العراق وسورية. وعلى الأرجح، أن تتبع قوى أخرى الصين إلى الشرق الأوسط. فمع استعداد الصين لتعزير دورها الشرق الأوسطي ستنزلق الخلافات الصينية مع جوارها إلى الشرق الأوسط. على الأرجح أن تتبع كل من طوكيو ونيودلهي وجاكرتا وإسلام آباد بكين إلى مجاهل الهلال الخصيب.
إذن، تبلور تحالفان، يقتربان من المواجهة المباشرة على الأرض السورية. المحور الروسي الإيراني في مواجهة المحور التركي السعودي. مخاطر صراع المحورين الراهنة كبيرة، وستكبر بمرور الوقت. ستحتار أوروبا على أي طرف تراهن، أما الصين والولايات المتحدة فستراقبان هذا الصراع. لأن بكين حديثة العهد في الشرق الأوسط، ولما تؤسس مواقعها في المنطقة بعد، ستنتهج سياسة الحياد، وتؤدي دور الوسيط البناء. وبينما ستراقب الصين تحركات الولايات المتحدة، ستترصد القوى الكبرى الآسيوية (اليابان – الهند – باكستان) الاستراتيجية الصينية في الشرق الأوسط. مع إعادة تشكل المشهد في الشرق الأوسط، وبروز لوحة استراتيجية جديدة، ستتجه كل أنظار القوى إلى واشنطن وأوباما الذي من الخطير أن يبني بعضهم سياساتهم على افتراض أنه غدا "بطة عرجاء".