تكشف الحرب الليبية المستعرة منذ تسع سنوات تناقضات الدول الغربية والعربية التي تتنافس دون حياء على موارد البلاد من النفط والغاز، بينما يقتل ويشرد ويفتقر المواطن الليبي تحت نيران المرتزقة والمليشيات المسلحة والقنابل التي تلقيها طائرات مجهولة ثم تهرب. وهنالك مخاطر حقيقية من المساعي المصرية لصب المزيد من الزيت على نار الحرب عبر تسليح القبائل الليبية وتدريبها من قبل الجيش المصري. فالحرب الأهلية حولت ليبيا حتى الآن إلى دولة فاشلة ومنعت أهلها من الاستفادة من موارد النفط والغاز، إذ باتت آبار النفط وموانئ التصدير المسرح الرئيسي في النزاع الليبي، ولا أعتقد أنّ البلاد تحتاج إلى مزيد من التصعيد.
آخر أخبار التصعيد ما أعلن عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال الأسبوع الماضي بالحصول على تفويض من "برلمان نعم للرئيس" يتيح له الزجّ بالجيش المصري في المواجهة المقبلة التي يعد لها الجنرال المتقاعد حفتر ومناصروه في الرياض وأبوظبي وباريس وموسكو في مدينة سرت. وتكمن أهمية مدينة سرت في أن من يكسبها سيؤمن تصدير النفط الليبي.
وفي حال حدوث مثل هذا الاحتمال، وهو مستبعد بعد التوجه نحو التسوية السلمية الأخيرة، فإن الأمل في تسوية الحرب الأهلية التي أعدت لها الأمم المتحدة مع الحكومة الشرعية في طرابلس ستذهب أدراج الرياح. وبالتالي يذهب معها أمل المواطن الليبي المغلوب على أمره في عودة الأمن والاستقرار والحلم بحياة سعيدة ينعم فيها بموارده الطبيعية.
ولكن اللافت في النزاع على النفط الليبي أنه يرسم ملامح "النظام العالمي" الجديد الذي يغيب فيه احترام الدول للمرجعيات الدولية من منظمات مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وحتى منظمات اقليمية كانت ذات قرار موحد تتدخل لصالح الشرعية، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "ناتو"، إذ إن كل دولة في هذه المنظمات باتت تتصرف على هواها ووفق ما يخدم مصالحها دون النظر لما يجمعها من حلف أو منظمة.
من التناقضات التي كشفتها الحرب في ليبيا على صعيد مجلس الأمن الدولي أنها كشفت أن دولاً أعضاء في مجلس الأمن الدولي أجازت دعم الشرعية الدولية الممثلة في حكومة طرابلس التي يقودها فايز السراج في طرابلس، باتت تدعم دون حياء الجنرال حفتر الذي يسعى لتقويض الشرعية الدولية.
ويلاحظ أن فرنسا وروسيا، وهما دولتان عضوان في مجلس الأمن الدولي الذي أقر دعم الحكومة الشرعية في ليبيا، ونص على أن شركة النفط الوطنية الليبية هي الجهة الوحيدة التي لها الحق في التصرف بالنفط الليبي وأقر عقوبات ضد من يتصرف في بيع أو استخراج النفط الليبي، تدعمان حفتر. فروسيا ترسل مليشيات من فاغنر وسورية لتحارب إلى جانب حفتر لاغتيال الحكومة الشرعية في طرابلس.
وربما تكون موسكو غير مهتمة كثيراً بالشرعية الدولية وكل ما يهمها هو مصالحها في أفريقيا التي تعمل على توسيع نفوذها فيها إلى جانب الحكومة الصينية ضمن الصراع على موارد العالم مع الدول الغربية.
ولكن الغريب أن دولة مثل فرنسا لعبت دوراً رئيسياً في إسقاط الدكتاتور معمر القذافي، أصبحت تدعم ديكتاتوراً جديداً، هو الجنرال حفتر، ضد الحكومة الشرعية، التي يقودها فايز السراج في طرابلس، على أمل أن تمهد الطريق أمام شركة توتال للسيطرة على حقول النفط الليبي، لأن الحكومة الدكتاتورية من السهولة السيطرة على قراراتها. وفرنسا تبتذل بذلك قرارات مجلس الأمن الدولي الذي تعد واحدة من أهم دوله وكان يجب أن تحترم قراراته الداعمة للحكومة الشرعية.
أما التناقض الثاني الذي أبرزته الحرب الليبية عدم وجود قرار موحد داخل حلف الناتو، إذ بينما تدعم بريطانيا وإيطاليا وتركيا الحكومة الشرعية التي يقودها السراج، تدعم كل من اليونان وفرنسا الجنرال حفتر. وهذه الخمس دول أعضاء في حلف دفاعي واحد، هو حلف شمال الأطلسي "ناتو" الذي يفترض فيه أن يكون له قرار موحد وملزم للدول الأعضاء فيه، ولكن يبدو أن العالم فقد البوصلة التي توجه السياسات الدولية وأصبحت كل دولة تتحرك وفق مصالح النفط. فباريس ترغب في أخذ العقود النفطية من شركة أيني الإيطالية، وهي من أكبر المستخرجين للنفط الليبي، وتحويلها إلى شركة توتال الفرنسية.
أما أميركا العضو الأكبر في حلف الناتو، فهي ظاهراً تناصر الحكومة الشرعية، لكن الرئيس دونالد ترامب كال المديح للجنرال حفتر في مكالمة هاتفية العام الماضي.
أما التناقض الثالث الذي أبرزته الحرب الليبية، فظهر داخل الكتلة الأوروبية التي يفترض أن تكون لها سياسة خارجية ودفاعية موحدة، ولكن الحرب الليبية أثبتت أن كل دولة تتصرف وفقاً لمصالحها النفطية دون النظر لسياسات المنظمة التي تنتمي إليها.
وربما تكون ألمانيا، الدولة الأوروبية الوحيدة التي تنظر إلى المخاطر التي تسببها "ليبيا الدولة الفاشلة" على الاتحاد الأوروبي، إذ إن ليبيا ستصبح أكبر ممر للهجرات غير الشرعية للأفارقة الهاربين من الفقر والجوع عبر قوارب الموت إلى شواطئ إيطاليا واليونان القريبة من الساحل الليبي.
وكانت المفوضية الأوروبية قد دفعت أموالاً لحرس الحدود في ليبيا ولكن هذه الأموال سرعان ما صبت في جيوب أمراء الحرب والمليشيات التي باتت تسترزق من جهتين، من جهة الأتاوات التي تفرضها على المهاجرين ومن جهة الأموال التي تدفعها بروكسل.
على الصعيد العربي أثبتت الحرب الليبية ضعف التحالف السعودي والإماراتي والمصري في التأثير على مسار السياسة بالدول العربية، إذ فشلت هذ الدول في ليبيا رغم ما ضخته من أموال وأسلحة لدعم الجنرال المتقاعد حفتر في ترجيح كفة الحرب لصالح الجنرال حفتر.
ولا يدري أحد حتى الآن ما هي المصالح الحقيقية التي تجنيها حكومتا أبوظبي والرياض من مناصرة حفتر. وربما يكون الجنرال عبد الفتاح السيسي طامعاً في النفط الليبي ولكن ما هي المصالح التي تقود أبوظبي والرياض لدعمه، فالدولتان غنيتان بالنفط.